الأربعاء، 23 يناير 2019

من وحْي ((الهويات القاتلة)) لـ: أمين معلوف .. بقلم الدكتور عامر مخلوف




هي هويات قاتلة فعلاً، عندما تُخْتزل الهوية في بُعْد أمازيغي أو لغوي أو ديني كما في بلادنا وتُقحم في المعترك السياسي. وهي عادة ما توظَّف سياسوياً لدى أولئكم الذين لا يملكون أيَّ مشروع حضاري للنهوض بالمجتمع سواء أكانوا يمثِّلون النظام الحاكم أمْ الذين هم في المعارضة المزعومة، بل تصير الهوية جثَّة مطوَّقة بينهم، كلٌّ ينهش من جهته إلى حدِّ تمزيقها.
فإذا كان قد هيْمَن البُعْد الديني المتطرِّف على غيره في هذا الزمن،فذلك مردُّه أساساً إلى أنَّ ما يُسمَّى دولة وطنية لم تُحقِق المواطنة المنشودة.وأصبح رجل الدين في أحسن الحالات يرفع شعار "التسامح"لكنَّ القول بالتسامح ينطوي على قدْر كبير من الفوقية والاستعلاء،لأنَّ صاحبه يتوهَّم أنَّه يمتلك الحقيقة المطلقة بما ينجرُّ عنها من انغلاق على الذات وعلى الآخر معاً. ومن ثـمَّ يصبح من فَضْله وكراماته إذا هو تسامح مع غيره. بينما إذا كان الإنسان يبحث عن الحقيقة فعلاً، فشرطُها المبدئي ألاَّ يدَّعي امتلاك الحقيقة، كيْ ينفتح على غيْره ليدرك الثراء في التنوُّع، ويكون –بالتالي- مؤهَّلاً لممارسة الحوار الراقي.
يعترف (أمين معلوف) بأنه من نصف لبناني والنصف الآخر فرنسي وهي عناصر من هوية واحدة تتألف من عدة عناصر ولا تقبل التجزئة، فالإنسانية بأكملها مُكوَّنة من حالات خاصة ، لا تشبه إحداها الأخرى. وهذا بالذات ما يميز الهوية. إنها من التعقيد بحيث لا أحد من الناس يشبه الآخر ولا يعوضه، وكذلك المجتمعات. والهوية لا تكتمل دفعة واحدة، بل تتكون عبر مراحل وجود الشخص وتطوره. فأما الذين يحصرون الهوية في عنصر وحيد، فإنهم ذو نفَس قبَلي يدفعهم إلى إقصاء الآخر وارتكاب المجازر كما نشاهد اليوم. إن الهوية –في هذه الحالة- تتحوَّل من أمل أو طموح إلى أداة حربية.
كي ننفتح على الآخر ينبغي أن تكون الأذرع مفتوحة والرأس مرفوعا، ولا تنفتح الأذرع إلا إذا كان الرأس مرفوعاً.
إن انهيار المعسكر الشيوعي بدا للبعض مكسباً من حيث هو سقوط نظام شمولي، غير أن
العالم الغربي جعل منه فرصة لمزيد من الهيْمنة زادت البلدان الفقيرة فقراً وتخلُّفاً ما أدَّى إلى
نجاح التنظيمات الدينية لتطرح نفسها بديلا أوْحد.
يحدد (توينبي) المراحل التي مرت بها الإنسانية كالتالي:
العهد الأول: كانت فيه الاتصالات بطيئة وتطور المعرفة أبطأ.
العهد الثاني: تطورت فيه المعرفة على نحو أسرع من انتشارها ما جعل المجموعات البشرية مختلفة.
العهد الثالث: وهو الزمن الذي نعيش فيه، تتطور فيه المعارف بسرعة ولكن انتشارها أسرع.
انطلاقا من رؤية (تونبي) يمكن القول: إن كل ما صنعته الإنسانية من أجل تميُّزها ورسْم حدوها خلال قرون طويلة صار يخضع لضغوطات تختزل الخلافات وتمحو الحدود.
لقد حدث في زمننا ما لم يحدث أبدا للإنسانية من قبل. إذْ تحققت لديها كثير من الأشياء المشتركة من المعارف والمرجعيات والصُّور والكلمات والأدوات ولكنها تدفعهم –في الوقت ذاته-إلى التميُّز. ولكنها ولَّدتْ لدى المعذَّبين في الأرض رد فعل ضد العولمة شعوراً منهم بالإقصاء وخوفا من الذوبان.
وكأن ما يعيشه العالم اليوم هو بحث دائم عمَّا غاب من حرية فردية في النظام الشيوعي الشمولي من جهة ، وبحث عمَّا افتقده النظام الرأسمالي من بُعْد اجتماعي ليبقى المسحوقون في خوف وتردُّد يجعلهم يحتمون بماض لن يعود كما كان أبداً. فالناس أبناء زمانهم أكثر مما هم أبناء آبائهم.
وإنه من الضروري الفصل بين الدين والهوية، فلطالما شاهدنا -أُمماً بلغة واحدة مزقتها الصراعات الدينية وأخرى بديانة واحدة مزقتها الصراعات اللغوية، ما يعني أن الإنسان قد يعيش بلا دين لكن يستحيل أن يعيش بلا لغة. وليس المطلوب إلغاء الهوية الدينية أو التراث إنما يتعلق الأمر فقط بإدراك أن هناك مسافة بيننا وبين الماضي. فرنسا لم تحاول أن تمسِّح الجزائريين رغم وجود بعض الحركات التبشيرية بقدر ما سعت إلى إحلال الفرنسية محل العربية. ومن الغريب أن بلداً لائكياً يُسمِّي بعض المواطنين"الفرنسيون المسلمون" ويحرمهم من حق المواطنة لأنهم ينتمون إلى ديانة أخرى.
فالهوية يُنظر إليها على أنها مجموعة انتماءات يعلو عليها الانتماء للإنسانية إلى أن يصبح البُعْد الإنساني هو الأساس من غير أن يلغي بقية الانتماءات.
ولا يمكن أن ندَّعي أن رياح العولمة تدفعنا بالضرورة إلى هذا الاتجاه ولكنها تُسهِّل المقاربة وهي في الوقت نفسه ضرورية.
إن عالم اليوم يوفِّر للذين يريدون المحافظة على ثقافاتهم كل الإمكانات للدفاع عنها عوض الانغلاق واللامبالاة. وقد يتيح التواصل عبر الإنترنيت قدرة من التأثير تتجاوز الحاكم صاحب القرار.
كما أن العالم ليس ملكاً لِعِرْق ولا لأمة ولا لأزمنة تاريخية أخرى ، بل هو لمن يدرك القواعد الجديدة فيستعملها لصالحه. فقَدَر الإنسان كالريح قد تهبُّ لتهلك ربان سفينة بينما ينجو ربان آخر لأنه عرف كيف يُوجِّهها..
====================
المرجع: Maalouf (Amin),les identités meurtrières éditions Grasset,1998  


الجمعة، 4 يناير 2019

مَن أكل البطاطا فهو آمن .. بقلم رياض أمين: صحيفة "اليوم" اليومية الجزائرية. 1999م



الذين ما زالوا يتهجمون على "البطاطا" استكبارا واحتقارا، نقول لهم: تخيلوا العالم بدونها وستعرفون حجم الكارثة التي ستحل بالبشرية...إنها الخبز الثاني للمعذبين في الأرض...
قبل حوالي 5 قرون، سافرت البطاطا لأول مرة خارج حدود بلادها بعد أن حزمت أمتعتها لتحط الرحال في إسبانيا على متن سُفن المغامرين الذين تَلَوا كريستوف كولومبس إلى "العالم الجديد" الذي ما كان جديدا إلا في أذهان آخِر مَن اكتشفوه أمثال هذا البحار الإيطالي...
عن طريق إسبانيا الكاثوليكية، التي كانت في أوج عظمتها في القرن 16م، دخلت البطاطا لأول مرة عام 1534م إلى بقية بلدان أوروبا كغنيمة حرب، لتجد نفسها مرغمة على الاحتكاك بثقافاتٍ وشعوبٍ تختلف عن ثقافة وشعب الهنود الحُمر، الذين كانوا أوّل من عرفوها وزرعوها في أمريكا اللاتينية، والأقوام التي قاسَمَتْهُم بهذه البقعة من أرض الله العيش على غرار أفارقة جنوب الصحراء والمسلمين الأندلسيين/المغاربة بقرون قبل كولومبس...
ومن أوروبا، سوف تنتشر البطاطا في جميع بقاع العالم حتى أصبحتْ مادةً غذائية أساسية لا يَجْرُأ أحدٌ على الاستغناء عنها على موائد الأغنياء والفقراء و"المعذبون في الأرض" على حد سواء.
هدية الهنود الحُمر إلى العالم
صَنَّفها القسُّ اللبناني الأب لويس معلوف في "منجد الطلاب" على أنها "نبات من أصل أمريكي من فصيلة الباذنجانيات، ثماره مختلفة الأشكال". وتَحَفَّظَ العربُ تجاهها في بداية ظهورها في بلدانهم، لأنها جاءت على متن سُفن الجيوش الاستعمارية مُعزَّزة بآخر ما أنتَجتْهُ التَّرسانات الحربية الغربية، فتعاملوا معها بِتوجُّس وحذر شديديْن مادامت، برأيهم، من "بِدع" "الكُفَّار" و"أعداء" العرب والإسلام الذين ما أَحَبُّونَا ولا تَرَكُونَا لِشأننا، ولا نحن صَبِرْنَا على هواهم...
في البداية، اختار العربُ لها اسم "القلقاس الإفرنجي"، فيما خَصَّصُوا اسمًا مختلفا للبطاطا الحلوة فيه نكهة الأصول الأمريكية العريقة ما قبل الكولومبية، ويتمثل في "القلقاس الهندي" الذي هو عادةً أكبر حَجمًا من البطاطا العادية. ولم يستقروا بَعْد عند اسمٍ مُحدَّدٍ لها، لأنهم مازالوا يترددون بين كلمتيْ البطاطا والبطاطس التي تبدو أقرب لنظيرتها الإنجليزية "بُوتِيْتُوسْ" (Potatoes) شائعة الاستخدام في المشرق العربي الذي تأثر بثقافة الاستعمار الأنجلوساكسوني.
وإذا كانت البطاطا مشهورة في كل أنحاء العالم، فإن العالم كثيرا ما ينسى أن لها قريبة في الصين لا تختلف عنها إلا من حيث الشكل تُدعى "البطاطا الصينية" التي وصفها لويس معلوف بأنها "نبتة آسيوية معرشة (...) لها جذور مختلفة وتُؤكَل كالبطاطا وتُزرَع في البلدان الحارة" كغيرها من أقربائها.
عانت البطاطا منذ بدايات وجودها في القارة الأوروبية من اضطهاد كبير. وقد اعترف الدكتور جان نيسبوم عام 1936م بالإجحاف القائم إلى غاية هذا التاريخ في حقها والاحتقار الذي تَعَرَّضَتْ له في كتابه الشهير "علوم وطبخ".
لكن الفرنسي بَارْمُونْتْيِي سبقه وطرح منذ القرن 18م قضيتها في المحافل العِلمية والفضاءات الإعلامية، وملأ الدنيا صخبًا بالحديث والدفاع عنها. بل ناضل طويلا من أجل رد الاعتبار لها. ولولاه، ربما، لَما أصبح الألمان خلال نهاية القرن الماضي أكثر شعوب العالم أكْلاً للبطاطا، ولَمَا أبْدَعَ البلجيكيون في أساليب تحضيرها وطهيها حتى تَوَصَّلُوا إلى قِمَّة اجتهاداتهم البَطاطِية وأكثرها شُهرةً وشعبيةً، وهي "الفْريتْ"، أيْ البطاطا المقلية.
ولَوْلاَ بَارْمُونْتْيِي أيضا، لأغْلَقتْ شركات "مَاكْدُونَالْدْسْ" و"كْوِيكْ" و"فْري تايْم" أبوابَ محلاتها العالمية المنتشِرة في جادات باريس ولندن وبرلين و نيويورك وتلك المحلات التي استولتْ دون حق على علاماتها التجارية دون اعتبار لـ: "حقوق التأليف" في الجزائر وقسنطينة ووهران وغيرها من مدن وبلدات العالم التي لا تُجيد السَّيْر المحترَم في رَكْبِ الأُمَم. ويَعود لهذا الباحث الفرنسي الفضْل في تحرير الفرنسيِّين من عُقدهم تجاه البطاطا وإقبالهم على أكلها رغم القذف والذَّم و"الإشاعات المُغرِضة".
"خُبْزْ القَلِّيلْ"
في مطلع القرن 20م، تَكتلتْ مجموعة من الأطباء تلقائيا لتتهجَّم على هذه النِّعمة، التي يعتبرها الجزائريون "خبز القَلِّيلْ"، أيْ قُوت الفقير، وادَّعوا أنها تُسبِّب السّمنة وتُهيِّأ الظروف الملائمة داخل أجساد آكلي البطاطا لانقضاض مرض السّل عليهم. وقالوا عنها، والعُهدة على القائل، إنها عديمة القيمة من حيث فوائدها الغذائية، فَرَدَّ عليهم الدكتور جان نيسبوم مؤكِّدًا بالحجة والدليل بأن كل هذا الهرج والمرج إشاعات "خاطئة وليست سوى خزعبلات" معتمدا على أبحاث الدكتور الدانماركي هينداد التي دامت 33 سنة والتي اعتُبرتْ ثورة في العلوم الغذائية آنذاك وأعادتْ للبطاطا مكانتها التي تليق بها والاحترام الجديرة به.
هذا العالم الدانماركي الذي بدأ أبحاثه حول البطاطا عام 1912م، توصل بتجارب ميدانية على صديق له إلى نتيجة ثورية، مفادها أن للبطاطا قدرات غذائية هائلة ما دام صديقه عاش طيلة 6 أشهر كاملة دون أن تزيد وجبتُه عن 2.5 كلغ من هذه المادة يوميا مع قيامه بأشغال شاقَّة دون أن تَتَأثَّر أو تَتَغَيَّرَ صِحتُه قيد أنملة... هذا من الناحية الصحية، أما من الناحية الاقتصادية، فهذه التجربة بَيَّنَتْ أن الإنسان بإمكانه العيش حياة عادية بـ: 35 سنتيما فقط يوميا، وهو سعر الـ: 2.5 كلغ من البطاطا في ذلك الوقت.
ثم حَسَمَ البروفيسور الألماني ألدرهالدن النقاش والجدل بشأن مدى غِنى البطاطا بالحريرات ونَسَف كل محاولات التشكيك في قيمتها الغذائية قائلا: "لم يعد هناك أدنى شك في أنه يمكن العيش بالبطاطا فقط. إن هذه الأخيرة غذاء كامل". وذهب إلى أبْعَد من هذا القول عندما أكد بأنها دواء يُشفي من الرُّوماتِيزْْم ومن أمراض أخرى كالقطرة.
عند هذا الحد، رَكعتْ أوروبا أمام عظمة البطاطا وسبَّحتْ بحمدها، وتحوَّلت إلى ناشِر لرسالتها الغذائية ولبذورها حيثما حَلَّتْ جيوشُها الاستعمارية حتى أصبح الإنتاج العالمي لهذه المادة يُقدَّر في عام 1984م بـ: 280 مليون طن، وهو اليوم في ارتفاع متزايد إلى أن بلغ عام 2011م ما لا يقل عن 374 مليون طن، أيْ بمعدَل 12 ألف كلغ في الثانية الواحدة.
وإذا أصبح الاتحاد السوفييتي في عام 2011م أكبر منتج للبطاطا في العالم بأسْره بـ: 70 مليون طنّ، تليه ألمانيا الغربية بـ: 26 مليون طن وفرنسا بـ: 14 مليون طن ثم الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الشرقية بـ: 13 مليون طن، فإن الصين قد قلبت الطاولة على الجميع وأطاحت بهذا الترتيب، وتحوَّلت إلى أكبر منتج في العالم لهذه المادة، تليها في ذلك الهند وروسيا...
البطاطا في إفريقيا تتجاوز أحيانا صلاحياتها الغذائية حيث لا تكتفي بملء البطون الجائعة فحسب بل تتسبب في تخريب العلاقات بين النُّخَب السياسية والمؤسسات. وهكذا، في نيجيريا، على سبيل المثال، أصبحتْ البطاطا عام 1998م غذاءً يوميا طيلة أسابيع متتالية للنواب البرلمانيين في هذا البلد في صيغة "كَاسْكْرُوطْ فْرِيتْ"، مما دفعهم إلى الإضراب عن العمل احتجاجًا على هذا الإفراط ومن أجل إعادة الأمور إلى نصابها وتصويب "إعوجاج" طَبَّاخي المؤسسة التشريعية ومسؤولي ميزانيتها.
البطاطا في السَّراء والضَّراء
أما في الجزائر، فقد أصبحت البطاطا منذ عقود طويلة تأكل الناس، وليس العكس، من كثرة ما داوموا عليها في مختلف الصِّيَغ والأشكال التي تتحايل الأمهات يوميا في إبداعها للحيلولة دون الاضطرار إلى مأكولات أخرى أكثر تهديدًا للأمن المالي للأسرة وأكثر استنزافا للخزينة العائلية.
وبالتالي فإن هذا الإدمان على البطاطا واضح بأنه ليس من باب العُشق والهُيام بل لقلة اليد التي تَجِد تَفَهُّمًا كبيرا لدى هذه المادة التي لا تُكثِر عادةً من مطالبها وتَحرِص على المحافظة على "رُخصِها"، فضلاً عن مزاياها الأخرى المتعددة في المطبخ ومرونتها الفائقة التي تسمح لها بالانسجام مع مُعظَم الوجبات وبالتعاطي مع غيرها من الخضر، وحتى الفواكه، واللحوم ومختلف المواد الغذائية.
لا يجب أن يُنسينا شواءُ عيد الأضحى وبوزلُّوفُهُ وكَرْشَتُه (الدُّوَّارَة) بأن البطاطا قابلة للأكل في هيئة سَلاطة بنفس المذاق اللذيذ التي تُوَفِّرُه لنا عندما تُقبِل علينا في صيغة "جْوَازْ"، وتتعاطى مع الكُسْكُس النّد للنّد ودون عقدة نقص من اللَّحم الذي يُولِي له الجزائريون أهمية تفوق بكثير قيمته الحقيقية وتُخفي أضراره وكوارثه على الصحة البشرية. بل هناك مَن أصبح يُخطئ بزلاَّت لِسان وخيمة العواقب في الآخرة عند حديثه عن الماء ويقول "وجعلنا من اللحم كل شيء حيّا".
كما تملك البطاطا القدرة على رفع شأنها والاستئساد عند الضرورة في بيوت أهل التّرف المستأسِدين علينا والتَّحوَّل إلى طبق أرستقراطي راقٍ، وهي مُحقِّة في ذلك لأن المثل يقول "عزّ روحك يعزّك الله"، فتأتي إلى الموائد مُتمنِّعة "مُتدلِّعة" في شكل "كْبَابْ" جزائري أو "ضُولْمَة" عثمانية بنكهة قصبجية أو قسنطينية وتلمسانية.
وفوق كل ذلك، من باب الاعتراف بالفضل والإنصاف، الجميع يعلم أن البُورَاكْ لا يكاد يكون بوراكا ولا البْرِيكْ يستأهل اسمَه عن جدارة إذا غابت عن أحشائهما ولو بعض الجُزيئات من البطاطا. أما إذا قرَّرتْ هذه الأخيرة اقتحام "الكُوشَة"، الفرْن، في شكل "غْرَاتَانْ" فـ: "سَبِّح بنعمة ربِّكَ وحدِّثْ". وهذا دون ذِكْر مَحاسِنها ومَفاتِنها للبطون وهي في شَكلها "الفْرِيتِي" الذي اكتسح المطابخ والموائد عبْر العالم دون استثناء، لا سيَّما مطاعم الأكل السريع، موحدا بين الثقافات ولامًّا شَمْلَ البَشَر كأحد أهمّ وأبرز مظاهر ما أصبحنا نصطلح عليه بـ: العولمة.
في الجزائر، داخل المطابخ العائلية كما في المطاعم العامة، بلغتْ الجرأة بالبطاطا في المناورة وسرعة التَّكيُّف أن اقترَنتْ بزواج مُتْعة طال أمدُه مع البيْض، فأنجبتْ مولودا محمودًا بَهيّ الطلعة وبه شُقرَة سُمِّيَ منذ ميلاده على بَركة الله الـ: "فْرِيتْ أومْلاتْ"، ولم يُسعفنا الحظ حتى اللحظة هذه في أن نعثر على هذه البدعة البطاطية في غير الجزائر.
"نِيقْرُو بَطَاطَا خُبْزَة وَشْلاَظَة"...
اعترافا بالفضل وبالجميل، ومن باب الشهامة الجزائرية، التي كثيرا ما تَقْتُل، كُرِّمَتْ البطاطا بإطلاق اسمها على ملعب لكرة القدم بِحَيّ لاَكْرْوَا في ضاحية القُبّة بمدينة الجزائر: "سْتادْ بطاطا"، وعلى محطة الحافلات الواقعة بين اسْطَاوَالِي وسيدي فْرَجْ (لاَرِي بَطَاطَا). وأُدمِجتْ في الأهازيج الشعبية في السِّتينيات من القرن الماضي وربما حتى قبلها عندما كان الاطفال دائمي الهُتاف: "نِيقْرُو بَطَاطَا خُبْزَة وَشْلاَظَة"...
التكريم تجاوز التوقعات، إذ أصبحتْ البطاطا لقبًا لعائلات كبيرة في البلاد، بعضُ أفرادها اليوم من كِبار موظَّفي الدولة الجزائرية، مثلما هو الشأن في قطاع التربية وفي وزارة الخارجية. كما أَطلَق أنصارُ فريق وِدَاد الرّْوِيبَة لِكرة القدم، قرب مدينة الجزائر، اسمَ هذه "الخُضْرَة" لقبًا "تدليعيًا" على أقرب لاعب إلى قلوبهم وهو المرحوم "بَطَاطَا"، أيْ مَبْرُوكِي الذي توفي عام 1999م.
في مجال العلاج الاستعجالي، حوَّل الجزائريون البطاطا إلى دواء فعال ضد آلام الرأس ولتخفيف آلام العيْن عند مُمارِسي مهنة التَّلْحيم. كما خففوا بها من وطأة انتفاخ الكدمات في الرأٍس والوجه. ولجأوا إليها حتى إلى التعبير عن الغضب والاحتجاج في الملاعب الرياضية برشق المنافسين والخصوم بها.
أما ما لم أتوقعْه أبدا، وربما لم يَخْلُدْ على بال، هو ما كتبه أحد مراسلي الصحيفة اليومية الجزائرية "اليوم"، التي نَسيتْ عند تأسيسها على الأقل أن تكتب على صفحتها الأولى كما جرت العادة مع كل الصحف "المستقلة" كذبًا ونفاقًا بأنها مستقلة، فقد قال قبل أسابيع بأن هناك من يَستخدِم البطاطا في بلادنا في عمليات الإجهاض وبفعالية مثيرَة، لأن رحم المرأة، على حد قوله، بيئة خصبة لنمو هذه "الخُضْرَة" وسد الطريق في وجه الجنين ومَنْعِه من النمو والتَّطور... والعهدة على الراوي، لأنه لم يتيسر لنا التحقق من صحة هذا الزَّعْم عِلميًا.
نَتْرُكُ الجواب لِعلماء الأجنة وأمراض النساء الذين يَتَعَيَّن عليهم أن يقوموا باختبارات طويلة النَّفَس شبيهة بتجارب الطبيب الدانماركي الباحث الخبير في مجال التغذية هينداد، ولو أن هذا الأخير كان بإمكانه توفير الكثير من جهوده وسنوات عُمره لو استشار سكان مدينة معسكر الجزائرية والحقول المحيطة بها عن أسرار البطاطا التي تُعتبَر وطنَهم الثاني بعد الجزائر.
أما الذين يَتَهَجَّمون على هذه النِّعمة الإلهية استكبارًا واحتقارا وذوي الألسنة الطويلة التي يتجاوز مداها حدودَ أفواهها التي تختبئء فيها، فنقول لهم: تخيلوا العالم بدون بطاطا بل الجزائر بدون بطاطا، لا سيما ونحن نغوص بأقدامنا يوما بعد يوم في أزمة مالية تزداد حدة، وستفهمون حينذاك ما الذي تعنيه البطاطا في زمن تَسُوسُنَا فيه أنظمةٌ بطاطا.
رياض أمين: صحيفة "اليوم" اليومية الجزائرية. 1999م.



Image associéeL’image contient peut-être : nourriture

الخميس، 3 يناير 2019

هل العلموية و الإنسانوية هما البديل الأفضل فعلاً؟ ... بقل سيف البصري


الإلحاد الجديد، على عكس الأديان الإبراهيمية، لم يبطش بأرواح البشر على مر التاريخ من أجل فرض نفسه على الساحة. و هذا الفارق يحسب له، لا شك. كما أن عدد اللادينيين من بين سكان الكوكب قد يتراوح بين الربع و الثلث، أي حجم لا يستهان به. لكن تزايد أعدادهم لا يعلله التنوير فقط، كما قد يظن البعض. هنالك عوامل أخرى، و لو ناقشناها سويةً، سنفهم الصورة أكثر؛ أو بالأحرى ستفهم عزيزي القارئ الصورة في ذهني بشكل أفضل.
يمكن تلخيص أسباب فقدان الكنائس و المعابد الدينية للتابعين في الدول المتقدمة من حيث القيمة السوقية مثلاً.
دعني أبسّط الفرضية هذه على شكل نقاط مختصرة:
أولاً، المستوى العِلمي اليوم أفضل؛ شبكات الضمان الاجتماعية الحكومية توفّر نوعاً من الأمن، خصوصاً للأسر الصغيرة، و بالتالي هناك قدر أقل من الخوف و عدم اليقين في حياة الناس اليومية، و هذا ما يحجّم تسويق البضاعة الدينية في الحياة اليومية.
ثانياً، هنالك اليوم العديد من المنتجات البديلة، مثل الأدوية النفسية و التسلية الإلكترونية التي لا تتطلّب الإيمان و الالتزام بتعاليم صارمة، التي تضيق الخناق هي أيضاً على الدين. مع ذلك، تجد أن أي تخبّط اقتصادي و عاطفي يدفع بالكثير إلى العودة إلى الدين كمفر من قساوة الحياة و الواقع. و هذا بغضّ النظر عن كونه سلبياً أو إيجابياً، يعكس لون من ألوان النفسية البشرية، لربما حاجة نفسية عميقة؟ و مع أني على يقين أن البعض قادر على العيش بشكل سعيد و بنهج صالح دون هيكلية دينية أو روحانية، إلا أن الإنسان العادي بطبعه و الذي يمثّل الأغلبية من بني جنسنا، يحتاج لبوصلة في حياته اليومية تمكّن الفرد من الاندماج مع المحيط و الملاحة بين المعضلات الأخلاقية و الواجبات الاجتماعية.
عدم اليقين الاقتصادي أو التحديات العاطفية هي مخاوف تهيمن على واقع الإنسان المعاصر، سواء دفعت به إلى العودة أو النفور من الدين.
و مع ذلك، بالنسبة للكثير من الناس، الدين ليس مجرد وسيلة للتعامل مع الخوف و عدم اليقين أو الصعوبات العاطفية. فالعديد من الناس يتبّع طريقة حياة دينية معينة إما لأنهم يعتقدون أنها صحيحة أو لأنها تضفي على وجودهم معناً في هذا الكون الشاسع الغريب. حاول أن تضع في الحسبان أننا لا نتكلّم عن كائن عاقل ٢٤ ساعة في اليوم. نحن البشر ما نحن عليه، بعقلانيتنا و بلاعقلانيتنا.
كما أنه بالنسبة لي من غير الواضح كيف سيحل الإلحاد الجديد أو الإنسانوية محل الدين ويضمن توريث الحكم البشرية التي لا تتحمّل التقنين، كالاحترام، العطف، الإحسان، الشهامة، الرفق بالآخرين و تقديس العائلة كنواة المجتمع و غيرها من حكم الأجيال السابقة؟ عن طريق قوانين و تشريعات؟ بالفرض و الإجبار؟ أو بسياسات الصواب السياسية؟
مع أن الكثير من الأديان بزغ نجمها على مجازر لا تحصى حلّت بالبشرية، إلا أن إهمال حقيقة كون الدين نتج عن مراحل عديدة من تطوّر وعي و تجارب الإنسان، سيدفع بنا إلى المجازفة بـ آلاف السنين من التجارب البشرية و الحكم المتراكمة.
كشخص طبيعي أحاول فهم دور الدين، الدافع لنشوءه؛ لماذا وجد؟ لماذا هذه المشتركات الكثيرة بين الأديان رغم اختلاف المكان و الإثنيات؟ مالحكمة وراء ذلك؟ مالذي يمكن أن نفهمه من دراسات الحيوانات الأخرى التي تتصرّف بشكل يمكن تشبيهه بالقوانين الأخلاقية؟ (أنصح بمتابعة أو قراءة كتب البرايموتولوجست الرائع فرانس دي ڤال). ماهو دور الميثيولوجيات في نشوء الحضارة؟ و هل كان من الممكن أن تنهض دونها؟
من السذاجة و الغرور أن نخلط الغثّ و السّمين معاً، لأن الموضوع أعمق و أقدم من أن ينهيه حديث واحد. لكن ما يمكن استنتاجه من التاريخ، هو أن الدين أقرب عملياً إلى الحياة اليومية و أكثر خبرة في تقديم طرق لخوض حياة صالحة من الإلحاد الجديد، على الأقل للعوام بشكل شمولي. من خلال تشكيل و ممارسة المعتقدات يمكن أن يبني الإنسان حياة متماسكة و ذات مغزى. والإلحاد الجديد هو في الأصل جواب على سؤال وجودي، لا أكثر. لا يملك منظومة تعاليم مشتركة أو مدوّنة.
و لذلك تجد الملحدين الجدد لاينفكون عن الدفاع و التفاخر بحقوق الإنسان و الإنسانوية كبديل عن الاضطهاد الديني. بكل بساطة لأنه لا يوجد بديل آخر.
و مع أنني أجد حقوق الإنسان متبلورة عن الأديان نفسها و فلسفات البشر السابقين، إلا أنها بدأت تأخذ طابعاً عقائدياً يثير مخاوفي أكثر من أن يجذب اهتمامي.
لذا، إذا كان هناك شيء يحل محل الدين، فلن يكون ذلك هو الإلحاد كبديل؛ ربما الفلسفات ذات الطابع الديني أو الفلسفة التجريبية كالرواقية، أو ربما بعض أشكال الإنسانية العلمانية في مناطق صغيرة و منظّمة حضارياً سوف تنجز هذه المهمة. فالحاجة موجودة و السوق واسع.
و مع أنني أفضلّ الفلسفة التجريبية على الدين، إلا أني أقر بأن الدين يبرع في المحافظة على الهرمية الاجتماعية و الأسرية و يمتلك ورقة ”القداسة‟، الميمة الأنجح في تاريخ الثقافة البشرية.
نعم، القداسة سيف ذو حدين. و لاشك أن ماضي و حاضر البشر مليئان بالأحداث و المذاهب التي تقدّس البغض و التقاليد الجاهلة؛ هذه الهالة من القداسة لابد من أن تُرضّ و تُحطَّم بين الحين و الآخر حتى لا تتحوّل إلى تقاليد جامدة أو تشريعات متطرّفة. لكنها أيضاً إحدى المفاهيم الفلسفية الدينية التي حافظت على قيم جوهرية نحتت الإنسان الاجتماعي كما نعرفه اليوم


في نقد العلمويين بقلم سيف البصري

هنالك حلم، رغبة خيالية تخالج عقول الإنسانويين: أن العِلم هو المنقذ الذي سيجلب العقلانية إلى العالم اللاعقلاني.
حملات التنوير مازالت حتى اليوم تكتسح الكتب و المنظمات و تعشعش في عقول الكفاءات العلمية و الفلاسفة المعاصرين. كما أنها فكرة تلهم عقول الشباب و المندفعين للتغيير.
لست هنا أتكلّم عن محاربة الجهل، بالعكس، فطلب العِلم فضيلة، بل مصدر قوة، و من يرغب باعتلاء المكانة الاجتماعية في محيطه، لاخيار أمامه سوى التسلّح و المنافسة. إفهم قصدي جيداً: الدوافع العقائدية هي ما تهمني.
ما هو الدافع العقائدي الذي يدفع بتنويري علموي لمحاربة منظومات دينية عقائدية أيضاً؟ بالنسبة لي الإثنان في صراع أفكار سينتصر به من يجيد استخدام الميمات الثقافية الناجحة.
العقائد الإبراهيمية صارمة في طرحها المطلق. ومع أن الإنسانويون أقل حدة و أكثر شكاً في تصوّرهم العالم، إلا أن ”إيمانهم‟ بأن العِلم هو المنقذ و أن البشرية يجب و سوف تنتصر على اللاعقلانية، لا يختلف كثيراً عن الدين. فلسفة التنوير بزي الإنسانية Humanism هي عقيدة يائسة للأسف.
لكن البشر بحاجة لوهم. لوهم غير عاقل يروّج للتقدّم نحو الأفضل. دونه سنكون فريسة سهلة للعدمية. والأمل بالمستقبل يفتح الأبواب أمام الكثير من الفرص، لكننا ننسى أنها دائماً تتأرجح بين النجاح و الفشل.
و لا أخفي عنك، أنا نفسي آمل نحو الأفضل، لأن أسلوبي في الحياة يتطلّب مني ذلك. لكن ذلك لايعني أنه هو الخيار العقلاني حتماً.
فمن الطبيعي أن نستبشر بالعِلم كوسيلة لتجاوز مشاكل البشرية. فشرعية العِلم تنبثق من السلطة التي يمكّن بها البشر على الطبيعة حوله. و العِلم أنقذ الملايين من البشر، سهّل حياتنا اليومية، قرّب المسافات بيننا، خلق أبعاداً جديدة كانت في السابق لا تجدها سوى في بعض قصص الخيال العلمي. ناهيك عن التقدّم الطبي و تمديد عمر الإنسان. هذا لوحده كافٍ لأن يدفع بالبعض ليؤمن بأن العِلم هو المنقذ، الخلاص البشري.
مع ذلك، تجريد العِلم من الحاجة البشرية و الملذات الدنيوية و اللاعقلانية لبني جنسنا، يعني أننا نعزل العِلم عن أصله و وظيفته كأداة لا أكثر و نعطيه بعداً يتسامى لدرجة تخلق منه عقيدة واهمة هدفها البحث عن الحقيقة.
و لذلك أجد أن العلموية أو الإلحاد الجديد قد وقعا في هذا الفخ تحديداً، و هو مادفع ببزوغ فكر جديد حاول العودة إلى الماضي، إلى الفلسفات و إلى الأديان القديمة و الأساطير و حتى العلِم الحديث. فكر يحاول أن يعود بخطوة إلى الوراء، ليعيد تنقيح مرحلة الفهم، فهم الطبيعة و قوانينها و ارتباطنا المباشر بها، أسس الحضارة و مقوّماتها و أيضاً قدرتنا على الحكمة و الجهالة في نفس الوقت، قبل أن ننتقل إلى مرحلة أخرى، ناهيك عن الحكم على الكون و الإفتاء به. إنهم الطبيعيون الجدد.
لنعرّف أولاً أن الطبيعي هو ذاك الذي يجمع بين حقيقة التطوّر و دور الطبيعة المتجذّر في جيناتنا، أهمية العِلم (كأداة لا كمخلّص)، و دور الفلسفة و الأساطير و الأديان (في جوهرها) في تهذيب ذات الإنسان و تسليحه بما يمكّنه من عيش حياة فاضلة ذات معنى في مجتمعه. و هنا لا أقصد الأديان كمؤسسات و كأنظمة سياسية، بل كهيكل اجتماعي حافظ على قوانين و حكم تراكمية بشرية و أطّرها بشكل مكّنها من عبور الأجيال و الصمود لآلاف السنين.
الطبيعي يحاول فهم أصول الدين، دوافعه و نشأته، قبل أن يحكم عليه بالنفي من الوجود أو يزاحمه. الطبيعي يقرّ بقوانين الطبيعية الأم و تأثيرها المباشر علينا. الطبيعي يدرك قصور الإنسان في فهم التعقيد حوله. الطبيعي يدرك أهمية الحكمة و الهرمية في خلق بعد اجتماعي متوازن و صالح،  كما يدرك أن العِلم هو أفضل أداة 
نملكها لتفسير الكون، كوسيلة، لا كمحرر من كل القيود






في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...