السبت، 28 يونيو 2025

فلسفة الهجرة ، بقلم الدكتور خالص جلبي


 المشكلة في الذين تركوا الوطن ليست واحدة بل ثلاث: فالذين ذهبوا إلى الغرب أصبحت حياتهم لا تعرف الهدوء فقد دخلت الزوبعة إلى حياتهم إلى أجل غير مسمى. ولعلها ستبقى ترافقهم مثل الحمى المالطية حتى نزع الروح. ويقول المثل الشركسي: من يخسر وطنه يخسر كل شيء. حتى يجد وطنا جديدا لن يكون وطنا. وعندما عرض على (فيرنر هايزنبرغ) الدماغ الفيزيائي صاحب نظرية الارتياب في ميكانيكا الكم الهجرة إلى أمريكا كان جوابه: إنه قرار يجب أن يحسم في عمر مبكر. فمن نشأ في ثقافة بعينها حتى عمر معين تصبح تلك البيئة له أكثر الأوساط تأثرا منها وتأثيرا فيها. كان جوابه: سأرجع إلى ألمانيا حتى إذا انهدمت المدن الألمانية قمت بتربية جيل ما بعد الكارثة. وهو الذي حصل عندما دشن معهد ماكس بلانك في فروع لا نهاية لها من العلوم.     
والمشكلة الثانية أن من هاجر واحتك بالحضارات الأخرى يصل إلى وضع لا يحسد عليه، فلم يعد الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده فهو نفسياً في الأرض التي لا اسم لها. ومن أجمل ما قرأت نقلا عن مهاجر ألماني ما معناه أن الذي يرى وطنه جميلا فهو لا يفهم الحياة، ومن شعر بالغربة في الهجرة فهو غير ناضج، ولكن من شعر بالغربة في كل العالم فهو المواطن الصالح. يقصد بهذا إن وجودنا في الأرض كله يقوم على التوقيت والإعارة وأننا البشر من التراب وإليه نعود. وهذا يقرب إلى وعينا صدى تلك الجملة العميقة التي نطقها المسيح عليه السلام: مملكتي ليست من هذا العالم. 
ويعتبر قرار الهجرة ثالثاً من أصعب وأخطر القرارات في حياة الإنسان ولعله يكون طريق باتجاه واحد. ومشكلة الغرباء أنهم يبقون غرباء لفترة طويلة وقد تدوم هذه الغربة مدى الحياة. وعلى من يتخذ قرار الهجرة أن يتذكر ثلاث أمور: أنه قرار لا يتعلق به وحده بل ذريته من بعده. ثانياً أنه قد يكون هجرة بغير عودة. وثالثا ليتذكر قول الفيلسوف ديكارت أن من يكثر التنقل يصبح غريبا في بلده.  
الهجرة ظاهرة كونية مثل الوحي فكما أوحى الله إلى أنبياءه روحاً من أمره، كذلك أوحى إلى (النحل) أن اتخذي من الجبال بيوتا. وأوحى إلى (أم موسى) أن أرضعيه. كل بطريقته الخاصة. ولا يهاجر الإنسان فقط بل سمك السلمون والنحل والطيور والفراشات. ويهاجر الرجل والمرأة إلى عش جديد لتوليد عائلة جديدة. فهذا قانون وجودي. 
الطيور تهاجر تبحث عن الحب. وسمك السلمون يهاجر في ملحمة رائعة من نهر فرايزر في كندا ليقطع رحلة عشرة آلاف كيلومتر حتى المحيط. وتغادر الفراشات (الملكة) شمال أمريكا لتصل إلى أمريكا الجنوبية فتتبدل خلقا من بعد خلق. ولكن هجرة الإنسان غير هجرة السمك والطيور فهي حركة ثقافية. 
وحسب فيلسوف التنوير الألماني (كانط) فقد كانت الهجرات تأريخاً للاضطهاد السياسي، من خلال الانشقاق المتتابع في الجماعات الإنسانية، وبذلك زحف الإنسان في الأرض من شرق أفريقيا حتى جنوب أمريكا في رحلة امتدت على مدار 200 ألف سنة. فكان الاضطهاد في طرف منه خيرا في انتشار الإنسان في الأرض. ونعرف اليوم أن هجرات الجنس البشري عبرت مضيق بهرنجر قبل 12 ألف سنة وتابعت زحفها حتى مضيق ماجلان وأرض النار.  
وحسب المؤرخ البريطاني (توينبي) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) فالهجرة صيروة تنطبق أيضاً على الأنبياء من خلال قانون (الاعتزال والعودة). وبذلك هاجرت البوذية من نيبال في الهند واستقرت في الصين. وتركت المسيحية فلسطين وزحفت إلى روما.
وفي مسيرة (ماوتسي تونج) مشى معه مائة ألف من أتباعه إلى شمال الصين ما عرف بـ (المسيرة الكبرى). بعد أن اجتاز عشرات الأنهار وسبع سلاسل من قمم الجبال لينشيء جمهوريته الأولى في ينان بأربعة آلاف إنسان. بعد أن قتل أكثرهم على يد الكومنتانغ. 
والسؤال ما الذي يدفع الإنسان إلى الهجرة فيترك مراتع الطفولة وأحب الأماكن إلى قلبه كما وصف ذلك الرسول ص وهو يجبر على مغادرة مكة عندما ائتمروا على قتله وتفريق دمه بين القبائل؟ 
إن شعور الفراق الأبدي الذي استولى على (هرقل) كان حزينا وهو يغادر دمشق بعد الفتح الإسلامي ويقول: "وداعا يا دمشق .. وداعاً لا لقاء بعده" وهي نفس الجملة التي كررها فارين اللجوء السياسي من بلاد الشام إلى الأرجنتين والدومينيكان والسويد. قد يحمل نعش أحدهم إلى الوطن كما حصل مع نزار قباني فيدفن فيه. ولكنه لم يعد وطنا للحياة بحال. فهو وطن الأحياء الأموات. والموتى فيه يدفنون. 
يعتبر إبراهيم عليه السلام المهاجر الأكبر فهو الذي ترك بلاد الرافدين ووفرة المياه وخضرة النيل ليأوي إلى أرض غير ذي زرع عند بيته المحرم. فالصحاري مع الحرية أطيب من الاستبداد مع الجنان. وهناك أقام القواعد من البيت في بيئة صعبة هو وإسماعيل ربنا تقبل منا. وهناك دعا أن لا يجعل في ذريته من يعبد الأوثان. كان هذا بعد النقاش المرير مع النمرود في العراق الذي زعم أنه يحيي ويميت، وبعد نجاته من النار فكانت بردا وسلاماً عليه. ترك كل ذلك خلف ظهره ليأمن على ذريته في أرض غير ذي زرع، لأن أعظم زرع هو الإنسان في مناخ الحرية. ومع الديكتاتورية لا أمان ولا ضمان لأي شيء. وفي جو الاستبداد تقتل الحياة قتلا. 
وهاجر فتية أهل الكهف فرارا من الاضطهاد السياسي ومعهم كلبهم، فبيئة مدمرة من هذا النوع لا تطيقها الكلاب. وفر موسى عليه السلام بدوره من جو الحضارة الفرعونية المقيت التي اعتاد أهلها أكل البصل والثوم مع الإهانة والإذلال إلى صحراء مدين ليتزوج هناك ويعيش، ولم يرجع إلى مصر إلا برسالة، ولم يكن له أن يعيش قط في بلد يرفع القبور لأشخاص فانين على هيئة أهرامات تناطح السحاب في مناخ ميت مميت من الديكتاتورية. 
قد يكون موسى نجح قديما في الهجرة بشعب كامل يشق بعصاه البحر فكان كل فرق كالطود العظيم. ولكن مشكلة الهجرة اليوم أنها تتحول إلى قضية دولية ولكن من يهاجر في العادة رغبة هم زبدة القوم وأكثرهم فعالية. وجرت العادة أن أكبر الهجرات جاءت بأفضل النتائج فمع طوفان نوح تطهرت الأرض. ومع هجرة كولمبس تقرر مصير الغرب وانقلبت محاور التاريخ وانتقلت الحضارة من المتوسط إلى الأطلنطي.
الدكتور خالص جلبي

السبت، 21 يونيو 2025

الارتباط المرضي بالأم في المجتمع الجزائري:.. بقلم بلال قهلوز

٧ في المجتمع الجزائري: حين يتحوّل الحب إلى عبء واستعراض
في المشهد الاجتماعي الجزائري، لا شيء يجلب التعاطف والتمجيد أكثر من شاب يقول: "ربي يخليلي ميمتي (ma mère)". عبارة جاهزة، محفوظة، تُستخدم بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي وحتى في الجلسات العائلية، لتُظهر نموذجًا مثاليًا للابن البارّ، لكنها في كثير من الأحيان ليست سوى قناع اجتماعي (masque social) يخفي وراءه علاقة مختلّة، لا تقوم على العناية والرعاية بل على الاستغلال والاتكالية (dépendance infantile).
العديد من هؤلاء الشباب الذين يتغنون بـ"حب الأم" هم أنفسهم من يسهرون حتى ساعات متأخرة، ثم يعودون للبيت يوقظون الأم لتحضير العشاء أو طهي "الكسرة"، وكأن الأم آلة خدمية (machine domestique) لا تتعب ولا تشتكي. وهو لا يتردد في أن يقول: "لا توجد امرأة في العالم تتحملني مثل أمي". وهذا صحيح بشكل مأساوي، لأنه فعلاً لا توجد امرأة تقبل بحماقاته اليومية، ولا بهذا المستوى من الأنانية والطفولية (immaturité affective).
هذا "الحب" لا يظهر في الواقع العملي: فكم من أم تشتكي من أمراض مزمنة، لكنه لا يصحبها إلى الطبيب، لا يكلّف نفسه بعلاج أسنانها أو حتى بنزهة تُخفف عنها وحدة البيت وثقل السنين. إن ما يسميه البعض "حبًا للأم" ليس سوى نوع من الرأسمال الرمزي (capital symbolique) يوظفه الشاب أمام مجتمعه لتلميع صورته، وليس تعبيرًا حقيقيًا عن علاقة إنسانية متوازنة.
في حفلات الزواج مثلًا، نراه يركع أمام أمه، يقبّل رجليها أمام زوجته المستقبلية، ويقول: "أمي هي الأصل"، في مشهد استعراضي أشبه بمسرحية رومانسية رخيصة (drame sentimental). لكنه في اليوم التالي قد يتركها وحيدة، لا يسأل عنها، ولا يفتح لها باب العيادة، لأنه ببساطة يحب أن يُرى وهو يبرّ بها، لا أن يعيش فعل البرّ.
المشكل الحقيقي أعمق: الشاب الجزائري لا يريد أن ينفصل عن أسرته، لأنه يجد فيها ملاذًا من المسؤولية، وامتدادًا لحياة دون نضج. فبيت الأم هو الفندق (hôtel maternel) الذي يعود إليه محمّلًا بالتعب والأنانية، دون أي مقابل فعلي. وبهذا المعنى، تتحول الأم إلى "حاضنة للطفولة الدائمة" وليس إلى رمز للحنان فقط.
الحب الحقيقي للأم ليس في الأقوال ولا في الصور التي تُنشر على "فيسبوك" يوم عيدها، بل في احترام جسدها، صحتها، حريتها، وفي أن يعي هذا الابن أن الأم ليست امتدادًا له، بل كائن .

الاثنين، 2 يونيو 2025

عرائس الحروب ..

عرائس الحرب أو "War Brides : لماذا تتخلى النساء عن شركائهن بسرعة ويتكيفن مع الجدد بسهولة؟ الحقيقة المدهشة وراء التكيف الأنثوي!"

عرائس الحرب أو "War Brides" هي ظاهرة اجتماعية تاريخية تعود إلى العصور القديمة وحتى الحروب الحديثة، حيث كانت النساء يؤخذن كزوجات أو سبايا من قِبَل القوات الغازية. هذه الظاهرة كانت نتيجة مباشرة لظروف الحروب، حيث يتم القضاء على الرجال المحاربين من القبيلة أو المجتمع المهزوم بينما تُحتفظ النساء بسبب قيمتهن في الإنجاب وتربية الأطفال.
في العديد من الثقافات التاريخية، عندما كانت قوة غازية تهزم قوة أخرى، كانت تقتل الرجال وتأسر النساء. هؤلاء النساء كن يُستخدمن كوسيلة لدمج الثقافات أو كجوائز حرب، وغالبًا ما يُجبرن على الزواج من محاربي القبيلة الغازية، مما يساهم في استمرارية وتوسعة سلالة تلك القبيلة.

الطبيعة البشرية، وخاصةً النسائية منها، تُملي على النساء البحث عن الأمان والاستقرار. في ظروف الحروب، كان الارتباط بالغزاة يُعتبر أحيانًا وسيلة للبقاء على قيد الحياة، حيث يُنظر إلى الرجال المهزومين كأفراد غير قادرين على الحماية وتقديم الأمان.

النساء يمكنهن التأقلم بسرعة بعد الانتقال من الرجال المهزومين إلى الرجال المنتصرين. هذا التأقلم يُفسر جزئيًا بظاهرة "الحب الجنسي المتبادل"، حيث تبحث المرأة بشكل لا واعٍ عن الأمان والموارد من الشريك الجديد القوي.

الظاهرة تمتد أيضًا لفهم أعمق للطبيعة الأنثوية، خاصةً من منظور علم النفس التطوري. ففي حين أن الرجال كانوا يُعتبرون الدرع الذي يحمي القبيلة أو الأسرة، كانت المرأة تُعتبر الجائزة التي يجب الحفاظ عليها. هذا هو أحد الأسباب التي تجعل النساء اليوم أكثر قدرة على التكيف مع تغييرات الشركاء مقارنة بالرجال.

عرائس الحرب ليست مجرد حدث تاريخي بل هي ظاهرة لها آثارها في العلاقات المعاصرة. يمكن للرجال اليوم أن يتعلموا من هذه الديناميكيات، حيث تكشف عن الطبيعة التكيفية للنساء وعن أهمية الأمان والموارد في اختيار الشريك. المرأة تميل دائمًا للارتباط بالشريك الذي يوفر لها الأمان، وهذا يتضح من كيفية اختيارها لشركائها في الحياة اليومية سواء في سياقات الحروب أو غيرها.

ظاهرة عرائس الحرب تُبرز جوانب مهمة من الطبيعة الأنثوية، خصوصًا فيما يتعلق بالاختيار الجنسي والتأقلم السريع مع الظروف المتغيرة. وهذا التأقلم ليس مقتصرًا على السياقات الحربية فقط، بل يمتد إلى العلاقات الحديثة أيضًا. النساء يبحثن بشكل طبيعي عن الشريك الأكثر قدرة على توفير الأمان والحماية والاستقرار، سواء كان ذلك في العصور القديمة أو في العالم المعاصر.

في العلاقات الحديثة، النساء يميلن إلى تغيير الشركاء بسرعة عندما يشعرن بأن الشريك الحالي لم يعد قادرًا على تقديم الأمان والحماية أو الموارد الكافية. هذه الظاهرة تُعرف باسم "تقافز القردة"، حيث تترك المرأة شريكها الحالي إذا وجدت شخصًا آخر يلبي احتياجاتها بشكل أفضل، هذه طبيعة غريزية لدى المرأة البحث عن أفضل الخيارات لضمان مستقبلها ومستقبل أبنائها.

الهيبرجامي او التزاوج الفوقي هي ميل المرأة للارتباط بشريك أفضل من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية. في سياق عرائس الحرب، كانت النساء دائمًا يبحثن عن المحاربين الأقوى والأكثر قدرة على حمايتهن وتوفير الموارد لهن. هذا المبدأ لا يزال قائمًا اليوم، حيث تسعى المرأة إلى الارتباط بشريك يوفر لها أمانًا ماليًا واجتماعيًا، ويُعتبر هذا جزءًا من التكيف الطبيعي لضمان بقاء العائلة.

حتى في العلاقات الحديثة، يُتم ملاحظة هذا النمط في كيفية اختيار النساء لشركائهن بناءً على المكانة الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يعكس ديناميكيات عرائس الحرب بشكل عصري. فالنساء يمِلن إلى الارتباط بالرجال الذين يتمتعون بوضع مالي جيد، مكانة اجتماعية مرموقة، أو يتمتعون بصفات القوة والقيادة.

المرأة عبر التاريخ أظهرت قدرة عالية على التكيف مع التغيرات الاجتماعية، الاقتصادية، والحربية التي تؤثر على وضعها ومكانتها. من ظاهرة عرائس الحرب إلى تكيّف النساء في المجتمعات الحديثة، نرى أن النساء يتمتعن بمرونة نفسية وسلوكية تمكنهن من التأقلم مع الشركاء والظروف المتغيرة بسرعة وفعالية.

‏هذا التكيف ينبع من الحاجة البيولوجية والاجتماعية للبقاء وضمان استمرارية النسل، ما يجعل المرأة أكثر قدرة على تغيير الشركاء، وتبني أدوار جديدة عندما تتغير الظروف المحيطة. فهي تسعى دائمًا للحصول على أفضل الشروط التي تضمن لها الأمان والاستقرار، سواء كان ذلك من خلال الارتباط بالغزاة كمثال تاريخي أو اختيار الشريك الأنسب في العصر الحديث.

التكيف الأنثوي يتجلى أيضًا في سرعة المرأة في التعافي من الصدمات العاطفية وإعادة بناء حياتها، بعكس الرجل الذي قد يحتاج لوقت أطول للتأقلم مع الفقدان أو التغيير. هذه القدرة على التكيف تفسر لماذا المرأة أكثر مرونة وقدرة على تغيير الشركاء، وتبني أدوار جديدة على مر العصور.
منقووول

تاريخ عائلة بن قانة ..

عائلة بن ڨانة : **مقاطعة قسنطينة**   **آل بن ڨانا**   **منذ الغزو الفرنسي إلى غاية 1879**  الحمد لله الواحد! هذا النشر مخصص لأو...