الجزء الثاني عشر والأخير
" درتها يا سي يحياوي "
(الرئيس بومدين لمحمد الصالح يحياوي عام 1978).
في حدود الساعة التاسعة ليلا، غادر الرئيس بومدين مقر المجلس الشعبي الوطني، رفقة الأمين العام لرئاسة الجمهورية، وسط جو ثقيل جدا، لم يتفوه الرئيس بكلمة واحدة، خلال طول الطريق الفاصل بين مقر المجلس الشعبي الوطني ومقر رئاسة الجمهورية، التي عاد إليها بسبب موعد لم يكن بالإمكان تأجيله.
عند ولوجهما للمكتب الرئاسي، كسر عبد المجيد علاهم ذلك الصمت المطبق ليطرح سؤالا مباشرا على الرئيس:
سيادة الرئيس بعد هذا الكم الهائل من الفوضى التي تسبب فيها الثلاثي (رضا مالك، عبد اللطيف رجال، ومصطفى لشرف)، ألا ترى أنه من الواجب أن تُنهي هذه القضية عند هذا الحد؟
سكت الرئيس بومدين مدة من الزمن أحرجت محاوره وأشعرته أنه قد تجاوز حدود الأدب مع رأس الدولة، ليبدد الرئيس ذلك الجو الثقيل بقوله: وهل مالك، ورحال ولشرف هم فقط من تسببوا في فوضى عارمة؟ أنت تعلم أن المشاكل بدأت منذ الإعلان عن الحكومة الجديدة، فبوتفليقة مستاء لأنني سحبت منه بعض الملفات المهمة، وكلفت بها الدكتور طالب (1)، أحمد دراية بدوره حاول السطو على بعض صلاحيات وزارة الأشغال العمومية، ليوسع بها صلاحياته، وعندنا أيضا الخلاف الذي نشب بين طيبي العربي وأحمد بن شريف لنفس السبب السابق، دون أن أنسى محمد بن أحمد عبد الغني، الذي لم يُخف امتعاضه الشديد، حين كلفت الدكتور طالب بمراجعة حركة الولاة الأخيرة معه، دون أن ننسى وزير المجاهدين، الذي عرض علي كوارث وزارته، فإن كان لابد من إقالة الثلاثي مالك، رحال، ولشرف، فمن باب الانصاف يجب إقالة الحكومة كلها بسبب عدم تجانسها، وعجزها عن الوصول للأهداف التي سطرتها لها خلال اجتماعها الأول في شهر مايو 1977 (2).
واصل الرئيس بومدين كلامه كأنه يريد التخلص من أمور كثيرة كانت واجمة على قلبه ليقول: .... الذي أنا متأكد منه أن هذه الحكومة، ستكون أقصر حكوماتي عمرا، ولن يتجاوز عمرها تاريخ مؤتمر الحزب، الذي سيكون محطة فاصلة، ستولد خلاله قيادة سياسية جديدة قوية ومتجانسة، تستمد قوتها من الشرعية الشعبية المتمثلة القاعدة النضالية لجبهة التحرير الوطني والمنظمات الجماهيرية التابعة لها... نعم يمكنني إقالة الثلاثي بل يمكنني إقالة الحكومة كاملة، لكن كيف سيفسر أعداء الجزائر تصرفا كهذا؟ كيف لي أن أبدأ في إقالة وزراء لم يمض على تعيينهم أكثر من سنة؟ لا أريد أن أمنح الأعداء إمكانية الطعن في متانة وصلابة ووحدة القيادة السياسية للبلاد، لأنني أعي جيدا أن قوة أي نظام تكمن في قوة مؤسساته، لذلك سأنتظر انعقاد مؤتمر الحزب، وعندها سأغير كل شيء، دون منح أعداء الجزائر إمكانية الطعن فينا، لأن المؤتمر سيد وأي تغيير خلاله سيكون طبيعيا بل وشرعيا.
في تلك الأثناء وصل إسماعيل حمداني الأمين العام للحكومة، رفقة المحامي قدور ساطور (3) للقاء الرئيس بومدين.
كان الرئيس بومدين يسعى منذ توليه الحكم عام 1965، لاستعادة أموال جبهة التحرير الوطني الموجودة في سويسرا، فقد كان يعتبر تلك الأموال حقا من الحقوق المالية للجمهورية الجزائرية، التي نُهبت واستعملت في ضرب النظام في أكثر من مناسبة، كما كان يعتبر بقاءها في يد ورثة "محمد خيضر" تصرفا غير مقبول، لأن تلك الأموال في حقيقة الأمر أرصدة أعادتها فدرالية فرنسا لجبهة التحرير، قبل حل الفدرالية وتحويلها للودادية الجزائرية في فرنسا، إلا أن محمد خيضر، رفض إعادتها للدولة الجزائرية بعد استقالته من الأمانة العامة لحزب جبهة التحرير الوطني، واستعملها في تمويل حركات معارضة للنظام (4).
أثناء اللقاء، قدم الأستاذ قدور ساطور للرئيس بومدين ملخصا لآخر المستجدات، وأبلغه أن القضية أصبحت قضية وقت فقط، قبل أن تستعيد الجزائر أموال جبهة التحرير الوطني، خصوصا بعد أن قررت محكمة جنيف متابعة الرئيس المدير العام للبنك التجاري العربي (5) بتهمة خيانة الثقة، وكذلك بعد أن قبلت أرملة محمد خيضر التفاوض مع الحكومة الجزائرية لحل تلك المشكلة وديا (6).
في اليوم الموالي لتلك الأحداث، استقبل الرئيس بومدين بمقر رئاسة الجمهورية، المنسق الوطني للحزب العقيد محمد الصالح يحياوي الذي طلب لقاء الرئيس للتباحث معه في القضايا التنظيمية المرتبطة بعقد مؤتمر الحزب، ومن باب المزاح بادر الرئيس بومدين ضيفه (يحياوي) قائلا: درتها يا سي يحياوي وضحك.
رد يحياوي مبتسما: لم أفهم قصدك سيادة الرئيس ḷḷḷ
ثم أضاف (يحياوي): ربما تقصد ما حدث ليلية أمس في المجلس الشعبي الوطني؟
فرد الرئيس بومدين: بالضبط.
تبسم العقيد يحياوي ثم أضاف: سيادة الرئيس، ما حدث ليلة أمس في المجلس الشعبي الوطني، مسألة تدعوا للفخر، فمستوى النقاش كان عال جدا، ولم يسبق لرئيس عربي ولا حتى إسلامي أن يجلس مع نواب شعبه، ليناقشوه في قضايا تسيير الشأن الحكومي، مما يعني ان حركة 19 جوان قد أثمرت وجاءت بديمقراطية غير موجودة عند سوانا من دول العالم الثالث...... اما قضية المجازر التي ارتكبها وزير التربية في وزارته، فقد طويت نهائيا، ولا أضن ان يرتكب أي وزير مستقبلا أي خطأ مخافة أن يجد نفسه في نفس الموقف التي وقفه وزير التربية، وهذا أيضا شيء ممتاز لأن المجلس الشعبي الوطني مارس حقه في متابعة و مسائلة الحكومة، دون ان يتجاوز حده أو تطئ أقدامه حدود صلاحيات الرئيس (7).
إلا هنا أغلق الرئيس بومدين، ملف حكومته الأخيرة، على أن يعيد تشكيل حكومة جديدة من الكفاءات والشباب، بعد مؤتمر الحزب الذي كان مقررا أن يجتمع خلال الثلاثي الأول من عام 1979، إلا أن المنية وافته قبل أن يتمكن من إدخال التغييرات التي أرادها على الجهاز التنفيذي في البلاد.
الهوامش:
1- سحب الرئيس بومدين من وزير خارجيته أربع ملفات كلف بها وزيره المستشار الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وهي: ملف الصحراء الغربية، ملف الجامعة العربية، وكذلك مهمة تمثيل الجزائر في كثير من الندوات والمؤتمرات الدولية.
2- مصادر خاصة.
3- الأستاذ قدور ساطور: من مواليد 14 أبريل 1911 بالجزائر العاصمة، تخرج من معهد الحقوق عام 1933 وفتح مكتب محاماة في العاصمة، التحق بثورة التحرير الوطني، وأسس شبكة محامي جبهة التحرير الوطني، ترأس لجنة تنظيم استفتاء تقرير المصير، وعمل مستشار قانونيا لدى الهيئة التنفيذية ببومرداس. بعد الاستقلال ترأس منظمة المحامين من 1963 إلى 1967، وعمل لدى وزارة العدل كمكلف بملفات ثقيلة، منها متابعته لملف استعادة أموال جبهة التحرير الوطني، التي استطاع استعادتها لصالح الدولة الجزائرية، توفي عام 1997.
4- يوجد معلومات مؤكدة لدى مصالح الأمن العسكري مفادها ان خيضر قدم مبلغ مليوني فرنك فرنسي لبوضياف و آيت احمد، كدعم لحزب الثورة الاشتراكية وجبهة القوى الاشتراكية، كما قدم دعم مالي لكريم بلقاسم في حدود 200 ألف فرنك فرنسي.
5- البنك التجاري العربي: مؤسسة مصرفية مقرها في سويسرا صارت ملكا لمحمد خيضر بعد أن قام بشراء أسهمها المقدرة بعشرين ألف سهم، وصب في حسابها كل أموال جبهة التحرير الوطني التي كانت بحوزته في حسابات أخرى والمقدرة بين 40 إلى 43 مليون فرنك سويسري أي حوالي 20 إلى 25 مليون دولار.
6- راجع الصحف المرفقة.
7- مصدر خاص.
المراجع والكتب:
1- كتاب "أنا وهو وهم" للدكتور محيي الدين عميمور.
2- كتاب "الفرص الضائعة" للدكتور محيي الدين عميمور.
3- كتاب "أيام مع الرئيس بومدين" للدكتور محيي الدين عميمور.
4- كتاب "التاريخ السياسي للجزائر من 1962 إلى يومنا هذا" للدكتور عمار بوحوش.
5- كتاب "مذكرات جزائري" للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الجزء الثاني.
6- كتاب "الجزائر وفرنسا 50 سنة من التاريخ" الجزء الأول.
7- كتاب "السياسة الخارجية الجزائرية من 1962 إلى 1978".
8- كتاب "الصدفة والتاريخ" الجزء الثاني.