الجزء الثامن
محمد الصالح يحياوي أول من يكسر حاجز التحفظ
"سي بومدين، هل تظن أن تعيين لشرف على رأس وزارة التربية، قرار صائب ولن يتسبب في أي مجزرة على مستوى قطاع التعليم"؟
محمد الصالح يحياوي للرئيس بومدين أبريل 1977.
خلال الفترة الممتدة بين 28 أبريل 1977 (تاريخ الإعلان الرسمي عن التشكيلة النهائية للحكومة)، و03 مايو 1977 (تاريخ أول اجتماع للحكومة الجديدة)، أمر الرئيس بومدين الأجهزة السياسية والأمنية أن تجس نبض وردود الأفعال الداخلية والخارجية، فيما يخص تشكيلة حكومته الجديدة، التي اختلفت وجهات النظر وتعددت الآراء فيها، فبعض الجهات الرسمية (جهاز الحزب على وجه الخصوص وبعض قيادات الجيش) تحفظت على بعض الأسماء التي تولت مناصب وزارية، كما استهجن الكثير من المتابعين تعيين بوعلام بن حمودة وزيرا للأشغال العمومية، بينما كان قبلها وزيرا للعدل حافظا للأختام، فأين الصلة بين العدل والأشغال العمومية؟
كما اعتبر الكثير من إطارات جهاز الحزب، تعيين مصطفى لشرف على رأس وزارة التربية الوطنية، نوعا من التراجع عن سياسة التعريب، التي خطت خطوات كبرى منذ الاستقلال إلى ذلك التاريخ، وكثير من قيادات الحزب ألمحت إلى أن عبد الحميد مهري، الذي كان حينها أمينا عام لوزارة التعليم الابتدائي والثانوي، أحق بالوزارة من لشرف (1)، بينما اعتبرت جهات خارجية (2) أن بومدين شكل حكومة مسيرين لا غير (3)، وتضاربت الآراء، وكثر القيل والقال، ولم يتجرأ أحد على مواجه الرئيس بومدين بالحقيقة، باستثناء المقدم قاصدي مرباح الذي اقتصرت مهمته على تقديم تقارير كتابية عن قراءة أجهزته لردود الأفعال الداخلية والخارجية فقط، حتى كسر العقيد محمد الصالح يحياوي (4)، جدار الصمت والتحفظ حين اتصل بعبد المجيد علاهم، ليطلب لقاء الرئيس بومدين لأمر مهم دون أن يحدد طبيعته، فما كان من بومدين إلا أن ضرب له موعدا صبيحة اليوم الموالي.
استقبل الرئيس بومدين، العقيد يحياوي في الموعد الذي حدده له، وبعد تبادل عبارات المجاملة والترحيب، تفاجأ الرئيس بومدين أن القضية التي جاء من أجلها العقيد يحياوي لا علاقة لها بشؤون الجيش.
فيحياوي المعروف بصرامته، وانضباطه الشديد، دخل مباشرة في صلب الموضوع الذي جاء من أجله ليقول: سي بومدين ليس من عادة العسكريين، التدخل في العمل الحكومي، لكنني كعضو في مجلس الثورة، أظن أنه من حقي طرح سؤال، لم تسمح لي الظروف بطرحه قبل اليوم، راجيا أن يتسع صدرك له.
فأشار إليه الرئيس بومدين برأسه بـ (نعم)؛ ليطرح يحياوي سؤالا ثقيلا نزل على الرئيس بومدين ثقل جبال الأوراس فقال: سي بومدين، هل تظن أن تعيين لشرف على رأس وزارة التربية، قرار صائب ولن يتسبب في أي مجزرة على مستوى قطاع التعليم؟ (5). نظر الرئيس بومدين بتمعن ليحياوي بضع ثوان قبل أن يرد قائلا: لقد سبق وأن قلت لبلعيد عبد السلام إنني أعتبر من دواعي الفخر أن يكون إلى جانبي شخصية مثقفة، وصاحب رأي سديد، على شاكلة مصطفى لشرف (6).
ثم أضاف: اسمح لي أنا أيضا أن أطرح سؤالا مباشرا، أرجو أن تجيب عليه بدون تحفظ:
على أي أساس استنتجت أن قرار تعيين لشرف وزيرا للتربية غير صائب؟
وعلى أي أساس استنتجت أنه سيرتكب مجازر في القطاع الذي هو مسؤول عنه؟
حاول العقيد يحياوي تلطيف الجو بينه وبين الرئيس بومدين فرد مازحا: قلت إنك ستطرح سؤالا واحدا، لكنك طرحت اثنين، فتبسم الرئيس بومدين.
ثم أردف يحياوي قائلا: لا خلاف في أن لشرف شخصية على قدر عال من الثقافة، لكن أغلبية الإطارات الذين عرفوه وعملوا معه قبل اليوم، يؤكدون أنه لن يتوانى في إعادة النظر في سياسة التعليم المنتهجة منذ 1962، وقد يعيد النظر في كل شيء، فيرجعنا للخلف بدلا من أن يقدمنا للأمام؛ أعلم أنه قد فات الأوان على مثل هذا الكلام، لكن كان من الأفضل الاحتفاظ بعبد الكريم بن محمود على رأس وزارة التربية، أو تكليف مهري بدلا منه، فهو أحق بوزارة التربية من لشرف، أما الآن وقد صرنا جميعا أمام أمر واقع، فالمطلوب إقناع لشرف بإكمال المسيرة التي بدأت عام 1965، وليس تكسيرها وإعادة النظر فيها، وأذكرك سيدي الرئيس أن لشرف خلال كتابته للشق المتعلق بالتربية والتعليم في الميثاق الوطني، لم يُخف ازدراءه للسياسة المنتهجة في مجال التربية والتعليم، ومن هذا المنطلق يمكن الاستنتاج أنه سيأتي بعكس السياسة المتبناة في الميثاق (7)، وعلى ضوء ذلك استنتجت أنه سيرتكب مجازر في القطاع الذي هو مسئول عنه.
سكت الرئيس بومدين قليلا ثم قال ليحياوي: إن لكل مقام مقال، وإنه من السابق لأوانه الحكم على الرجل قبل أن يباشر مهامه، فحتى هذه اللحظة لم يرتكب لشرف أي شيء يلام عليه، وقد اخترته لتولي حقيبة التربية لسببين رئيسيين:
أولهما: أنه بحر من المعرفة، يمكنها أن يكون قيمة مضافة في ترقية التعليم، فالمطلوب منا الآن الرفع من مستوى التعليم في البلاد، ولشرف أحسن خيار يمكنه إكمال المسيرة وتحقيق الهدف المنشود.
ثانيهما: لقد أشرف مصطفى لشرف بنفسه، على اللجنة الفرعية التي كتبت الميثاق الوطني، في شقه المتعلق بالتربية والتعليم، فهو أفضل من يمكنه أن يحقق الأهداف المسطرة في الميثاق لأنها من صلب أفكاره.
لينتهي اللقاء بين الرجلين، بوعد قطعه الرئيس بومدين لضيفه، مفاده أنه سيحرص شخصيا على إعطاء التوجيهات اللازمة، لوزير التربية، حتى يكمل المسيرة التي بدأت عام 1962 (8)، وألا يقوم بأي عمل قد يمس سياسة التعريب المنتهجة منذ الاستقلال.
بعد ذلك اللقاء مباشرة، طلب الرئيس بومدين من الأمين العام الجديد لرئاسة الجمهورية عبد المجيد علاهم، أن يعلم جميع الوزراء بأنهم مدعوون لأول اجتماع لمجلس الحكومة يوم الثلاثاء 03 مايو 1977 (9).
صبيحة اليوم المحدد، اجتمعت الحكومة الجديدة لأول مرة، تحت رئاسة الرئيس هواري بومدين، الذي أبدى صرامة تجاوزت المعهود، فلم يُخف امتعاضه من التأخير الذي رافق تشكيل الحكومة، لكنه أغلق الباب أمام أي نقاش حين قال إنه بعد أن أفرغ ما في قلبه، يطوي صفحة ويفتح صفحة جديدة، كما حدد بدقة المطلوب من الوزراء في مهامهم الجديدة، وحث الجميع على ضرورة التكاتف وتنسيق عملهم، بحيث تكون الحكومة جسدا واحدا، يسير بنفس الإيقاع، وأكد أن الثورة الزراعية مشروع وطني غاية في الحساسية، كان وسيبقى أحد المحاور الكبرى لسياسة التنمية الوطنية، فكما يعيش أبناء المدن في نوع من الرفاهية ومستوى معيشي متطور، علينا كحكومة أن نضع أبناء الريف في نفس المستوى، إذ لا فرق بين سكان المدن وسكان الأرياف، ويجب أن يشمل ذلك تحسين ظروف معيشة الفلاحين.
خلال نفس الاجتماع، تكلم الرئيس بومدين بإسهاب، عن وجوب إعادة بعث دور جهاز الحزب، تمهيدا لانعقاد مؤتمره الذي سيكون فرصة جديدة، لإعادة صياغة الأرضيات السياسية والاقتصادية للدولة الجزائرية، وأنهى كلمته بأنه قرر فتح تحقيق معمق حول ممتلكات وأسلوب معيشة جميع الموظفين السامين بدون أي استثناء، وأن هذا التحقيق سيشمل عائلات كبار المسؤولين وزوجاتهم وأبناءهم بل وحتى والديهم والإخوة والأصهار، ليؤكد للمرة الثانية أنه لا مجال للجمع بين الثورة والثروة، فقد سبق أن تكلم في الموضوع أثناء خطاب قسنطينة في جوان عام 1974 (10).
عند اختتام اجتماع مجلس الحكومة، طلب الرئيس بومدين من الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي البقاء رفقة وزير الثقافة والاعلام رضا ملك لصياغة البيان الختامي لاجتماع مجلس الحكومة، ثم طلب من الدكتور محيي الدين عميمور الاشراف على نشر البلاغ بدلا من وزارة الاعلام، مما أوحى وكأن الرئيس لا يثق في وزير إعلامه، أو عن الأقل لا يريده أن يرتكب أي خطأ في انتظار إلمامه بمهامه الجديدة.
باشر جميع الوزراء مهامهم، باستثناء وزير التربية مصطفى لشرف، الذي غادر الجزائر نحو العاصمة المكسيكية، ليقوم بتصفية أعماله والقيام بإجراءات توديع السلطات الحكومية المكسيكية كما هو التقليد في العرف الدبلوماسي، إلا أن لشرف أطال الإقامة في جمهورية المكسيك، مما أثار حفيظة الرئيس بومدين الذي طلب من عبد المجيد علاهم، الاستفسار في الموضوع، لأنه من غير المعقول أن يقبع سفير منتهية مهامه في منصبه، بينما منصبه الجديد قد تولاه فعليا بتاريخ 12 أبريل 1977، حين جرى حفل استلام المهام بينه وبين الوزير السابق للتعليم عبد الكريم بن محمود (11).
تطبيقا لأمر الرئيس بومدين، اتصل عبد المجيد علاهم هاتفيا بمصطفى لشرف، ليبلغه أن الرئيس بومدين غير راض تماما عن بقائه في العاصمة مكسيكو، بينما منصبه كوزير للتربية بقي شاغرا في غيابه، فكان رد مصطفى لشرف أن السنة الدراسية قد أشرفت على نهايتها، وأنه منشغل بتحضير برنامج عمل وزارته، لذلك يريد البقاء بعيدا عن الضوضاء ليقوم بعمله على أكمل وجه، كما أن الأمين العام للوزارة عبد الحميد مهري، يمكنه القيام باللازم في غيابه.
حين أبلغ عبد المجيد علاهم الرئيس بومدين بالخبر، استبشر الرئيس خيرا، لأن جميع مصادره كانت تقول إن مكوث العروبي عبد الحميد مهري، لن يطول إلى جانب وزير التربية الجديد، بسبب الاختلاف الجوهري في التوجهات الفكرية بين الرجلين.
يتبع
الهوامش:
1- مصدر خاص.
2- المقصود فرنسا.
3- راجع جريدة لوموند الفرنسية الصادرة بتاريخ 29 أبريل 1977.
4- كان العقيد محمد الصالح يحياوي حينها عضوا في مجلس الثورة، ومديرا للأكاديمية العسكرية بشرشال منذ 1969.
5- مجموعة حوارات خاصة وحصرية مع عبد المجيد علاهم.
6- راجع جريدة الشعب العدد الصادر بتاريخ 09 جويلية 1990 (حوار مع بلعيد عبد السلام).
7- نفس المرجع الثالث.
8- نفس المرجع السابق.
9- راجع الجرائد الوطنية الصادرة بتاريخ 04 مايو 1977.
10- راجع خطاب الرئيس بومدين في قسنطينة بتاريخ 06 جوان 1974.
11- راجع الصورة المرفقة رقم .....
الصور والوثائق المرفقة:
1- نسخة من مقال جريدة لوموند الفرنسية متعلق بتشكيلة حكومة 1977.
2- مقال من جريدة الشعب الصادرة بتاريخ 03 مايو 1977 متعلق بأول اجتماع للحكومة الجديدة.
3- صورة رقم 01 استقبال الوزراء من طرف عبد المجيد علاهم لحظة دخولهم لقاعة الاجتماعات دخول وزير المجاهدين محمد السعيد معزوزي.
4- صورة رقم 02 استقبال الوزراء من طرف عبد المجيد علاهم لحظة دخولهم لقاعة الاجتماعات دخول وزير السكن و البناء عبد المجيد اوشيش.
5- صورة رقم 03 منظر لقاعة اجتماعات مجلس الوزراء اول اجتماع لحكومة 1977.
6- صورة رقم 03 منظر لقاعة اجتماعات مجلس الوزراء اول اجتماع لحكومة 1977.
7- صورة استلام المهام بين عبد الكريم بن محمود ومصطفى لشرف 12 ابريل 1977.
المراجع والكتب:
1- كتاب "أنا وهو وهم" للدكتور محيي الدين عميمور.
2- كتاب "الفرص الضائعة" للدكتور محيي الدين عميمور.
3- "التاريخ السياسي للجزائر من 1962 إلى يومنا هذا" للدكتور عمار بوحوش.
4- كتاب "مذكرات جزائري" للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي - الجزء الثاني والثالث.
5- كتاب "حقائق حول الثورة الجزائرية" لمحمد لبجاوي.
6- كتاب "الجزائر وفرنسا 50 سنة من التاريخ" الجزء الأول.
7- كتاب "الجزائر.. فرنسا والولايات المتحدة من الخطب للعمل".
8- كتاب "المسبح جهاز المخابرات الفرنسية من 1944 الى 1988".
9- كتاب "السياسة الخارجية الجزائرية من 1962 إلى 1978".
10- كتاب "الصدفة والتاريخ" - الجزء الثاني.
التقارير والوثائق:
1- مراسلات دبلوماسية فرنسية 1962 إلى 1979. (مرفوع عنها طابع السرية).
2- مراسلات دبلوماسية أمريكية 1962 إلى 1977. (مرفوع عنها طابع السرية).
3- مراسلات دبلوماسية سوفييتية 1962 إلى 1977. (مرفوع عنها طابع السرية).