الثلاثاء، 16 أبريل 2024

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس



ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس: 

الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التيار ابن باديس لانه في نظرهم  بنى نظرته للهوية الجزائرية علي اللغة العربية والاسلام فقط, وغالبا ما يستحضر بيته  الشعري ( شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب) كحجة  للتأكيد علي أن ابن باديس ألغى البعد الأمازيغي من الهوية الجزائرية.
 يسقط هذا التيار صراعات اليوم حول الهوية على سياق الاربعينات من القرن الماضي.

حين قال ابن باديس ذلك البيت الشعري, فإنه يضع العروبة والاسلام مقابل اللغة الفرنسية والمسيحية( المسيحية ليس كديانة, بل كهوية فرنسية استعمارية), وليس كخصم للأمازيغية.., ثم ان السياق الذي قال فيه ذلك, لم يكن الموضوع الأمازيغي مطروحا بعد, وكان الامازيغ اصلا يعرفون انفسهم على  أنهم مسلمون جزائريون بثقافة عربية امازيغية, أو أن الوعي بموضوع الهوية الامازيغية لم يكن موجودا أصلا ...كما أن  رفضهم لقانون  للظهير البربري ( 1931) في المغرب دليل على تمسكهم بالهوية الاسلامية العربية ورفض اعادة تعريفهم بشكل يفصلهم عن العروبة والاسلام

ميز ابن باديس بين الجنسية السياسية والجنسية الوطنية, كما أنه رحب بإلغاء الخلافة من قبل كمال اتاتورك...كان ابن باديس علمانيا بالفهموم الحديث للكلمة, و اكثر انفتاحا من لائكيي اليوم, وسمح له تمييزه بين الجنسية السياسية والجنسية القومية  للتأسيس لامكانية تعايش ديانات مختلفة داخل الدولة الواحدة ( بالطبع لم يكن ذلك ممكنا لأن فرنسا في الجزائر كان نظاما استعماريا وليست دولة, وهذا ما أدى الي إلتحاق الجمعية بالاستقلاليين بطلب من عبان رمضان)

اما التيار الثاني, فموقفه السلبي من ابن باديس مرتبط بموقف جمعية العلماء من الاستعمار.جزء كبير من هذا التيار يتشكل من التيار الأول, وجزء آخر, يحمل قناعات ايديدلوجية تصطدم مع التيار الاسلاموي, ويؤمن بالتعدد وحرية الاختلاف....

يعتقد هذا التيار ان أداء الجمعية خلال مسار الحركة الوطنية كان سلبيا , وهذا بسبب "الموقف المهادن" من الاستعمار كما يقولون. لايتردد البعض في سل افتتاحية البصائر  كل مرة لإدانة الجمعية ورميها بتهمة الخيانة...

هنا أيضا يجب أن نؤكد أن جمعية العلماء كان موقفها متدرج من الاستعمار, وفضلت أن  تأتي الى الاستقلال عبر المطالب الثقافية الهوياتية, تماما مثلما فعل الاصلاحيين,( udma فرحات عباس,) الذين وصل بهم الطريق الي الانخراط في الجبهة  من خلال المطالبة بإلغاء القوانين الاستثنائية في حق الحزائريين. 

في الحقيقة, سواءا أتينا عبر طريق المطالب الهوياتية, أو طريق المطالب السياسية, فسينتهي الأمر الي الاصطدام بالمنطق الاستعماري الرافض للمساواة السياسية وللحقوق الهوياتية, وهذا هو منطق الاستعمار بحكم تعريفه. إنه قائم علي اللامساواة وعلى التمييز الهوياتي( الأبارتهايد).

بالاضافة.الى  أن الجمعية ساهمت في تعليم الجزائريين , فهي أيضا انتهى بها الأمر الى الالتحاق بالاستقلاليين بشكل رسمي  سنة 1956( بطاب من عبان رمضان), وهذا تطور طبيعي لكل مناضل نزيه, بغض النظر عن الوسائل والطريق التي يسلكها.

لا يمكن للجزائريين ان يكونوا بنفس مستوي الوعي الثوري, ولا بنفس التصور لوسائل الكفاح, ولا نفس التصور لمستقبل الدولة. 

العمال والكادحون لم يكن لهم ما يخسرونه, ومنذ البداية شكلوا قاعدة ثورية لحزب الشعب. 
الطبقة الوسطى المتعلمة في المدارس الفرنسية كانت تعتقد أنه بإمكان الانطلاق من المطالبة بالمساواة السياسية, وحين خاب ضنها بعد بلوم فيولت , ثم مجازر 8 ماي , بدأت تلتحق بالراديكاليين في حزب الشعب. 

الثقافيون, بطبعهم يميلون الى الهدوء والنصح و الارشاد والدعوة والتركيز علي القيم والدين والهوية, واستثمروا في التعليم والارشاد الديني, وكانوا في الحقيقة امتدادا للحركة الاصلاحية العربية...انطلقوا من موضوع الهوية وانتهى بهم الأمر في حضن الراديكاليين, لانهم ادركوا أن لكل أمة سياسية هوية قومية خاصة بها, وأن فرنسا اليعقوبية لن تتنازل للجزائريين عن حقوق هوياتية قد تتطور الي المطالبة بحقوق سياسية قومية. 

مشكلة ابن باديس, ان العروبيين والاسلامويين هم استغلوه بصورة بشعة لاقصاء الابعاد الامازيغية من الهوية الوطنية بعد الاستقلال, وهم من يتحمل مسؤولية ذلك, وابن باديس بريئ منهم.

أما البربريست المتطرفون, , فهم أيضا انطلقوا من المطالب الهوياتية كطريق للنضال السياسي بعد الاستقلال , وانتهى الامر ببعضهم إلى المطالبة بالانفصال , والدولة الوطنية تصدت لهم, تماما مثلما فعلت فرنسا مع مطالب ابن باديس الهوياتية, مع التأكيد علي  الفرق بين فرنسا الاستعمارية التي كانت تريد الحفاظ علي الهيمنة الاستعمارية  وموقف الدولة الوطنية من الانفصاليين الذي كان يهدف الي الحفاظ على الوحدة الوطنية.

التنوع في  أساليب النضال خلال الحركة الوطنية يعكس التنوع السوسيولوجي في المجتمع, وكل ساهم انطلاقا من وضعه الاجتماعي ووعيه المنبثق منه في استعادة الاستقلال وتأسيس الدولة الجزائرية. 

الخونة معروفون, وهم أولئك الذين رفعوا السلاح في وجه جبهة التحرير الوطني, وفي وجه الجزائريين خلال حرب التحرير, وبقوا على موقفهم الي غاية نهاية الثورة. 

أما من كانت لهم تصورات مختلفة, ثم تطورت لتذوب في جبهة التحرير فهم كلهم أبطال, ورموز للأمة الجزائرية, نفتخر بهم ويشكلون مرجعية لهويتنا وتاريخنا ودولتنا الفتية.

السبت، 6 أبريل 2024

بين هيجل وابن خلدون ... بقلم .. عماد الدين زناف

بين هيجل وبن خلدون؛
معنى التاريخ، في الفلسفة الهيجيلية والخلدونية! 

عندما نقرأ التاريخ من مصادره المتعددة، نكتشف شيئاً فشيء بأن للتاريخ حركتين واضحتين، الأولى هي التغيّر، دون أن نحدّد إن كان ذلك تغيّراً جيّداً أو سيّئاً، ذلكَ أن التاريخ كعلم لا يخضع للنظرة الأخلاقيّة، ولا نقولبشكل قاطع بأن التغيّر هو نفسه التطوّر، إذ يعني ذلك أننا أخذنا انحيازاً في نظرتنا للتاريخ. ورغم أن التطوّر في ذاته لا يعني تطوّراً إيجابيا، لكن ومع ذلك، يُعتبر مصطلح التطوّر انحيازاً معرفياً يستبق قراءة التاريخ بعين الحياد. التأريخ عمليّة حسّاسة ومُعقّدة، كذلك النظرة إلى التاريخ تعتبر عملية صعبة ومُعقّدة، وأعقد ما فيها أن يتجرّد الدارس من كل عواطفه ليتقبّل الحقائق بعدَ جمعِ المصادر.  بالنسبة للفيلسوف الألماني هيجل، التاريخ خاضع لتسلسل زمني، ولا يمكن بأيّ حال أن نحكم على تاريخٍ مُعيّن من منطلق تاريخ آخر بعده، في ظروف وإمكانيات أخرى، حيث يقول إن ذلك التحوّل والانتقال التصاعدي التاريخي يجب أت يبدأ من نقطة دُنيا ويتصاعد، فهذا هو السبيل الوحيد الذي يعطي للتاريخ معنى ووجهة ومُستقرّ، إذ لا يُفكّر الصّبي كالبالغ والكهل، والتفكير هُنا، ليس هو الذكاء والفطنة، إنّما التفكير على أسس التجارب، حيث يمكن للقوي أن يتحدّث عن مرض ما، لكنّه لم يخبَر ذلك المرض، والفرق بينهما واسع.    إن المنطق الكوني كلّه مبني على التصاعدؤ في صور النمو، من البذرة الدقيقة، إلى الشجرة الفارعة. لأن عيش الطفولة والمراهقة والشباب كاملةً جزءٌ لا يتجزّأ من البلوغ والرّشد، وأن الطفل الذي لم يعش المرحليّة سيعرف اضطراباً في زمن لاحق. 

إن فلسفة التاريخ قبل أن يتحدّث عنها هيجل بعين التطوّر المتأثّر "بالصبى والبلوغ التاريخي"، درسها ابنُ خلدون بشكل منطقي استقرائي قبل ذلك، ومن تلكَ القراءة، علمَ ابن خلدون أن نهاية التاريخ ستكُرّر بدايته، وقال بأنها حلقة مُغلقة، أي، الانطلاق من الأوقات الصعبة، التي تصنعُ رجالاً أشداء وحكماء، بدورهم يعيدون الحضارة إلى أوجها، ومن ثم يعم الرخاء، فيأتي الفساد ثم التقهقر، والذي بدوره يصنع الأوقات الصعبة، التي تصنعُ الأشداء والحكماء.. 

لكن لفريدريش هيجل نظرة أخرى، حيثُ يقول إن الحضارة لا تكفأ عن النمو والنضج، ومن ذكاء الفيلسوف أنه قال بأن ذلك النمو ليس هو الكمال، بل النمور الذي يأتي بعده أنضج، وهو منطق التاريخ في النضج المستمر، فإذا قلنا إننا نعيش أوقاتاً صعبة، فهيجل سيقول أن التاريخ لا يزال يتقدّم، وليس هي مرحلة السقوط، بل كله تقدم.

المُلك، أساس التاريخ؟
في زمن الحضارة البابلية والفرعونية، لم يكن من المعقول أن يتم الحديث عن الشورى والانتخابات، عن تصويت الشعب من أجل القرارات الهامة، فقد كان زمنا يتطلّب التملّك وفرض الأحكام، حتى أننا لاحظنا في القرآن أن الله عز وجل لم يطلب من موسى خلع الفرعون وتأسيس حكم شورى، بل أن يدعوه للإيمان به، أو أن يأخذ بني إسرائيل وأن يغادر مصر فحسب، لا خلع النظام الملكي.
 فأي عملية سياسية لتغيير نظام الحكم في ذلك الزمن،  لم تكن لتُفهم من الطرفين: الملك والعبد. 

الجمهوريات، مِحور تاريخي؟
تغيّر الحال عندما نقَلَ اليونانيون الفكر المصري إلى أرضهم، بحيث دمج الأسلوب المصري مع الفكر الجديد القائم على بناء الدولة المدينة، بنظام جمهوري شبه ملكي يُتيح للناس بعض الممثلين عنهم (برلماناً، بارل parle أي حديث) لينقلوا مشاغلهم، فقد انتقل الحال من الديكتاتورية إلى بوادر التواصل بين الحاكم والمحكوم.

حُكم الأقليات، تطوّر تاريخي؟ 
حكم المجموعات، ما يُسمى "أوليغارشيا" عرفَ تنقّلاً أيضا من مرحلة إلى أخرى، أي هناك عوائل تسيّر وتملك بلداً أو مملكةً، وقد تتيح الحكم لأشخاص آخرين هي تختارهم، بنظام التداول. 

الديموقراطية، قِمّة التاريخ؟
إذا مررنا مروراً مسحيا سريعا عن التاريخ، نرى بأن الديموقراطية هي آخر ما توصّل إليه الإنسان، فقد اتاحت هذه العملية الحرية المطلقة للإنسان في كل المجالات، من رأس النظام إلى آخر عامل.

ما بعد الديموقراطية، عودة إلى النظام الفرعوني أو تاريخ جديد؟ 
إذا ما نظرنا إلى التاريخ، سنشاهد أننا إمـا مع النظرة الخَلدونية للتاريخ، أي أن تُغلق الحلقة ونعود شيئاً فشيء لنفس المنطق البُنيوي التاريخي الذي ذكرته، أو، مع النظرة الهيجيلية للتاريخ، أي أن ننتظر بزوغ نجم نظام جديد، يتماشى وتطور المجتمعات وعقلياتهم.، نظام جديد أو هجين من كل تلك التي سبقته.

طبعا، الأنظمة السياسية متعددة، من البرلماني للرئاسي، للشبه رئاسي للملكي، لكن هناك دائما فلسفة سياسية تحكم الزمن. 

نقرأ يمينا وشمالاً أن في الماضي كان وكانَ، تي "قهر واستبداد وتعصّب وجهل" أو "طيبة ومحبة وعطف ونية وتآزر" ، سواءً كان سلباً أو إيجاباً، فنحن صرنا نعلم الآن أن "معنى التاريخ" قد شرح لنا بأن الأمور تنضج أو تتغير تصاعدياً، من النظرتين، الخلدونية والهيجلية، لكن مُستقرّ التاريخ، أين سينتهي، هو نقطة الاستفهام بينهما. 

وفي الأخير، تتفق الفلسفتان في أن الرجال هم من يقودون التاريخ، وأن التاريخ يعرف تحوّلاً بإرادة الرجال، فمن وجهة نظر هيجل، نابليون أعظم من كريستوف كولومبوس، ذلك أن الأول كان يعلم ما يريده، فقدّ سطّر التاريخ بنفسه، أما الثاني فقد ترك التاريخَ يختارُ له ما يُريد.   ولقد رأينا ان لابن خلدون نفس المفهوم، فالرجال هُم من يوقفون الأوقات الصعاب "بالقرار" وليس الانصياع للزمن والتاريخ والمجرى الواقعي، أي أن مُنعرج التاريخ يأتي إرادةً، فإذا أردت تغيير التاريخ، فغيّره، ذلكَ أن التاريخ لا يتغيّر لوحده، وأن معنى التاريخ لن يكون دون هؤلاء الذين كتبوا له معانٍ جديدة.

#عمادالدين_زناف   مقال.

الأربعاء، 3 أبريل 2024

التصويرية أو الملحد الجديد ... بقلم حسن سليم

التنويري أو الملحد الجديد هو الطفل الأوديبي (عقدة أوديب) الذي قتل أباه (الرب) ليخلو له المجال مع أمه (المسيحية)، يعتقد أن أباه لم يقدر أمه كما تستحق لهذا يستحق الموت، وسيفعل ذلك هو جيدا لو أزاحه، وقد صدق في هذا.
المسيحية بالنسبة للتنويري ليست مجرد دين كبقية الأديان، هي سلفه المشترك المباشر، ما يجعلها في نظره هي الدين الأكثر تحضرا ورقيا، وهي المعيار الذي تقاس عليه بقية الأديان لتعرف هل هي حقاً مجرد أديان أم تحمل إضافات أخرى غير دينية وغير مسيحية، فكل ما يتجاوز الحالة الروحية المسيحية فهو ليس ديناً.
نظرة التنويري للحياة كانت دائما مسيحية، وقيمه وتصوراته وأيديولوجياته المعاصرة كذلك، فهو لم يسقط صدفة من السماء على أرض مسيحية بل خرج من تربتها ولا يعرف مجالا آخر سواها فهو فيها مثل السمكة في البحر، وحتى عندما يبدو وكأنه يعاتب المسيحية فهو لا يعاتبها سوى على أنها ليست مسيحية بالقدر الكاف.

ودوكينز هنا لم يقل سوى الحقيقة، يقول أنه مسيحي غير مؤمن بل مسيحي ثقافة. لكن غير مؤمن بماذا؟ هو غير مؤمن بالله فقط، أما من حيث المسيحية فهو لا يقل عن آباء الكنيسة.

أما التنويري العربي فعقدة النقص لديه أمام المسيحية قديمة، فمنذ القرن 19 وهو يتحسر أن أمه لم تكن المسيحية ويحسد أبناءها عليها ويقسم أنها لو كانت أمه لأبرها أكثر منهم. التنويري العربي لم يستيقظ بعد من صدمة تعرفه على الغرب في القرن 19 ومشاعره ما تزال هناك دون تحديث، وما يزال يعتقد أنه من رقي الإنسان أن يكون مسيحيا لأن الأوروبي كان مسيحيا، وعندما يرى الأقليات المسيحية في بلاده يهرع إليهم والدموع تسبقه ليقول: أحبابي أحبابي يا ليتني كنت منكم. 
طبعا هو لا يقول هذا صراحة، لكن عيون العاشق تقول أكثر من لسانه، لهذا من الصعب أن تجد تنويري عربي مثل دوكينز يقول باعتزاز: أنا مسلم ثقافة، وإن قالها فستكون بنبرة: أنا للأسف مسلم ثقافة. لأن التنويري الأصلي تحركه عقدة أوديب أما النسخة المقلدة فهي مجرد عقدة نقص.
كتبه الأستاذ : حس سليم

الأحد، 31 مارس 2024

اغتيال كريم بلقاسم .. بقلم براء عبد الله

اغتيال كريم بلقاسم بين الحقيقة والأسطورة 

نشرت جريدة الشرق الأوسط، يوم الأربعاء 27 مارس 2024، مقالا مطولا نقلت فيه دراسة نشرتها مجلة (Jeune Afrique)، الناطقة بالفرنسية، حيث حللت بطريقة خبيثة جدا، عملية اغتيال المناضل الجزائري كريم بلقاسم (رحمه الله)، وألمحت بطريقة أكثر خبثا إلى أن الرئيس هواري بومدين رحمه الله، هو من أمر باغتياله، ونفذ العملية فريق من ثلاثة أشخاص، انتقلوا من الجزائر نحو سويسرا ثم ألمانيا، حيث أوهموا كريم بلقاسم أن بومدين يريد التفاوض معه، ثم اغتالوه خنقا بربطة عنقه. 
بعد قراءة وطباعة المقال المنشور في "الشرق الأوسط" اللندنية، انتقلت لموقع المجلة الفرنسية (Jeune Afrique)، لأطلع على الملف من مصدره الرئيسي، عسى وربما أجد فيه ما لم تنشره الجريدة، فوجدت أن المجلة الفرنسية اعتمدت على "تحقيق" قام بها الصحفي فريد عليلات، الذي كان قبل هذا التاريخ، مديرا لجريدة ليبارتي الناطقة باللغة الفرنسية، والذي له باع طويل و سلسلة من الملاحم مع السلطة، منها أنه حكم عليه عام 2005، بسنة سجن بتهمة القذف في حق رئيس الجمهورية (عبد العزيز بوتفليقة)، كما أنه صاحب كتاب "بوتفليقة الحكاية السرية"، الذي تطرق فيه لجوانب خاصة جدا من حياة الرئيس بوتفليقة، وصلت لحد القذف والتشهير بالرئيس الأسبق. إلى هنا، أغلقت الملف، لأنني كنت متأكد منذ الوهلة الأولى التي وصلني فيها خبر فتح جريدة الشرق الأوسط لملف اغتيال كريم بلقاسم، أن القضية لا تعدو على كونها مسألة تصفية حسابات، ومحاولة استباقية لضرب السلطة في صميمها، خصوصا وأننا بدأنا العد التنازلي، للدخول في الاستحقاق الرئاسي، ثلاثة أشهر قبل موعدها القانوني. 
من خلال النقاط الأولى سالفة الذكر، يمكنني أن أستنتج أن الصحفي الذي أجرى التحقيق، ما هو إلا معارض للنظام أو السلطة الحاكمة، وبالتالي لا يمكنه أن يكون محايدا أو موضوعيا في بحثه، لأنه لا يرمي للوصول إلى الحقيقة، وإنما يريد الوصول إلى دليل مادي يدين السلطة لا غير. أضيف إلى ذلك قرينة ثانية؛ هي أن هذا الصحفي من أشد المعارضين لبوتفليقة، وقد سبق وأن كُتِبَ أن بوتفليقة نفسه متورط في عملية اغتيال كريم بلقاسم، حين كان على رأس وزارة الخارجية، وهذه المعلومة سربتها جهات أمنية فرنسية، لنستنتج هنا أيضا، أن الهدف الثاني هو تلطيخ شخصية الرئيس بوتفليقة، واتهامه بالمشاركة في اغتيال زعيم ثوري جزائري كبير، وبطبيعة الحال أينما وجدنا المخابرات الفرنسية، وجدنا خلفها المخابرات الإسرائيلية والمغربية، والدليل هنا جاء به الصحفي صاحب التحقيق (فريد عليلات) الذي قال حسبما جاء في مقال جريدة الشرق الأوسط: إن الذين اغتالوا كريم بلقاسم دخلوا الأراضي الألمانية بجوازات سفر مغربية، مما يجعلنا نفتح قوسا، ونطرح سؤالا: لماذا يستعمل رجال المخابرات الجزائرية جوازات سفر مغربية؟ بينما بإمكانهم الدخول لألمانيا بجوازات سفر جزائرية عليها أسماء وهمية؟ أو بأي جوازات سفر لأخرى غير مغربية ؟ فذلك أكثر أمنا لرجال المخابرات الجزائريين. ثم نطرح سؤال ثانيا، وهو من المستفيد من اغتيال كريم بلقاسم؟ و لماذا اغتيل ولم يغتال الحسين آيت أحمد؟ ولماذا لم يغتال محمد بوضياف؟ ولماذا لم يغتال الطاهر الزبيري الذي كان حينها هو أيضا معارضا للنظام خارج الوطن؟ ما الفائدة من اغتيال كريم بلقاسم بينما كان رجال المخابرات الجزائرية و على رأسهم العقيد قاصدي مرباح ونائبه المقدم زرهوني، يضعان الخطط لحمايته بأمر من بومدين شخصيا؟ لماذا كلما حاول الرئيس بومدين التقرب من معارضيه في الخارج، قصد إقناعهم بالعودة لأرض الوطن، تخطفهم الموت فجأة وبدون سابق إنذار؟ وفي ظروف غير طبيعية؟ الحقيقة كاملة لا يملكها إلا من اطلعوا على كل هذه الحيثيات، وقد سبق أن تطرقت لهذا الموضوع عرضا، خلال حديثي عن ملف اغتيال الرئيس بومدين رحمه الله، وقلت إنني بحثت في الموضوع، وجمعت الكثير من المعطيات والمعلومات من مصادرها الأساسية، واستنتجت في الأخير أن كريم بلقاسم تعرض لعملية تصفية نظمها خصومه من خارج النظام، والرئيس بومدين رحمه الله وحتى بوتفليقة أبرياء من دمه، ودليلي هنا ما قاله قاصدي مرباح قبل اغتياله بمدة ليست بالقصيرة، حين أعلن، انه يستطيع أن يعطي أسماء الذين اغتالوا كريم بلقاسم ونشر ذلك على الصحف الوطنية حينها، فلو كانت المخابرات الجزائرية هي من قامت بالعملية، لما صرح قاصدي مرباح بما يدينه ويدين الجهاز الذي كان على رأسه، عند اغتيال كريم بلقاسم رحمهم الله جميعا.
سيكون لي وقفة طويلة جدا على هذا الملف متى أنهيت بعض الأجزاء من ملف الدكتور محيي الدين عميمور، و ملف اغتيال الرئيس بومدين.
حفظ الله الجزائر من كل سوء و لا هنئ الله أعين الخونة و العملاء .

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2021

الفكر الغربي من منظور العلمانية .. المفكر محمد المجذوب

.. المفكر السوداني محمد المجذوب ....

_____________________________________________


يلاحظ أن الفكر الغربي ومن منظور العلمانية، قد تشكل وفق قاعدة أو مبدأ يقول بأن الإنسان المادي هو مركز الكون ولذلك فانه مقياس الأشياء كلها، في سياق من هيمنة عصر الشك الشامل، فكان الفكر الغربي فكر يسعى في اتجاه تحطيم ونسف كل القديم، تقويض فكرة الله، الذات، العقل، الإنسان… الخ، وتقويض كل ما يمكن أن يشكل مركزا خارجيا ثابتا يمكن الإحالة إليه بحثا عن المعنى، بحيث يكون ضامنا للوحدة والدلالة والحقيقة.


ولكن وفي نهاية المطاف فقد انقلب هذه القاعدة رأسا على عقب لتصبح: ان الإنسان لا يساوي شيئ في أحسن الحالات، أما في معظمها فالإنسان لا وجود له أصلا‍‍! ، فلا معنى موثوق به، ولا شيء مقدس، ولا وجود للمتعالي والمتسامي، فقد مات الله، ومات المؤلف، واخيرا مات القارئ نفسه في نهاية المطاف.  لا شيء سوى التعدد والاختلاف، واللعب الحر بالمدلولات، والدلالة اللانهائية، وحضوور المعنى المراوغ وهو حضور في غياب وغياب في حضور، وتكسر الوحدة، والتشرذم والانتشار، وبكلمة واحدة: السيولة والفوضى والعدم.انها محصولات ما بعد الحداثة.


 في حين أن رهان عملية التجديد الحضاري في الرؤية التوحيدية، هو تجديد روح الإنسان ومعناه المنطلق بالاحالة الى معنى الإيمان بالله "سبحانه" ومن ثم يكون هو الإنسان "المستخلف" لا الانسان "مركز الكون" الذي يسخر أشياء العالم الطبيعي وعلاقات العالم الاجتماعي، ولكون غاية الإنسان هي إعمار العالم، فإنه يتوجب عليه أن يحيطها بأسباب الهداية الالهية والعلم النافع والمسئولية الأخلاقية، وأن يوفر لها شروط الرحمة والتكافل والإبداع والحياة الطيبة.

المعنى الحقيقي لكلمة goumi

 #شيء_من_التاريخ


المعنى الحقيقي لكلمة Goumi بالعامية ترجع لأول فرقة مليشيات مساندة للاستعمار الفرنسي "#فرقة_الڨومية"


#مصطفى_بن_إسماعيل منشئ أول كتيبة للڨومية  "فرقة عسكرية من الجزائريين " 

أنشأت لتحارب مع الفرنسيين ضد المقاومين الجزائريين وخاصة مقاومة الأمير عبد القادر في الغرب الجزائري، و تتشكل فرقة الڨومية أساسا من قبائل الدوير والزمالة التي كانت تقع في سهول مليطة بالجنوب الشرقي لمدينة وهران حيث عقدت تحالف رسمي مع الفرنسيين متمثل في اتفاقية 1835

.

#عرض الآغا مصطفى بن إسماعيل خدماته على الفرنسيين في أوت 1830 لكن الفرنسيين رفضوا في بادئ الأمر لأنهم لم يفكروا في إنشاء مليشيات من الأهالي أول نزولهم في الجزائر ، وبعد الهجوم الأول على وهران اتصلو به فقبلوا خدماته ، وقد ضمت قبائل الدوير والزمالة كل فرسانها لخدمة فرنسا فيما يسمى بالشرطة المسلحة بالأقاليم المعترفة بالسلطة الفرنسية فقد ذكرت الكتب الفرنسية أن مصطفى بن اسماعيل قد شارك في #معركة_الزقاق ب 400 فارس ڤومي إلى جانب الجيش الفرنسي وكان من أسباب هزيمة جيش الأمير عبد القادر في هذه المعركة ، كما شارك مع الجنرال كلوزيل في إحتلال مدينة معسكر بي 500 فارس و 800 جمل محمل بالمؤونة.

.

أما في #الشرق_الجزائري فقد شكلت فرنسا فرق ڨومية أخرى بزعامة شيخ العرب #البسكري_بن_ڤنة المتحالف مع القائد الفرنسي غالبو الذي قدم العديد من الهدايا لبن ڤنة مكافئة له على محاربة الأمير عبد القادر واخضاع المناطق الجزائرية التي تمردت على الفرنسيين .

كانت خيانة مثل هؤلاء للأمير عبد القادر من أهم أسباب خسارته للحرب أمام المستعمر الفرنسي وليس بسبب قوة الجيش الفرنسي، وبسببهم دام استعمار فرنسا للجزائر أكثر من 132 سنة

تجدر الاشارة الى أن #فرقة_الڤومية بقيت تمارس مهامها الى غاية إندلاع الثورة المجيدة 1954 وبعدها حتى اليوم الأول للإستقلال و إسمها بقي في الذاكرة الشعبية الجزائرية يدل على الخيانة والعمالة الدنيئة، وبقي الكثير منهم يعيش في الجزائر بعد الاستقلال في أوساط الشعب الذي كان يحرص على تقتيله بالأمس القريب.

الأربعاء، 3 أبريل 2019

اعربة الفكر الاسلامي .... بقلم الاستاذ رؤوف بوقفة

قال تعالى :﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {97} وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {98} وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {99}﴾(سورة التوبة)

﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ {101} وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {102} ﴾ (سورة التوبة)
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {14} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {15} (سورة الحجرات)
لغة :
يقال: رجل عربي. إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب. كما تقول مجوسي ويهودي، ثم يحذف ياء النسبة في الجمع، فيقال: المجوس واليهود، ورجل أعرابي، بالألف إذا كان بدوياً، يطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العرب أو من مواليهم، ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب ( تفسير الرازي )
اصطلاحا:
سكان البادية وهم أقسى قلباً وأجفى قولاً وأغلظ طبعاً وأبعد عن سماع التنزيل ( تفسير القرطبي)
وقد وردت روايات كثيرة عن جفوة الأعراب :
" قال الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان، وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم " نهاوند " ، فقال الأعرابي: والله إن حديثك ليعجبني، وإن يدك لتريبني! فقال زيد: وما يربيك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمين يقطعون أم الشمال! فقال زيد ابن صوحان: صدق الله ورسوله: { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله }
" وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس، عن رسول الله - - قال: " من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن ".
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولاً، وإنما كانت البعثة من أهل القرى كما قال تعالى:﴿وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى ﴾
" ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله - - فرد عليه أضعافها حتى رضي ,قال :" لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي " لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن: مكة والطائف والمدينة واليمن، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء.
و عن عائشة، قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله - - فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم! قالوا: لكنا والله ما نقبل! فقال رسول الله - - وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة؟ ".
وكثير من الروايات يكشف عن طابع الجفوة والفظاظة في نفوس الأعراب. حتى بعد الإسلام. فلا جرم يكون الشأن فيهم أن يكونوا أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، لطول ما طبعتهم البداوة بالجفوة والغلظة عندما يقهرون غيرهم؛ أو بالنفاق والالتواء عندما يقهرهم غيرهم؛ وبالاعتداء وعدم الوقوف عند الحدود بسبب مقتضيات حياتهم في البادية.( تفسير سيد قطب)
التحليل :
الأعراب جزء من التركيبة الاجتماعية , وهم ضرورة لحفظ التوازن الاجتماعي , والذي يهمنا في هذا الموضوع هو دراسة طبيعة الشخصية الأعرابية من الناحية الفكرية ,هذه الطبيعة قد ساهمت الظروف الطبيعية القاسية من الجفاف و ندرة المياه وقلة مواطن الكلأ في تشكيلها ,وان حاولنا تحديد مميزات الفكر الأعرابي نجده:فكر اندفاعي هجومي ,لا فكر دفاعي متأني وهو فكر سطحي مظهري تبسيطي , تجزيئي , شيئي
أما فكر اندفاعي هجومي :
فلأن الإستراتجية القتالية الأعرابية بسبب المكان المنبسط , المنكشف , الغير محمي أو المحصن بحواجز طبيعية كالجبال أو من صنع البشر كالقلاع أو الحصون , يعدم الدفاعات ولا تقوم لها قائمة وبالتالي الإستراتيجية الوحيدة القائمة هي الإغارة
كما قال امرؤ القيس:
مكرٍ مفرٍ مُقبلٍ مُدبرٍ معًا . . . . . . كجلمودِ صخرٍ حَطَّهُ السَّيلُ من عَلِ
وقول زهير بن أبي سلمى
وَمَا الْحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ
وقول عنتر بن شداد:
هَلاَّ سَأَلْتِ الْخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكٍ إِنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي
يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الْوَقِيعَةَ أَنَّنِي أَغْشَى الْوَغَى، وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ وَلَقَدْ حَفِظْتُ وَصَاةَ عَمِّي بِالضُّحَى إِذْ تَقْلِصُ الشَّفَتَانِ عَنْ وَضَحِ الْفَمِ فِي حَوْمَةِ الْمَوْتِ الَّتِي لاَ تَشْتَكِي غَمَرَاتِهَا الْأَبْطَالُ غَيْرَ تَغَمْغُمِ يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّهَا أَشْطَانُ بِئْرٍ فِي لَبَانِ الْأَدْهَمِ فالحرب عند الأعراب ( سكان البادية ) لا تعتمد على إستراتيجية الحصار ولا غيرها من الاستراتيجيات التي تعتمد على التخطيط والذكاء والدهاء والخداع والمراوغة وذلك بسبب التركيبة الجيوسياسية للبيئة البدوية وهذا ما أثر على الفكر الأعرابي وجعله فكر مباشر هجومي اندفاعي غير تريثي ولا ترددي ,لأن التريث والصبر والتردد والدفاع أخطاء قاتلة تكلف القبيلة حياتها في البيئة الأعرابية. أما فكر وصفي : فهو يكتفي بالتوصيف دون التدرج للتحليل والتركيب حتى في السياقات الشعرية من غزل وهجاء ومدح وفخر ورثاء وعتاب لا تخلوا من التوصيف البسيط الذي مادته الطبيعة فعلي بن الجهم الأعرابي لما قدم على المتوكل العباسي مادحا ،أنشده قصيدة ، منها : أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قِراع الخطوب أنت كالدلو ، لا عدمناك دلواً من كبار الدلا كثير الذنوب وسيمات الفكر الأعرابي حين تخرج عن سياقها الطبيعي ( البادية ) لتخترق الفكر الديني في إطار أعربة الفكر الإسلامي تعمل على تقليص دائرة الإنسانية من الفكر الديني ودائرة الرحمة ولأن العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يبعثوا في البادية بل في المدن , و لأن النص الديني جاء بلسان القوم الذي فيهم نزل وما تحمل اللغة من دلالات مكانية وثقافية مدنية تختلف عن الثقافة الأعرابية , فان فهم النص الديني يجب أن يكون حضري (مدني) لا أعرابي , لكن المتتبع لتاريخية الفكرة الدينية الإسلامية يجد تسلل الفكر الأعرابي لها وسيطرته عليه فيما يعرف بأعربة الفكر الاسلامي.




الأحد، 3 مارس 2019

هل القران كلام الله ??? بقلم محمد سعيد المشتهري

هل القرآن كتاب الله؟!
«القرآن» كتاب موجود كغيره من الكتب، فمن قال إنه «كتاب الله»؟!
هل تعلم المسلمون في صغرهم كيف يواجهون مثل هذه الشبهات، أم جعلوا أئمة مذاهبهم العقدية والفقهية هم الذين يتصدّون لمثل هذه الشبهات نيابة عنهم؟!
هل أنت شخصيًا تحمل الرد العلمي الفوري الذي يُخرس ألسنة الملحدين إذا وجّهوا إليك هذا السؤال؟!
وهل من أهل بيتك من يعلم الإجابة العلمية على هذا السؤال ولو بالاستعانة بصديق؟!
وإذا كان الرد العلمي يقوم على معرفة ودراية بلغة القرآن العربية، فهل أنت على علم بهذه اللغة، وإذا كانت الإجابة لا، فعلى أي أساس دخلت في «دين الله الإسلام»، وخاصة إذا كنت تقيم شعائره؟!
لقد أعطى المسلمون لهذه الأزمة الإيمانية التربوية الكبرى ظهورهم قرونًا من الزمن، وسلّموا زمام إدارتها لأئمة مذاهبهم العقدية والفقهية، ودخلوا في «دين الله الإسلام» من باب التدين الوراثي.
فخرج السني من بطن أمه سنيًا، وخرج الشيعي شيعيًا ... إلى آخر الفرق والمذاهب العقدية، وأقاموا الشعائر فور ولادتهم على مذاهب آبائهم، وتعلموا في المدارس الأجنبية، وهم لا يعلمون شيئًا:
عن «الوحدانية»، ولا عن البراهين الدالة على صدق «نبوة» رسولهم محمد، ولا عن البراهين الدالة على أن «القرآن» كلام الله، فإذا خرج عليهم «ملحد» بشبهاته، نظروا إليه نظر المغشي عليهم من الجهالة.
شبهة:
القرآن كتاب موجود في المكتبة الإسلامية، وبين أيدي المسلمين كغيره من الكتب، فما الدليل على أنه من عند الله وليس من عند محمد، أو من عند جماعة من الأعاجم وأعطوه لمحمد، كما كان يُشاع في عصر التنزيل، فقال الله تعالى «١٠٣ / النحل»:
* «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ»
* «لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ»
* «وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ»
أقول:
لقد حملت هذه الآية مفتاح الرد على هذه الشبهة ببيان الفرق بين «اللسان الأعجمي»، و«اللسان العربي المبين».
فأنت أيها «المسلم»:
على أي لسان تربيت حتى تستطيع مواجهة شبهات الملحدين:
اللسان الأعجمي أم العربي المبين؟!
وحسب توجهي الديني «نحو إسلام الرسول» فأنا أتعامل مع القرآن باعتباره «الآية الإلهية العقلية» المعاصرة لي اليوم، وعليه لابد من اتباع الآتي:
١- مقارنة الأسلوب العربي المبين الذي حمله القرآن بالأساليب العربية التي كُتبت بها الكتب الدينية الموجودة في المكتبة الإسلامية، وفي مقدمتها «كتب الأحاديث»، لمعرفة الفرق بين الأسلوبين من حيث «البصمة البلاغية».
٢- إذا كان محمد بن عبد الله هو الذي كتب هذا القرآن، ثم نقل الرواة القرآن كما نقلوا أحاديثه، إذن فلماذا اختلف أسلوب كتابته لـ «القرآن» عن أسلوب كتابته لـ «الحديث»، على فرض أنه هو الذي كتب الكتابين بيده؟!
٣- إذا كان محمد بن عبد الله لم يكتب شيئًا وإنما أمر أصحابه أن يكتبوا «القرآن» الذي ألّفه وكذلك «أحاديثه».
فلماذا جاءت أحاديثه بـ «سند روائي»، أي «عنعنة»، أي عن فلان عن فلان ... يجب أن يسبق جملة «أن رسول الله قال» وإلا سقط الحديث.
ولا نجد هذا «السند الروائي» يسبق آية واحدة في القرآن؟!
٤- إن لكل كاتب بصمته اللغوية البلاغية التي يُعرف بها، وهذه حقيقة يعلمها المتخصصون في تحقيق المخطوطات، حتى أنهم يعلمون كاتب المخطوطة إذا مسح اسمه من عليها.
وبالإضافة إلى موضوع البصمة فإن اسم الكاتب يجب أن يكون موجودا على كتابه، وعلى هذا الأساس يحتفظ بحقه في الملكية الفكرية، ويدافع عنها دفاعه عن أولاده.
وبناء عليه كُتبت جميع كتب «الأحاديث» المنسوبة إلى رسول الله محمد بأسماء أصحابها، ولم يشهد عصر من العصور مخطوطة واحدة للأحاديث النبوية باسم رسول الله «محمد بن عبد الله».
فبأي منطق يُقال إن القرآن من تأليف النبي محمد، ثم لا نجد اسمه على القرآن، ولا على كتب الأحاديث المنسوبة إليه؟!
٥- لقد حمل القرآن إشارات علمية وفلكية لم تُكتشف إلا من قرن أو قرنين على الأكثر، فكيف عرفها النبي وأخبر الناس بحدوثها؟!
٦- هل يعقل أن يكتب محمد بن عبد الله القرآن، ومعه جماعة من الأعاجم وبعض الذين أوتوا الكتاب، ثم يضعوا فيه آية تطلب من الإنس والجن أن يأتوا بمثل سورة من سورة، ثم لا يخافون أن يخرج عليهم من أهل البلاغة من يأتوا فعلا بمثله مثلهم؟!
٧- هل يعقل أن يكون الذين ألّفوا القرآن على علم بأسلوب «التعجيز» و«الاستفزاز» و«الاستنفار» الذي يبدأ بطلب الإتيان بالقرآن كله:
* «قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»
ثم يزيد من «التعجيز» ويطلب منهم عشر سور:
* «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ»
* «فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ»؟!
ثم يزيد من «التعجيز» ويطلب منهم سورة واحدة:
* «وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»
ثم يُبيّن الله لهم، لمزيد من الإثارة، أنه حين طلب منهم أن يأتوا بسورة واحدة ولتكن هي أقصر السور «الكوثر» كان سبحانه يعلم أنهم لن يستطيعوا، وإلا كانوا هم الذين أنزلوا هذا القرآن وليس الله، فقال تعالى:
* «فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ - وَلَن تَفْعَلُواْ - فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ»
٨- إن الذي أنزل القرآن أعلن عن نفسه في ذات القرآن، فقال تعالى:
* «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
وقال تعالى:
* «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..»
وقال تعالى:
* «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ..»
وعلى مر العصور لم يظهر على وجه الأرض من ادعى أنه هو الذي كتب هذا القرآن.
إن شجرة الإلحاد يستحيل أن تنبت إلا في مستنقع الجهل والجهالة، وما أكثر هذه 
المستنقعات على شبكات التواصل الاجتماعي.


محمد السعيد مشتهري

الأربعاء، 23 يناير 2019

من وحْي ((الهويات القاتلة)) لـ: أمين معلوف .. بقلم الدكتور عامر مخلوف




هي هويات قاتلة فعلاً، عندما تُخْتزل الهوية في بُعْد أمازيغي أو لغوي أو ديني كما في بلادنا وتُقحم في المعترك السياسي. وهي عادة ما توظَّف سياسوياً لدى أولئكم الذين لا يملكون أيَّ مشروع حضاري للنهوض بالمجتمع سواء أكانوا يمثِّلون النظام الحاكم أمْ الذين هم في المعارضة المزعومة، بل تصير الهوية جثَّة مطوَّقة بينهم، كلٌّ ينهش من جهته إلى حدِّ تمزيقها.
فإذا كان قد هيْمَن البُعْد الديني المتطرِّف على غيره في هذا الزمن،فذلك مردُّه أساساً إلى أنَّ ما يُسمَّى دولة وطنية لم تُحقِق المواطنة المنشودة.وأصبح رجل الدين في أحسن الحالات يرفع شعار "التسامح"لكنَّ القول بالتسامح ينطوي على قدْر كبير من الفوقية والاستعلاء،لأنَّ صاحبه يتوهَّم أنَّه يمتلك الحقيقة المطلقة بما ينجرُّ عنها من انغلاق على الذات وعلى الآخر معاً. ومن ثـمَّ يصبح من فَضْله وكراماته إذا هو تسامح مع غيره. بينما إذا كان الإنسان يبحث عن الحقيقة فعلاً، فشرطُها المبدئي ألاَّ يدَّعي امتلاك الحقيقة، كيْ ينفتح على غيْره ليدرك الثراء في التنوُّع، ويكون –بالتالي- مؤهَّلاً لممارسة الحوار الراقي.
يعترف (أمين معلوف) بأنه من نصف لبناني والنصف الآخر فرنسي وهي عناصر من هوية واحدة تتألف من عدة عناصر ولا تقبل التجزئة، فالإنسانية بأكملها مُكوَّنة من حالات خاصة ، لا تشبه إحداها الأخرى. وهذا بالذات ما يميز الهوية. إنها من التعقيد بحيث لا أحد من الناس يشبه الآخر ولا يعوضه، وكذلك المجتمعات. والهوية لا تكتمل دفعة واحدة، بل تتكون عبر مراحل وجود الشخص وتطوره. فأما الذين يحصرون الهوية في عنصر وحيد، فإنهم ذو نفَس قبَلي يدفعهم إلى إقصاء الآخر وارتكاب المجازر كما نشاهد اليوم. إن الهوية –في هذه الحالة- تتحوَّل من أمل أو طموح إلى أداة حربية.
كي ننفتح على الآخر ينبغي أن تكون الأذرع مفتوحة والرأس مرفوعا، ولا تنفتح الأذرع إلا إذا كان الرأس مرفوعاً.
إن انهيار المعسكر الشيوعي بدا للبعض مكسباً من حيث هو سقوط نظام شمولي، غير أن
العالم الغربي جعل منه فرصة لمزيد من الهيْمنة زادت البلدان الفقيرة فقراً وتخلُّفاً ما أدَّى إلى
نجاح التنظيمات الدينية لتطرح نفسها بديلا أوْحد.
يحدد (توينبي) المراحل التي مرت بها الإنسانية كالتالي:
العهد الأول: كانت فيه الاتصالات بطيئة وتطور المعرفة أبطأ.
العهد الثاني: تطورت فيه المعرفة على نحو أسرع من انتشارها ما جعل المجموعات البشرية مختلفة.
العهد الثالث: وهو الزمن الذي نعيش فيه، تتطور فيه المعارف بسرعة ولكن انتشارها أسرع.
انطلاقا من رؤية (تونبي) يمكن القول: إن كل ما صنعته الإنسانية من أجل تميُّزها ورسْم حدوها خلال قرون طويلة صار يخضع لضغوطات تختزل الخلافات وتمحو الحدود.
لقد حدث في زمننا ما لم يحدث أبدا للإنسانية من قبل. إذْ تحققت لديها كثير من الأشياء المشتركة من المعارف والمرجعيات والصُّور والكلمات والأدوات ولكنها تدفعهم –في الوقت ذاته-إلى التميُّز. ولكنها ولَّدتْ لدى المعذَّبين في الأرض رد فعل ضد العولمة شعوراً منهم بالإقصاء وخوفا من الذوبان.
وكأن ما يعيشه العالم اليوم هو بحث دائم عمَّا غاب من حرية فردية في النظام الشيوعي الشمولي من جهة ، وبحث عمَّا افتقده النظام الرأسمالي من بُعْد اجتماعي ليبقى المسحوقون في خوف وتردُّد يجعلهم يحتمون بماض لن يعود كما كان أبداً. فالناس أبناء زمانهم أكثر مما هم أبناء آبائهم.
وإنه من الضروري الفصل بين الدين والهوية، فلطالما شاهدنا -أُمماً بلغة واحدة مزقتها الصراعات الدينية وأخرى بديانة واحدة مزقتها الصراعات اللغوية، ما يعني أن الإنسان قد يعيش بلا دين لكن يستحيل أن يعيش بلا لغة. وليس المطلوب إلغاء الهوية الدينية أو التراث إنما يتعلق الأمر فقط بإدراك أن هناك مسافة بيننا وبين الماضي. فرنسا لم تحاول أن تمسِّح الجزائريين رغم وجود بعض الحركات التبشيرية بقدر ما سعت إلى إحلال الفرنسية محل العربية. ومن الغريب أن بلداً لائكياً يُسمِّي بعض المواطنين"الفرنسيون المسلمون" ويحرمهم من حق المواطنة لأنهم ينتمون إلى ديانة أخرى.
فالهوية يُنظر إليها على أنها مجموعة انتماءات يعلو عليها الانتماء للإنسانية إلى أن يصبح البُعْد الإنساني هو الأساس من غير أن يلغي بقية الانتماءات.
ولا يمكن أن ندَّعي أن رياح العولمة تدفعنا بالضرورة إلى هذا الاتجاه ولكنها تُسهِّل المقاربة وهي في الوقت نفسه ضرورية.
إن عالم اليوم يوفِّر للذين يريدون المحافظة على ثقافاتهم كل الإمكانات للدفاع عنها عوض الانغلاق واللامبالاة. وقد يتيح التواصل عبر الإنترنيت قدرة من التأثير تتجاوز الحاكم صاحب القرار.
كما أن العالم ليس ملكاً لِعِرْق ولا لأمة ولا لأزمنة تاريخية أخرى ، بل هو لمن يدرك القواعد الجديدة فيستعملها لصالحه. فقَدَر الإنسان كالريح قد تهبُّ لتهلك ربان سفينة بينما ينجو ربان آخر لأنه عرف كيف يُوجِّهها..
====================
المرجع: Maalouf (Amin),les identités meurtrières éditions Grasset,1998  


الجمعة، 4 يناير 2019

مَن أكل البطاطا فهو آمن .. بقلم رياض أمين: صحيفة "اليوم" اليومية الجزائرية. 1999م



الذين ما زالوا يتهجمون على "البطاطا" استكبارا واحتقارا، نقول لهم: تخيلوا العالم بدونها وستعرفون حجم الكارثة التي ستحل بالبشرية...إنها الخبز الثاني للمعذبين في الأرض...
قبل حوالي 5 قرون، سافرت البطاطا لأول مرة خارج حدود بلادها بعد أن حزمت أمتعتها لتحط الرحال في إسبانيا على متن سُفن المغامرين الذين تَلَوا كريستوف كولومبس إلى "العالم الجديد" الذي ما كان جديدا إلا في أذهان آخِر مَن اكتشفوه أمثال هذا البحار الإيطالي...
عن طريق إسبانيا الكاثوليكية، التي كانت في أوج عظمتها في القرن 16م، دخلت البطاطا لأول مرة عام 1534م إلى بقية بلدان أوروبا كغنيمة حرب، لتجد نفسها مرغمة على الاحتكاك بثقافاتٍ وشعوبٍ تختلف عن ثقافة وشعب الهنود الحُمر، الذين كانوا أوّل من عرفوها وزرعوها في أمريكا اللاتينية، والأقوام التي قاسَمَتْهُم بهذه البقعة من أرض الله العيش على غرار أفارقة جنوب الصحراء والمسلمين الأندلسيين/المغاربة بقرون قبل كولومبس...
ومن أوروبا، سوف تنتشر البطاطا في جميع بقاع العالم حتى أصبحتْ مادةً غذائية أساسية لا يَجْرُأ أحدٌ على الاستغناء عنها على موائد الأغنياء والفقراء و"المعذبون في الأرض" على حد سواء.
هدية الهنود الحُمر إلى العالم
صَنَّفها القسُّ اللبناني الأب لويس معلوف في "منجد الطلاب" على أنها "نبات من أصل أمريكي من فصيلة الباذنجانيات، ثماره مختلفة الأشكال". وتَحَفَّظَ العربُ تجاهها في بداية ظهورها في بلدانهم، لأنها جاءت على متن سُفن الجيوش الاستعمارية مُعزَّزة بآخر ما أنتَجتْهُ التَّرسانات الحربية الغربية، فتعاملوا معها بِتوجُّس وحذر شديديْن مادامت، برأيهم، من "بِدع" "الكُفَّار" و"أعداء" العرب والإسلام الذين ما أَحَبُّونَا ولا تَرَكُونَا لِشأننا، ولا نحن صَبِرْنَا على هواهم...
في البداية، اختار العربُ لها اسم "القلقاس الإفرنجي"، فيما خَصَّصُوا اسمًا مختلفا للبطاطا الحلوة فيه نكهة الأصول الأمريكية العريقة ما قبل الكولومبية، ويتمثل في "القلقاس الهندي" الذي هو عادةً أكبر حَجمًا من البطاطا العادية. ولم يستقروا بَعْد عند اسمٍ مُحدَّدٍ لها، لأنهم مازالوا يترددون بين كلمتيْ البطاطا والبطاطس التي تبدو أقرب لنظيرتها الإنجليزية "بُوتِيْتُوسْ" (Potatoes) شائعة الاستخدام في المشرق العربي الذي تأثر بثقافة الاستعمار الأنجلوساكسوني.
وإذا كانت البطاطا مشهورة في كل أنحاء العالم، فإن العالم كثيرا ما ينسى أن لها قريبة في الصين لا تختلف عنها إلا من حيث الشكل تُدعى "البطاطا الصينية" التي وصفها لويس معلوف بأنها "نبتة آسيوية معرشة (...) لها جذور مختلفة وتُؤكَل كالبطاطا وتُزرَع في البلدان الحارة" كغيرها من أقربائها.
عانت البطاطا منذ بدايات وجودها في القارة الأوروبية من اضطهاد كبير. وقد اعترف الدكتور جان نيسبوم عام 1936م بالإجحاف القائم إلى غاية هذا التاريخ في حقها والاحتقار الذي تَعَرَّضَتْ له في كتابه الشهير "علوم وطبخ".
لكن الفرنسي بَارْمُونْتْيِي سبقه وطرح منذ القرن 18م قضيتها في المحافل العِلمية والفضاءات الإعلامية، وملأ الدنيا صخبًا بالحديث والدفاع عنها. بل ناضل طويلا من أجل رد الاعتبار لها. ولولاه، ربما، لَما أصبح الألمان خلال نهاية القرن الماضي أكثر شعوب العالم أكْلاً للبطاطا، ولَمَا أبْدَعَ البلجيكيون في أساليب تحضيرها وطهيها حتى تَوَصَّلُوا إلى قِمَّة اجتهاداتهم البَطاطِية وأكثرها شُهرةً وشعبيةً، وهي "الفْريتْ"، أيْ البطاطا المقلية.
ولَوْلاَ بَارْمُونْتْيِي أيضا، لأغْلَقتْ شركات "مَاكْدُونَالْدْسْ" و"كْوِيكْ" و"فْري تايْم" أبوابَ محلاتها العالمية المنتشِرة في جادات باريس ولندن وبرلين و نيويورك وتلك المحلات التي استولتْ دون حق على علاماتها التجارية دون اعتبار لـ: "حقوق التأليف" في الجزائر وقسنطينة ووهران وغيرها من مدن وبلدات العالم التي لا تُجيد السَّيْر المحترَم في رَكْبِ الأُمَم. ويَعود لهذا الباحث الفرنسي الفضْل في تحرير الفرنسيِّين من عُقدهم تجاه البطاطا وإقبالهم على أكلها رغم القذف والذَّم و"الإشاعات المُغرِضة".
"خُبْزْ القَلِّيلْ"
في مطلع القرن 20م، تَكتلتْ مجموعة من الأطباء تلقائيا لتتهجَّم على هذه النِّعمة، التي يعتبرها الجزائريون "خبز القَلِّيلْ"، أيْ قُوت الفقير، وادَّعوا أنها تُسبِّب السّمنة وتُهيِّأ الظروف الملائمة داخل أجساد آكلي البطاطا لانقضاض مرض السّل عليهم. وقالوا عنها، والعُهدة على القائل، إنها عديمة القيمة من حيث فوائدها الغذائية، فَرَدَّ عليهم الدكتور جان نيسبوم مؤكِّدًا بالحجة والدليل بأن كل هذا الهرج والمرج إشاعات "خاطئة وليست سوى خزعبلات" معتمدا على أبحاث الدكتور الدانماركي هينداد التي دامت 33 سنة والتي اعتُبرتْ ثورة في العلوم الغذائية آنذاك وأعادتْ للبطاطا مكانتها التي تليق بها والاحترام الجديرة به.
هذا العالم الدانماركي الذي بدأ أبحاثه حول البطاطا عام 1912م، توصل بتجارب ميدانية على صديق له إلى نتيجة ثورية، مفادها أن للبطاطا قدرات غذائية هائلة ما دام صديقه عاش طيلة 6 أشهر كاملة دون أن تزيد وجبتُه عن 2.5 كلغ من هذه المادة يوميا مع قيامه بأشغال شاقَّة دون أن تَتَأثَّر أو تَتَغَيَّرَ صِحتُه قيد أنملة... هذا من الناحية الصحية، أما من الناحية الاقتصادية، فهذه التجربة بَيَّنَتْ أن الإنسان بإمكانه العيش حياة عادية بـ: 35 سنتيما فقط يوميا، وهو سعر الـ: 2.5 كلغ من البطاطا في ذلك الوقت.
ثم حَسَمَ البروفيسور الألماني ألدرهالدن النقاش والجدل بشأن مدى غِنى البطاطا بالحريرات ونَسَف كل محاولات التشكيك في قيمتها الغذائية قائلا: "لم يعد هناك أدنى شك في أنه يمكن العيش بالبطاطا فقط. إن هذه الأخيرة غذاء كامل". وذهب إلى أبْعَد من هذا القول عندما أكد بأنها دواء يُشفي من الرُّوماتِيزْْم ومن أمراض أخرى كالقطرة.
عند هذا الحد، رَكعتْ أوروبا أمام عظمة البطاطا وسبَّحتْ بحمدها، وتحوَّلت إلى ناشِر لرسالتها الغذائية ولبذورها حيثما حَلَّتْ جيوشُها الاستعمارية حتى أصبح الإنتاج العالمي لهذه المادة يُقدَّر في عام 1984م بـ: 280 مليون طن، وهو اليوم في ارتفاع متزايد إلى أن بلغ عام 2011م ما لا يقل عن 374 مليون طن، أيْ بمعدَل 12 ألف كلغ في الثانية الواحدة.
وإذا أصبح الاتحاد السوفييتي في عام 2011م أكبر منتج للبطاطا في العالم بأسْره بـ: 70 مليون طنّ، تليه ألمانيا الغربية بـ: 26 مليون طن وفرنسا بـ: 14 مليون طن ثم الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الشرقية بـ: 13 مليون طن، فإن الصين قد قلبت الطاولة على الجميع وأطاحت بهذا الترتيب، وتحوَّلت إلى أكبر منتج في العالم لهذه المادة، تليها في ذلك الهند وروسيا...
البطاطا في إفريقيا تتجاوز أحيانا صلاحياتها الغذائية حيث لا تكتفي بملء البطون الجائعة فحسب بل تتسبب في تخريب العلاقات بين النُّخَب السياسية والمؤسسات. وهكذا، في نيجيريا، على سبيل المثال، أصبحتْ البطاطا عام 1998م غذاءً يوميا طيلة أسابيع متتالية للنواب البرلمانيين في هذا البلد في صيغة "كَاسْكْرُوطْ فْرِيتْ"، مما دفعهم إلى الإضراب عن العمل احتجاجًا على هذا الإفراط ومن أجل إعادة الأمور إلى نصابها وتصويب "إعوجاج" طَبَّاخي المؤسسة التشريعية ومسؤولي ميزانيتها.
البطاطا في السَّراء والضَّراء
أما في الجزائر، فقد أصبحت البطاطا منذ عقود طويلة تأكل الناس، وليس العكس، من كثرة ما داوموا عليها في مختلف الصِّيَغ والأشكال التي تتحايل الأمهات يوميا في إبداعها للحيلولة دون الاضطرار إلى مأكولات أخرى أكثر تهديدًا للأمن المالي للأسرة وأكثر استنزافا للخزينة العائلية.
وبالتالي فإن هذا الإدمان على البطاطا واضح بأنه ليس من باب العُشق والهُيام بل لقلة اليد التي تَجِد تَفَهُّمًا كبيرا لدى هذه المادة التي لا تُكثِر عادةً من مطالبها وتَحرِص على المحافظة على "رُخصِها"، فضلاً عن مزاياها الأخرى المتعددة في المطبخ ومرونتها الفائقة التي تسمح لها بالانسجام مع مُعظَم الوجبات وبالتعاطي مع غيرها من الخضر، وحتى الفواكه، واللحوم ومختلف المواد الغذائية.
لا يجب أن يُنسينا شواءُ عيد الأضحى وبوزلُّوفُهُ وكَرْشَتُه (الدُّوَّارَة) بأن البطاطا قابلة للأكل في هيئة سَلاطة بنفس المذاق اللذيذ التي تُوَفِّرُه لنا عندما تُقبِل علينا في صيغة "جْوَازْ"، وتتعاطى مع الكُسْكُس النّد للنّد ودون عقدة نقص من اللَّحم الذي يُولِي له الجزائريون أهمية تفوق بكثير قيمته الحقيقية وتُخفي أضراره وكوارثه على الصحة البشرية. بل هناك مَن أصبح يُخطئ بزلاَّت لِسان وخيمة العواقب في الآخرة عند حديثه عن الماء ويقول "وجعلنا من اللحم كل شيء حيّا".
كما تملك البطاطا القدرة على رفع شأنها والاستئساد عند الضرورة في بيوت أهل التّرف المستأسِدين علينا والتَّحوَّل إلى طبق أرستقراطي راقٍ، وهي مُحقِّة في ذلك لأن المثل يقول "عزّ روحك يعزّك الله"، فتأتي إلى الموائد مُتمنِّعة "مُتدلِّعة" في شكل "كْبَابْ" جزائري أو "ضُولْمَة" عثمانية بنكهة قصبجية أو قسنطينية وتلمسانية.
وفوق كل ذلك، من باب الاعتراف بالفضل والإنصاف، الجميع يعلم أن البُورَاكْ لا يكاد يكون بوراكا ولا البْرِيكْ يستأهل اسمَه عن جدارة إذا غابت عن أحشائهما ولو بعض الجُزيئات من البطاطا. أما إذا قرَّرتْ هذه الأخيرة اقتحام "الكُوشَة"، الفرْن، في شكل "غْرَاتَانْ" فـ: "سَبِّح بنعمة ربِّكَ وحدِّثْ". وهذا دون ذِكْر مَحاسِنها ومَفاتِنها للبطون وهي في شَكلها "الفْرِيتِي" الذي اكتسح المطابخ والموائد عبْر العالم دون استثناء، لا سيَّما مطاعم الأكل السريع، موحدا بين الثقافات ولامًّا شَمْلَ البَشَر كأحد أهمّ وأبرز مظاهر ما أصبحنا نصطلح عليه بـ: العولمة.
في الجزائر، داخل المطابخ العائلية كما في المطاعم العامة، بلغتْ الجرأة بالبطاطا في المناورة وسرعة التَّكيُّف أن اقترَنتْ بزواج مُتْعة طال أمدُه مع البيْض، فأنجبتْ مولودا محمودًا بَهيّ الطلعة وبه شُقرَة سُمِّيَ منذ ميلاده على بَركة الله الـ: "فْرِيتْ أومْلاتْ"، ولم يُسعفنا الحظ حتى اللحظة هذه في أن نعثر على هذه البدعة البطاطية في غير الجزائر.
"نِيقْرُو بَطَاطَا خُبْزَة وَشْلاَظَة"...
اعترافا بالفضل وبالجميل، ومن باب الشهامة الجزائرية، التي كثيرا ما تَقْتُل، كُرِّمَتْ البطاطا بإطلاق اسمها على ملعب لكرة القدم بِحَيّ لاَكْرْوَا في ضاحية القُبّة بمدينة الجزائر: "سْتادْ بطاطا"، وعلى محطة الحافلات الواقعة بين اسْطَاوَالِي وسيدي فْرَجْ (لاَرِي بَطَاطَا). وأُدمِجتْ في الأهازيج الشعبية في السِّتينيات من القرن الماضي وربما حتى قبلها عندما كان الاطفال دائمي الهُتاف: "نِيقْرُو بَطَاطَا خُبْزَة وَشْلاَظَة"...
التكريم تجاوز التوقعات، إذ أصبحتْ البطاطا لقبًا لعائلات كبيرة في البلاد، بعضُ أفرادها اليوم من كِبار موظَّفي الدولة الجزائرية، مثلما هو الشأن في قطاع التربية وفي وزارة الخارجية. كما أَطلَق أنصارُ فريق وِدَاد الرّْوِيبَة لِكرة القدم، قرب مدينة الجزائر، اسمَ هذه "الخُضْرَة" لقبًا "تدليعيًا" على أقرب لاعب إلى قلوبهم وهو المرحوم "بَطَاطَا"، أيْ مَبْرُوكِي الذي توفي عام 1999م.
في مجال العلاج الاستعجالي، حوَّل الجزائريون البطاطا إلى دواء فعال ضد آلام الرأس ولتخفيف آلام العيْن عند مُمارِسي مهنة التَّلْحيم. كما خففوا بها من وطأة انتفاخ الكدمات في الرأٍس والوجه. ولجأوا إليها حتى إلى التعبير عن الغضب والاحتجاج في الملاعب الرياضية برشق المنافسين والخصوم بها.
أما ما لم أتوقعْه أبدا، وربما لم يَخْلُدْ على بال، هو ما كتبه أحد مراسلي الصحيفة اليومية الجزائرية "اليوم"، التي نَسيتْ عند تأسيسها على الأقل أن تكتب على صفحتها الأولى كما جرت العادة مع كل الصحف "المستقلة" كذبًا ونفاقًا بأنها مستقلة، فقد قال قبل أسابيع بأن هناك من يَستخدِم البطاطا في بلادنا في عمليات الإجهاض وبفعالية مثيرَة، لأن رحم المرأة، على حد قوله، بيئة خصبة لنمو هذه "الخُضْرَة" وسد الطريق في وجه الجنين ومَنْعِه من النمو والتَّطور... والعهدة على الراوي، لأنه لم يتيسر لنا التحقق من صحة هذا الزَّعْم عِلميًا.
نَتْرُكُ الجواب لِعلماء الأجنة وأمراض النساء الذين يَتَعَيَّن عليهم أن يقوموا باختبارات طويلة النَّفَس شبيهة بتجارب الطبيب الدانماركي الباحث الخبير في مجال التغذية هينداد، ولو أن هذا الأخير كان بإمكانه توفير الكثير من جهوده وسنوات عُمره لو استشار سكان مدينة معسكر الجزائرية والحقول المحيطة بها عن أسرار البطاطا التي تُعتبَر وطنَهم الثاني بعد الجزائر.
أما الذين يَتَهَجَّمون على هذه النِّعمة الإلهية استكبارًا واحتقارا وذوي الألسنة الطويلة التي يتجاوز مداها حدودَ أفواهها التي تختبئء فيها، فنقول لهم: تخيلوا العالم بدون بطاطا بل الجزائر بدون بطاطا، لا سيما ونحن نغوص بأقدامنا يوما بعد يوم في أزمة مالية تزداد حدة، وستفهمون حينذاك ما الذي تعنيه البطاطا في زمن تَسُوسُنَا فيه أنظمةٌ بطاطا.
رياض أمين: صحيفة "اليوم" اليومية الجزائرية. 1999م.



Image associéeL’image contient peut-être : nourriture

الخميس، 3 يناير 2019

هل العلموية و الإنسانوية هما البديل الأفضل فعلاً؟ ... بقل سيف البصري


الإلحاد الجديد، على عكس الأديان الإبراهيمية، لم يبطش بأرواح البشر على مر التاريخ من أجل فرض نفسه على الساحة. و هذا الفارق يحسب له، لا شك. كما أن عدد اللادينيين من بين سكان الكوكب قد يتراوح بين الربع و الثلث، أي حجم لا يستهان به. لكن تزايد أعدادهم لا يعلله التنوير فقط، كما قد يظن البعض. هنالك عوامل أخرى، و لو ناقشناها سويةً، سنفهم الصورة أكثر؛ أو بالأحرى ستفهم عزيزي القارئ الصورة في ذهني بشكل أفضل.
يمكن تلخيص أسباب فقدان الكنائس و المعابد الدينية للتابعين في الدول المتقدمة من حيث القيمة السوقية مثلاً.
دعني أبسّط الفرضية هذه على شكل نقاط مختصرة:
أولاً، المستوى العِلمي اليوم أفضل؛ شبكات الضمان الاجتماعية الحكومية توفّر نوعاً من الأمن، خصوصاً للأسر الصغيرة، و بالتالي هناك قدر أقل من الخوف و عدم اليقين في حياة الناس اليومية، و هذا ما يحجّم تسويق البضاعة الدينية في الحياة اليومية.
ثانياً، هنالك اليوم العديد من المنتجات البديلة، مثل الأدوية النفسية و التسلية الإلكترونية التي لا تتطلّب الإيمان و الالتزام بتعاليم صارمة، التي تضيق الخناق هي أيضاً على الدين. مع ذلك، تجد أن أي تخبّط اقتصادي و عاطفي يدفع بالكثير إلى العودة إلى الدين كمفر من قساوة الحياة و الواقع. و هذا بغضّ النظر عن كونه سلبياً أو إيجابياً، يعكس لون من ألوان النفسية البشرية، لربما حاجة نفسية عميقة؟ و مع أني على يقين أن البعض قادر على العيش بشكل سعيد و بنهج صالح دون هيكلية دينية أو روحانية، إلا أن الإنسان العادي بطبعه و الذي يمثّل الأغلبية من بني جنسنا، يحتاج لبوصلة في حياته اليومية تمكّن الفرد من الاندماج مع المحيط و الملاحة بين المعضلات الأخلاقية و الواجبات الاجتماعية.
عدم اليقين الاقتصادي أو التحديات العاطفية هي مخاوف تهيمن على واقع الإنسان المعاصر، سواء دفعت به إلى العودة أو النفور من الدين.
و مع ذلك، بالنسبة للكثير من الناس، الدين ليس مجرد وسيلة للتعامل مع الخوف و عدم اليقين أو الصعوبات العاطفية. فالعديد من الناس يتبّع طريقة حياة دينية معينة إما لأنهم يعتقدون أنها صحيحة أو لأنها تضفي على وجودهم معناً في هذا الكون الشاسع الغريب. حاول أن تضع في الحسبان أننا لا نتكلّم عن كائن عاقل ٢٤ ساعة في اليوم. نحن البشر ما نحن عليه، بعقلانيتنا و بلاعقلانيتنا.
كما أنه بالنسبة لي من غير الواضح كيف سيحل الإلحاد الجديد أو الإنسانوية محل الدين ويضمن توريث الحكم البشرية التي لا تتحمّل التقنين، كالاحترام، العطف، الإحسان، الشهامة، الرفق بالآخرين و تقديس العائلة كنواة المجتمع و غيرها من حكم الأجيال السابقة؟ عن طريق قوانين و تشريعات؟ بالفرض و الإجبار؟ أو بسياسات الصواب السياسية؟
مع أن الكثير من الأديان بزغ نجمها على مجازر لا تحصى حلّت بالبشرية، إلا أن إهمال حقيقة كون الدين نتج عن مراحل عديدة من تطوّر وعي و تجارب الإنسان، سيدفع بنا إلى المجازفة بـ آلاف السنين من التجارب البشرية و الحكم المتراكمة.
كشخص طبيعي أحاول فهم دور الدين، الدافع لنشوءه؛ لماذا وجد؟ لماذا هذه المشتركات الكثيرة بين الأديان رغم اختلاف المكان و الإثنيات؟ مالحكمة وراء ذلك؟ مالذي يمكن أن نفهمه من دراسات الحيوانات الأخرى التي تتصرّف بشكل يمكن تشبيهه بالقوانين الأخلاقية؟ (أنصح بمتابعة أو قراءة كتب البرايموتولوجست الرائع فرانس دي ڤال). ماهو دور الميثيولوجيات في نشوء الحضارة؟ و هل كان من الممكن أن تنهض دونها؟
من السذاجة و الغرور أن نخلط الغثّ و السّمين معاً، لأن الموضوع أعمق و أقدم من أن ينهيه حديث واحد. لكن ما يمكن استنتاجه من التاريخ، هو أن الدين أقرب عملياً إلى الحياة اليومية و أكثر خبرة في تقديم طرق لخوض حياة صالحة من الإلحاد الجديد، على الأقل للعوام بشكل شمولي. من خلال تشكيل و ممارسة المعتقدات يمكن أن يبني الإنسان حياة متماسكة و ذات مغزى. والإلحاد الجديد هو في الأصل جواب على سؤال وجودي، لا أكثر. لا يملك منظومة تعاليم مشتركة أو مدوّنة.
و لذلك تجد الملحدين الجدد لاينفكون عن الدفاع و التفاخر بحقوق الإنسان و الإنسانوية كبديل عن الاضطهاد الديني. بكل بساطة لأنه لا يوجد بديل آخر.
و مع أنني أجد حقوق الإنسان متبلورة عن الأديان نفسها و فلسفات البشر السابقين، إلا أنها بدأت تأخذ طابعاً عقائدياً يثير مخاوفي أكثر من أن يجذب اهتمامي.
لذا، إذا كان هناك شيء يحل محل الدين، فلن يكون ذلك هو الإلحاد كبديل؛ ربما الفلسفات ذات الطابع الديني أو الفلسفة التجريبية كالرواقية، أو ربما بعض أشكال الإنسانية العلمانية في مناطق صغيرة و منظّمة حضارياً سوف تنجز هذه المهمة. فالحاجة موجودة و السوق واسع.
و مع أنني أفضلّ الفلسفة التجريبية على الدين، إلا أني أقر بأن الدين يبرع في المحافظة على الهرمية الاجتماعية و الأسرية و يمتلك ورقة ”القداسة‟، الميمة الأنجح في تاريخ الثقافة البشرية.
نعم، القداسة سيف ذو حدين. و لاشك أن ماضي و حاضر البشر مليئان بالأحداث و المذاهب التي تقدّس البغض و التقاليد الجاهلة؛ هذه الهالة من القداسة لابد من أن تُرضّ و تُحطَّم بين الحين و الآخر حتى لا تتحوّل إلى تقاليد جامدة أو تشريعات متطرّفة. لكنها أيضاً إحدى المفاهيم الفلسفية الدينية التي حافظت على قيم جوهرية نحتت الإنسان الاجتماعي كما نعرفه اليوم


في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...