المشكلة في الذين تركوا الوطن ليست واحدة بل ثلاث: فالذين ذهبوا إلى الغرب أصبحت حياتهم لا تعرف الهدوء فقد دخلت الزوبعة إلى حياتهم إلى أجل غير مسمى. ولعلها ستبقى ترافقهم مثل الحمى المالطية حتى نزع الروح. ويقول المثل الشركسي: من يخسر وطنه يخسر كل شيء. حتى يجد وطنا جديدا لن يكون وطنا. وعندما عرض على (فيرنر هايزنبرغ) الدماغ الفيزيائي صاحب نظرية الارتياب في ميكانيكا الكم الهجرة إلى أمريكا كان جوابه: إنه قرار يجب أن يحسم في عمر مبكر. فمن نشأ في ثقافة بعينها حتى عمر معين تصبح تلك البيئة له أكثر الأوساط تأثرا منها وتأثيرا فيها. كان جوابه: سأرجع إلى ألمانيا حتى إذا انهدمت المدن الألمانية قمت بتربية جيل ما بعد الكارثة. وهو الذي حصل عندما دشن معهد ماكس بلانك في فروع لا نهاية لها من العلوم.
والمشكلة الثانية أن من هاجر واحتك بالحضارات الأخرى يصل إلى وضع لا يحسد عليه، فلم يعد الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده فهو نفسياً في الأرض التي لا اسم لها. ومن أجمل ما قرأت نقلا عن مهاجر ألماني ما معناه أن الذي يرى وطنه جميلا فهو لا يفهم الحياة، ومن شعر بالغربة في الهجرة فهو غير ناضج، ولكن من شعر بالغربة في كل العالم فهو المواطن الصالح. يقصد بهذا إن وجودنا في الأرض كله يقوم على التوقيت والإعارة وأننا البشر من التراب وإليه نعود. وهذا يقرب إلى وعينا صدى تلك الجملة العميقة التي نطقها المسيح عليه السلام: مملكتي ليست من هذا العالم.
ويعتبر قرار الهجرة ثالثاً من أصعب وأخطر القرارات في حياة الإنسان ولعله يكون طريق باتجاه واحد. ومشكلة الغرباء أنهم يبقون غرباء لفترة طويلة وقد تدوم هذه الغربة مدى الحياة. وعلى من يتخذ قرار الهجرة أن يتذكر ثلاث أمور: أنه قرار لا يتعلق به وحده بل ذريته من بعده. ثانياً أنه قد يكون هجرة بغير عودة. وثالثا ليتذكر قول الفيلسوف ديكارت أن من يكثر التنقل يصبح غريبا في بلده.
الهجرة ظاهرة كونية مثل الوحي فكما أوحى الله إلى أنبياءه روحاً من أمره، كذلك أوحى إلى (النحل) أن اتخذي من الجبال بيوتا. وأوحى إلى (أم موسى) أن أرضعيه. كل بطريقته الخاصة. ولا يهاجر الإنسان فقط بل سمك السلمون والنحل والطيور والفراشات. ويهاجر الرجل والمرأة إلى عش جديد لتوليد عائلة جديدة. فهذا قانون وجودي.
الطيور تهاجر تبحث عن الحب. وسمك السلمون يهاجر في ملحمة رائعة من نهر فرايزر في كندا ليقطع رحلة عشرة آلاف كيلومتر حتى المحيط. وتغادر الفراشات (الملكة) شمال أمريكا لتصل إلى أمريكا الجنوبية فتتبدل خلقا من بعد خلق. ولكن هجرة الإنسان غير هجرة السمك والطيور فهي حركة ثقافية.
وحسب فيلسوف التنوير الألماني (كانط) فقد كانت الهجرات تأريخاً للاضطهاد السياسي، من خلال الانشقاق المتتابع في الجماعات الإنسانية، وبذلك زحف الإنسان في الأرض من شرق أفريقيا حتى جنوب أمريكا في رحلة امتدت على مدار 200 ألف سنة. فكان الاضطهاد في طرف منه خيرا في انتشار الإنسان في الأرض. ونعرف اليوم أن هجرات الجنس البشري عبرت مضيق بهرنجر قبل 12 ألف سنة وتابعت زحفها حتى مضيق ماجلان وأرض النار.
وحسب المؤرخ البريطاني (توينبي) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) فالهجرة صيروة تنطبق أيضاً على الأنبياء من خلال قانون (الاعتزال والعودة). وبذلك هاجرت البوذية من نيبال في الهند واستقرت في الصين. وتركت المسيحية فلسطين وزحفت إلى روما.
وفي مسيرة (ماوتسي تونج) مشى معه مائة ألف من أتباعه إلى شمال الصين ما عرف بـ (المسيرة الكبرى). بعد أن اجتاز عشرات الأنهار وسبع سلاسل من قمم الجبال لينشيء جمهوريته الأولى في ينان بأربعة آلاف إنسان. بعد أن قتل أكثرهم على يد الكومنتانغ.
والسؤال ما الذي يدفع الإنسان إلى الهجرة فيترك مراتع الطفولة وأحب الأماكن إلى قلبه كما وصف ذلك الرسول ص وهو يجبر على مغادرة مكة عندما ائتمروا على قتله وتفريق دمه بين القبائل؟
إن شعور الفراق الأبدي الذي استولى على (هرقل) كان حزينا وهو يغادر دمشق بعد الفتح الإسلامي ويقول: "وداعا يا دمشق .. وداعاً لا لقاء بعده" وهي نفس الجملة التي كررها فارين اللجوء السياسي من بلاد الشام إلى الأرجنتين والدومينيكان والسويد. قد يحمل نعش أحدهم إلى الوطن كما حصل مع نزار قباني فيدفن فيه. ولكنه لم يعد وطنا للحياة بحال. فهو وطن الأحياء الأموات. والموتى فيه يدفنون.
يعتبر إبراهيم عليه السلام المهاجر الأكبر فهو الذي ترك بلاد الرافدين ووفرة المياه وخضرة النيل ليأوي إلى أرض غير ذي زرع عند بيته المحرم. فالصحاري مع الحرية أطيب من الاستبداد مع الجنان. وهناك أقام القواعد من البيت في بيئة صعبة هو وإسماعيل ربنا تقبل منا. وهناك دعا أن لا يجعل في ذريته من يعبد الأوثان. كان هذا بعد النقاش المرير مع النمرود في العراق الذي زعم أنه يحيي ويميت، وبعد نجاته من النار فكانت بردا وسلاماً عليه. ترك كل ذلك خلف ظهره ليأمن على ذريته في أرض غير ذي زرع، لأن أعظم زرع هو الإنسان في مناخ الحرية. ومع الديكتاتورية لا أمان ولا ضمان لأي شيء. وفي جو الاستبداد تقتل الحياة قتلا.
وهاجر فتية أهل الكهف فرارا من الاضطهاد السياسي ومعهم كلبهم، فبيئة مدمرة من هذا النوع لا تطيقها الكلاب. وفر موسى عليه السلام بدوره من جو الحضارة الفرعونية المقيت التي اعتاد أهلها أكل البصل والثوم مع الإهانة والإذلال إلى صحراء مدين ليتزوج هناك ويعيش، ولم يرجع إلى مصر إلا برسالة، ولم يكن له أن يعيش قط في بلد يرفع القبور لأشخاص فانين على هيئة أهرامات تناطح السحاب في مناخ ميت مميت من الديكتاتورية.
قد يكون موسى نجح قديما في الهجرة بشعب كامل يشق بعصاه البحر فكان كل فرق كالطود العظيم. ولكن مشكلة الهجرة اليوم أنها تتحول إلى قضية دولية ولكن من يهاجر في العادة رغبة هم زبدة القوم وأكثرهم فعالية. وجرت العادة أن أكبر الهجرات جاءت بأفضل النتائج فمع طوفان نوح تطهرت الأرض. ومع هجرة كولمبس تقرر مصير الغرب وانقلبت محاور التاريخ وانتقلت الحضارة من المتوسط إلى الأطلنطي.
الدكتور خالص جلبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق