السبت، 2 أغسطس 2025

تاريخ عائلة بن قانة ..

عائلة بن ڨانة :
**مقاطعة قسنطينة**  
**آل بن ڨانا**  
**منذ الغزو الفرنسي إلى غاية 1879** 

الحمد لله الواحد! هذا النشر مخصص لأولئك الذين يمتلكون الخبرة ويستطيعون تقدير الحقائق.  
قال علماء أفاضل: "إنَّ إخفاء المصائب التي تصيبنا عن الآخرين - أي الامتناع عن الحديث عنها - يُعد من كنوز الجنة، إلا إذا كان في الحديث عنها مصلحة لنا، مثل إخبار الطبيب بحالة مرضنا أو شرح ظروفنا لشخصٍ نستشيره". خارج هذه الحالات، فإنَّ من يفضح مصائبه ويجعلها موضوعًا لحديثه يُظهر تمرُّدًا على قضاء القدر، **ويفقد حقوقه في المكافأة الإلهية**. لذا، يجب اعتبار كتمان المصائب والأمراض التي تصيب الإنسان، وكذلك الصدقات التي يُقدمها، من كنوز الجنة.  
بناءً على هذا المبدأ، ظللنا صامتين طويلًا عن الهجمات المتكررة التي نتعرَّض لها. صحيح أنَّ الأخيار سيظلون دائمًا هدفًا لافتراءات الأشرار، وأنَّ الغني سيظل موضع حسد. لذا، لا ينبغي أن نعمل إلا لوجه الله، كما أوضح جوهرة الشعراء تصويرًا دقيقًا عند حديثه عن الوفاء بالعهود في وصفه لـ "عروة":  
«يا عروة! لقد فهمت أن الوفاء بالعهود واجب، وأنا راضٍ عنك؛ ففي الوفاء بها فعلٌ صالح.»  
وقال الإمام الشافعي: «إن غَلَتْهم الغيرة من أجلي، فلَا ألومهم، فكثيرون من الصالحين قبلي كانوا موضع حسد.»  
قبل كل شيء، يجب أن نشكر الله أن رجال الحكومة، وسط الضلالات، استطاعوا دائمًا التمييز بين الرجل النبيل والوضيع، بسهولة كالتمييز بين النحيف والسمين. هذه النتيجة المباركة لاحظها حتى أقل الناس خبرة. بعد هذا، سنحاول سرد أعمال عائلتنا منذ عصر الاحتلال حتى يومنا هذا، لنُطلع العناصر الواعية في الحكومة الفرنسية على سلوكنا.  
الحكومة الفرنسية، التي يحق لها الفخر، سيطرت على إقليم مقاطعة قسنطينة عام 1837 للميلاد. وبعد عامٍ واحد، قدَّمت عائلتنا - بقيادة زعيمها **سي بو عزيز بن ڨانا** - خدماتها للفرنسيين. ومن الذين رافقوا سي بو عزيز:  
- : ابنه**محمد بن بوعزيز بن ڨانا**.  
- اخوته: **علي بن ڨيدوم**، **أحمد بن المسعي**، **الحاج بن ڨانا**.  
- أبناء أخوه: **الحاج بن أحمد بن ڨانا**، **العربي بن الحاج بن ڨانا**، **سي أحمد بن الحاج**، **سي محمد الصغير بن علي بن ڨيدوم بن ڨانا**.و بن أخيه الآخر: **أحمد بن بوزيد**.  
- وأبناء عمومته: **سي بولخرص بن محمد بن الحاج**، **سي إبراهيم**. وأخيرًا، من بين أفراد العائلة... 
من عائلة بن ڨانا، لم يتخلَّف عن هذه الرحلة إلا من تعذَّر عليهم المشاركة بحكم الظروف.  
كان الهدف من هذه الخطوة هو الاعتراف بالحكومة الفرنسية والإشادة بها، بعد أن لمسوا سياستها الحكيمة والعادلة.  
توجَّهوا إلى **الجنرال جالبوا Galboi**، ممثل السلطة آنذاك، مُحيِّين بذلك الحكومة الفرنسية من خلال شخصه.  
استقبل الجنرال جزء من عائلة بن ڨانا، التي عاهدت وأقسمت بأشدِّ الطرق رسميةً بعدم خيانة فرنسا سرًّا أو علانيةً.  
صدَّق الجنرال على قسمنا الذي أديناه **على القرآن الكريم**، لكننا أضفنا إلى اعترافنا الرسمي بالحكومة التزامًا بخدمتها باجتهاد.  
كنَّا قد أعلنَّا سابقًا للجنرال Galboi أنه سيرى قريبًا الخدمات التي يمكننا تقديمها للفرنسيين في المنطقة الصحراوية، والتي لم تكن فقط مسكننا ومولدنا، بل مولد أسلافنا منذ الحكم التركي وحتى الحكم العربي.  
وكان رد الجنرال Galboi كالتالي:  
 «الحكومة الفرنسية مؤسسة على أسس متينة، وقوانينها واضحة ودقيقة. إن خدمتم هذه الحكومة بإخلاص ووفاء، وانتظرتم بصبر، فستحصلون منها ليس فقط على ما تتمنونه علنًا، بل حتى ما أخفيتموه في أعماق قلوبكم!»  
أجبنا بأننا مستعدون لتنفيذ جميع المهام التي تُكلَّفوننا بها باجتهاد، وشرعنا في الوفاء بعهودنا.  
أول مهمةٍ كلِّفنا بها كانت المشاركة في إعادة الأمن إلى طريق سطيف.  
الجنرال Galboi، الذي كان يقود **القوات الاستكشافية**، كان يتوجَّه إلى منطقة الاضطرابات عندما التحقنا به وانضممنا إلى القوات الفرنسية. 
انضمت عائلة بن ڨانا، بقيادة زعيمها **سي بوعزيز**، إلى قوات الجنرال Galboi. عندها دارت معركة بيننا وبين قوة يقودها ** اخو سي عبد القادر (الامير)** في مكان يُدعى *رأس الوادي*. في هذه المعركة، فقدنا أربعة فرسان قتلى وثلاثة جرحى، لكننا نجحنا في هزيمة قوات أخ عبد القادر هزيمةً كاملة. كان من بين أفراد قوات الأمير آنذاك **سي فرحات بن سعيد** و**أحمد باي بن شنوف**. هذه كانت بدايتنا في خدمة الحكومة الفرنسية.  
بعد فترة، توجَّه الجنرال Galboi بكتيبة جديدة نحو منطقة **الحراكتة**. كان أحد أفراد عائلتنا جزءًا من هذه الحملة، وهو **سي محمد الصغير**، الذي أحضر معه رجال القبيلة التي يقودها وفرسانه الشخصيين. ساهم **سي محمد الصغير** وأتباعه في إخضاع الحراكتة بالكامل.  
عندما عادت القوات الفرنسية من هذه الحملة، وعاد معها آل بن ڨانا إلى ديارهم، انطلق **شيخ العرب** إلى المنطقة الصحراوية مع عدد من أفراد القبائل العربية والصحراوية. في ذلك الوقت، كان **سي لحسن بن عزوز** نائبًا للأمير عبد القادر، وكان يجوب الصحراء بقوات نخبة فخورة بقيادته.  
بعد أن أعلنت عدة قبائل في المنطقة ولاءها لسي لحسن، جاءت عائلتنا وأنصارها ليُنشئوا معسكرهم قرب **الوطاية** في مكان يُسمى **سلسو**. هناك التقت القوتان المتحاربتان، ودار بينهما قتال شرس أدى إلى هزيمة **سي لحسن بن عزوز** وقواته هزيمةً ساحقة...
  قتلنا عددًا كبيرًا منهم واستولينا على بنادقهم ومدافعهم.  
ذهبنا بكل الغنائم التي حصلنا عليها إلى الجنرال Galboi، وحصلنا من الحكومة على مكافأةٍ تمثلت في التكريم والتبجيل، بالإضافة إلى أرفع الأوسمة. ومنذ ذلك الحين، لُقِّب **سي بو عزيز بن ڨانا** بـ"ثعبان الصحراء".  
هذا الإنجاز العسكري، الذي قُدِّم في خدمة فرنسا، يظل أحد الأمور التي تفتخر بها عائلتنا.  
بعد هذه الأحداث، عاد **الجنرال نيڨرييه Négrier** (الأسد الذي لا يُقهَر) لقيادة العمليات للمرة الثانية، وقمنا معه بشن غارة على **أولاد بوعون**، الذين انضمَّت إليهم قبيلة **الزمول**. في هذه الحملة، فقدنا عددًا من رجالنا بين قتيل وجريح.  
عند العودة، علمنا بتعيين **فرحات بن سعيد** و**أحمد بن الحاج**؛ حيث عيَّن الأمير عبد القادر الأول خلفًا لـ**لحسن بن عزوز**، والثاني خليفةً لـ**سيدي عقبة**.  
جمعنا قواتنا على الفور وتوجَّهنا نحو الصحراء. كان ذلك في فصل الصيف.  
سرعان ما التقينا بفرحات بن سعيد وأتباعه، واشتبكنا معهم في معركة أسرنا خلالها عددًا كبيرًا منهم. أما فرحات بن سعيد، فقد فرَّ هاربًا كما اعتاد أن يفعل.  
أعلنت القبائل الصحراء على الفور ولاءها لـ**سي بو عزيز بن ڨانا**، واستعدت للخضوع للسلطات الفرنسية.  
بعد هذه المعركة، عدنا لننصب خيامنا في **التل**.  
عندما حان موعد العودة إلى الصحراء، توجَّهنا إليها مع القبائل الخاضعة لقيادتنا وجميع أتباعنا.  
وصلنا إلى الصحراء لنجد **أحمد بن الحاج** مُعسكرًا مع قواته في **سيدي عقبة**. 
توقَّفنا مع رجال القبائل المرافقين لنا وخدمنا أمام المعسكر المعادي، ومن ذلك اليوم بدأت الأعمال العدائية بيننا وبينهم واستمرت دون انقطاع لثلاثة أشهر.  
بعد فترة، تم تعيين **الجنرال باراغيه ديلييه Barraguay D'hilliers** لقيادة مقاطعة قسنطينة، وقاد هذا الضابط الشهير حملةً في الشرق، ضد **الحراكتة في عين البيضاء** و**الحنانشة في سوق اهراس** و**الدير في تبسة**.  
كان **سي بولخرص بن ڨانا** هو من رافق الجنرال في هذه الحملة مع فرقته العسكرية، وشارك في جميع أحداث هذه الحملة والمعارك التي خُضِت ضد تلك القبائل.  
بعد هذه الأحداث العسكرية، عدنا إلى الصحراء كالمعتاد، وعندما علمنا بتعيين **صاحب السمو الملكي دوق أومال Duc D'Aumel**، ابن الملك لويس فيليب، قائداً لمقاطعة قسنطينة، توجَّه **سي بو عزيز بن ڨانا** لملاقاته على الفور.  
عندما حظي **سي بو عزيز بن ڨانا** بشرف اللقاء بدوق أومال ابن الملك والمحادثة معه، أخبره الأمير عن نيته شن حملة في الصحراء وجبال **أولاد سلطان**.  
ردَّ عليه **سي بو عزيز بن جانا** بأنه مستعد للتقدم وخدمة مخططاته، مضيفًا أن سموه لن يحتاج سوى إعلامه عند التوجُّه إلى **القنطرة في بسكرة**، وتعهَّد بالالتحاق به هناك مع قوات القبائل الصحراوية الموالية وقادتها، الذين كانوا مستعدين تمامًا للقتال.  
كل شيء سار كما وعد **سي بوعزيز بن ڨانا**.  
غادر دوق أومال قسنطينة مع قواته الاستكشافية، وعند وصوله إلى القنطرة، التحق به أهالي الصحراء الموالين لنا، الذين استقبلوه بالتكريم والاحترام الواجبين.  
قدَّم الصحراويون كرم الضيافة للقوات الفرنسية، ووضعوا أنفسهم تحت تصرُّفهم لكل الأعمال والاحتياجات اللازمة في الحملة؛ فهم فعلوا كل ما تفعله القبائل المخلصة والموالية.  
عند وصوله إلى **بسكرة**، حدَّد سموه قيمة الضرائب والجزية التي يجب على المنطقة دفعها للدولة.  

منح الأمير شرف تعيين **سي بو عزيز بن ڨانا** خليفةً للمنطقة الصحراوية، وأُكِّد هذا التعيين من قبل المارشال **فاليه** مكافأةً على خدماته الجيدة والمخلصة.  
تم تحديد حدود منطقة قيادة **سي بو عزيز بن ڨانا**: امتدت من **القنطرة** إلى **تقرت**، وشملت من الشرق إلى الغرب جميع الأراضي الممتدة من **الخنڨة** إلى **أولاد جلال**.  
في نفس الوقت، عيَّن دوق أومال **سي محمد الصغير** (ابن أخ سي بو عزيز) قائدًا لـ**بسكرة** والزيبان. كما عيَّن الشيوخ، وأرسى قواعد إدارة منظَّمة في المنطقة.  
أما **أحمد بن الحاج** ومن تبعوه، فقد هاجروا مع الجنود الذين وضعهم الأمير عبد القادر تحت قيادته إلى جبال **أحمر خدو**، بعد أن استحال عليهم العيش قرب القوات الفرنسية.  
عندما مرَّ ابن الملك لويس فيليب بـ**باتنة** في طريقه إلى بسكرة، ترك فرقةً من قواته لتحتل المدينة. وبينما كان في بسكرة، انضمَّ أهالي **الأوراس** إلى **أولاد سلطان** وهاجموا هذه الفرقة.....
عندما مرَّ ابن الملك لويس فيليب الدوق اومال بـ**باتنة** في طريقه إلى بسكرة، ترك فرقةً من قواته لتحتل المدينة (باتنة) وبينما كان في بسكرة، انضمَّ أهالي **الأوراس** إلى **أولاد سلطان** وهاجموا هذه الفرقة... دارت عدة مواجهات بين المهاجمين والحامية الفرنسية في باتنة. عند سماع الخبر، ترك دوق أومال قوةً عسكرية مسلمين (من أهالي بسكرة) تحت قيادة **سي بوعزيز بن ڨانة**، وتوجَّه مسرعًا إلى باتنة لم تنتظر الحامية الفرنسية عودة الاميرAumel، وهزمت المتمردين قبل وصوله. وعند وصوله، وجد أن المتمردين في حالة فرار كامل.  
بعد فترة من الزمن، جهز الدوق الامير Aumel جيشًا قويًا لتوجيهه لمحاربة الحاج أحمد باي، الذي واصل المقاومة على رأس قبائل أولاد سلطان وأولاد بوعون. أصدر الدوق أمرًا لـ "سي بوعزيز بن قانة" بالانضمام مع قواته من عرب الصحراء، موصيًا إياه بإقامة معسكره على أراضي قبيلة أولاد سلطان نفسها....بدأت الأعمال العدائية بين الجيش الفرنسي والمتمردين، واستمرت حتى تمت هزيمة الحاج أحمد باي وأنصاره هزيمة ساحقة. فر الحاج أحمد باي إلى جبال منعة.  
أما أولاد سلطان، فلم يتأخروا في إعلان خضوعهم للحكومة الفرنسية. ...بهذا، انتهى الأمر في هذا الجانب.  
في غضون ذلك، تقدم أحمد بن الحاج (الذي تركناه في منطقة الأحمر خدو حيث لجأ هناك بعد هزيمته) بقواته نحو سيدي عقبة، مُخفيًا تحركاته بعناية، عندما اقترب من المدينة، أرسل جواسيس لتقصي وضع الفرقة الصغيرة التي تركها الدوق دي أومال هناك تعرض هذا الجيش المسكين للخيانة، وقُتل عدد من جنودنا. ...وصلت هذه الأنباء إلى ابن الملك (الدوق دي أومال) أثناء تواجده في اراضي قبيلة أولاد سلطان مع سي بوعزيز بن ڨانة. بمجرد علمه بالحادث، انتقل الدوق على عجل إلى مدينة بسكرة مع سي بوعزيز بن قانة.  
فور وصوله، عاقب الأمير الخونة بعنف وكافأ من أظهروا ولاءًا قبل مغادرته، عزز الحامية العسكرية ووضعها في ظروف آمنة، ثم ترك القائد سان-جرمان في بسكرة وعاد إلى قسنطينة.  
خلف الجنرال بيدو Bedeau الدوق دي أومال، وقاد حملة جديدة في جبال الأوراس لمطاردة الحاج أحمد باي هناك الذي لجأ إلى منعة اما أحمد بن الحاج كان في الأحمر خدو.... 
بينما كانت قوات الجنرال تهاجم العدو من الشمال وتشن غارات على مؤيديه، غادر القائد سان-جرمان بسكرة على رأس فرقة عسكرية ضمت سي بولخرص بن محمد بن قانة وأتباعه، لمنع سي الحاج أحمد باي وبن أحمد بن الحاج من العودة إلى المنطقة الصحراوية.  
كانت نتيجة هذه الحركة أن فر الحاج أحمد باي مع اقتراب القوات الفرنسية ولجأ إلى أولاد عبد الرحمن، بينما غادر أحمد بن الحاج الأحمر خدو على عجل وهرب إلى الجريد (تونس).  
على الفور، أعلنت قبائل جبال الأوراس وأهل الأحمر خدو خضوعهم لفرنسا.  
بعد فترة، ظهر في قبيلة النمامشة شخص ادعى أنه شريف واسمه بومعزة، وانضم إليه عدد كبير من السكان المحليين، تقدم هذا الرجل مع أتباعه لغزو الزاب الشرقي، حالما وصلت أنباء هذا الغزو إلى بسكرة، تحرك القائد سان-جرمان على رأس قواته لمواجهة المتمردين، يرافقه سي بوعزيز بن قانة وأقاربه سي أحمد بن الحاج بن قانة، وسي بولخرص، وسي الحاج بن محمد اين دارت معركة شرسة بين قوات القائد سان-جرمان وقوات الشريف بومعزة، وانتهت بهزيمة كاملة للمتمردين، حيث استولى الفرنسيون على غنائم كبيرة من الأغنام والأبقار وغيرها من الأشياء...أما الشريف، فقد نجح في الهرب إلى الجريد.  
بعد المعركة، انسحب القائد سان-جرمان مع قواته إلى العليانة (إحدى قرى الزاب الشرقي) وأقام فيها...هناك تلقى نبأً بأن الشريف الذي هزمه للتو قد استأنف الهجوم متجهًا نحو أولاد جلال، على رأس أولاد نايل وعدد من أفراد القبائل المتمردة الأخرى التي كانت دائمًا مستعدة للثورة. أُرسل سي محمد الصغير بن قانة مع فرسانه ومشاته لمواجهة هؤلاء المتمردين، تجاوز حدود أراضي أولاد جلال، تواجه ضد القوات المعادية قرب قرية سيدي خالد بن سنان اين دارت معركة ضارية بين الطرفين، سقط خلالها عدد كبير من القتلى من الجانبين. بعد هذه المواجهة، انسحب الشريف إلى سيدي خالد، بينما عاد ڨايد بسكرة سي محمد الصغير بن ڨانة إلى الزاب الظهري وتوقف عند مكان يُدعى العَمْري، الى حين عودته إلى بسكرة.  
بعد فترة قصيرة، تولى الجنرال هيربيلون، قائد حامية باتنة، قيادة جيش كبير لمحاربة الشريف بومعزة الذي كان متواجدًا آنذاك لدى أولاد جلال. شاركت عائلة بن قانة بأكملها وقواتهم الڨوم (الڨومية) في هذه الحملة، تقدم الجيش نحو أراضي أولاد جلال حيث كان يُعتقد أن بومعزة موجود، لكن الأخير، بعد أن علم بضخامة الجيش الفرنسي المقترب، كان قد فر بالفعل.  
لكن الأمر لم ينتهِ؛ إذ تحالف أولاد جلال مع الشريف بمعزة، فكان لا بد من إخضاعهم. نتيجة لذلك، نزل الجنرال هيربيلون بجيشه على أراضي هذه القبيلة، وطالب من أولاد جلال بالاستسلام، رفض أولاد جلال الخضوع بشكل قاطع، فاندلعت الأعمال العدائية ضدهم، دار قتال شرس بين الطرفين، سقط خلاله عدد كبير من الضحايا في صفوف الجيش الفرنسي والمتمردين على حد سواء...كان الفضل الأكبر في إخضاع أولاد جلال يعود لـ **سي بوعزيز بن قانة**، الذي أجبرهم على الاعتراف بالسيادة الفرنسية. تعهد أولاد جلال أيضًا بدفع "الجزية الحربية" التي فُرضت عليهم.  
بعد هذه الحملة، منح الجنرال هيربيلون منصب **قايد أولاد جلال وأولاد نايل** لـ **سي الحاج بن محمد بن قانة**.  
ثم تابع الجنرال هيربيلون، برفقة جميع أفراد عائلة بن قانة، مطاردة أولاد نايل إلى ديارهم، وطالبهم مرتين بالاستسلام.  
بعد أن خضع أولاد نايل أخيرًا واعترفوا بالسلطة الفرنسية، فُرضت عليهم ضريبة حربية، وعاد الجنرال هيربيلون إلى باتنة.  
تم تعيين الجنرال هيربيلون لاحقًا قائدًا لمقاطعة قسنطينة، وخلفه الكولونيل **كانروبير canrobert** (الذي أصبح لاحقًا مارشال فرنسا) في قيادة باتنة.  
رأى الكولونيل أن ترك الحاج أحمد باي لدى أولاد عبد الرحمن (حيث لجأ) غير مقبول، فجهز فرقة عسكرية لمهاجمته في مقر إقامته بـ **الكباش**، وانطلق من باتنة بجيشه، بينما تحرك القائد سان-جرمان من بسكرة على رأس قواته ليلتقيا معا ، ضمت قوات سان-جرمان: سي بوعزيز بن قانة وأقاربه، وعددًا كبيرًا من الفرسان العرب تحت إمرتهم، وبعض شيوخ القبائل، أرسل سان-جرمان رسالة إلى الحاج أحمد باي يحثه فيها على الخضوع للحكومة الفرنسية. وافق الأخير أخيرًا وذهب إلى سان-جرمان، الذي اصطحبه معه إلى بسكرة.  
بعد هذه الأحداث، نُقل الكولونيل كانروبير لقيادة منطقة أومال (سور الغزلان حاليا)، وحل محله الكولونيل **كربوتشيا** في باتنة.  
في ذلك الوقت، كانت قرية **الزعاطشة** الصغيرة...كان هناك رجل يُدعى **بوزيان** ادعى أنه شريف، ونجح في تجميع عدد من الأنصار حوله. معتمدًا على دعم أهالي زعاطشة، اعتقد هذا الشخص أنه قوي بما يكفي ليتجنب تقديم فروض الطاعة للسلطات. بدأ حصار زعاطشة بقيادة **سي بوعزيز بن قانة** وإخوته على رأس القوات المتاحة لهم، وبعد فترة، انضم إليهم الكولونيل **كربوتشيا** بفرقة عسكرية صغيرة، واستمر الحصار.  
تحصن أهالي الزعاطشة والشريف بوزيان وجميع الأتباع الذين التحقوا به داخل القرية... دارت معارك عديدة عند أسوار زعاطشة، حيث شن الكولونيل كربوتشيا هجمات متواصلة على المحاصرين، لكنه فشل في تحقيق أي تقدم، واضطرت القوات في النهاية إلى الانسحاب والعودة إلى بسكرة بعد جهود عقيمة.  
في غضون ذلك، خطط **سي عبد الحفيظ** (الذي كان معسكرًا في **الخنڨة**) لتنفيذ هجوم على قواتنا لشتيت انظارنا ودعما لبوزيان. فجمع جيشًا من أهالي الأحمر خدو والزاب الشرقي، وتقدم نحو بسكرة.  
في تلك الأثناء، كان **بولخرص بن قانة** وقواته الصحراوية موجودين في التل.د، أرسل **سي بوعزيز بن قانة** (الذي كان لا يزال أمام زعاطشة) أمرًا إلى **بولخرص** بأن يأخذ معه **400 فارس عربي** ويتوجه بهم إلى بسكرة بأقصى سرعة، نفذ بولخرص الأوامر بدقة، وقطع هو وفرسانه المسافة إلى بسكرة في يوم وليلة. عند وصولهم، انضموا إلى القائد **سان-جرمان** وتحركوا لمواجهة سي عبد الحفيظ الخنڨي
التقى الجيشان في سريانة، وانقضت القوات الفرنسية بشراسة على المتمردين، انقلبت الدائرة على سي عبد الحفيظ، الذي هُزم، لكن كان حزنا حزنا بالغا على مقتل القائد سان-جرمان الذي قُتل خلال المعركة.... 
لنعد الآن إلى أحداث الزعاطشة،
عندما انسحب العقيد كاربوتشيا من الحصار وعاد بفرقته إلى بسكرة، ترك سي بوعزيز بن ڨانة وأقاربه مع فرسانهم قرب الزعاطشة لمراقبة بوزيان وأنصاره، واستمر هذا الوضع حتى وصول الجنرال هربيلون...توجه هذا الجنرال على رأس قوة كبيرة بسرعة نحو الزعاطشة، وبمجرد وصوله، عجّل بأعمال الحصار...لن نخوض في تفاصيل تطورات هذا الحصار الخالد ومشاهد البسالة التي برزت من كلا الجانبين. لكن يجزم كل من شهدها دون تردد أن مدنًا أكبر بكثير لم تشهد دفاعًا أشرس مما رأيناه هناك.  
في النهاية، انتصرت القوات الفرنسية؛ قُتل بوزيان، وذُبـح جميع سكان الزعاطشة، ودُمّرت مدينتهم عن بكرة أبيها.  
يوم سقوط الزعاطشة، أسر أحد جنود سي محمد الصغير ابن بوزيان وأحضره إلى الجنرال، الذي أراد في البداية منحه الأمان، لكن سي محمد الصغير اعترض قائلًا: «لا يلد الضبع إلا ضبعًا!» فحُكم على الشاب بالموت، وأعدمه الجندي فورًا.  
بعد هذه البطولات التي أكدت إخلاص آل بن قانة للحكومة الفرنسية، رأى الجنرال هربيلون توزيع مناصب القيادة في المنطقة الصحراوية على أفراد هذه العائلة. فعين سي علي بن ڨيدوم، ابن سي بوعزيز بن قنة، قايدًا للعرب الشراقة، وسي بولخرص قائدًا للسحاري، وسي أحمد بن الحاج بن ڨانة، ڨايدًا للعرب الغرابة، بينما عوقب كل من ساعد أو انضم إلى الشريف بوزيان بعقوبات شديدة، وعادت كل الوحدات التي شكلت جيش الجنرال إلى مناطقها الأصلية.
بعد فترة، ظهر شريف جديد في الأغواط يُدعى محمد بن عبد الله، نجح في تحريض أولاد نايل وسكان لرباع، وبسبب اتساع نطاق التمرد، تحرك الجنرال بيليسييه على رأس قوة لمواجهته، بينما انتشر سي محمد الصغير بقواته في ضاية السطل، على حدود الصحراء، لمنع الشريف من العودة إلى المنطقة التابعة لبسكرة...هُزم الشريف محمد بن عبد الله وفر نحو الأغواط.
قبل أحداث الأغواط، نشب خلاف بين عبد الرحمن بن جلاب (المعروف ب بوليفة) الذي عُين شيخًا لتوڨرت بناءً على توصية من سي بوعزيز بن ڨانة وأخيه سليمان بن جلاب، تعرض عبد الرحمن للضرب وإصابة بالغة من أخيه سليمان، فر بعدها وانضم إلى الشريف محمد بن عبد الله.  
بعد عودة القوة الفرنسية إلى قاعدتها، ثار سليمان بن جلاب بأهالي لرباع وزحف بهم على تماسين، ثم هاجم توقرت. دارت معارك طاحنة بين المتمردين وأهالي توقرت بقيادة شيخهم.  
عندما وصلت أنباء هذه الاضطرابات إلى سي بو عزيز بن قانة، أرسل على الفور ابن أخيه سي الشيخ بن محمد مع 500 فارس لنجدة شيخ توقرت.  
في هذه الأثناء، وصل الشريف إلى تماسين لـتقديم الدعم لسليمان، وهناك واجهته قوات بن قانة، اشتبك الطرفان في قتال ضارٍ، تكبدنا خلاله خسائر بشرية فادحة، لكن الشريف اضطر للفرار إلى عمق الصحراء، وسرعان ما لحقه سليمان بن جلاب بنفس الاتجاه، عاد الشيخ بن محمد بفرسانه إلى بسكرة، بينما بقي بوليفة في توڨرت لإدارة المنطقة، لكنه لم يعش طويلاً بعد الحملة، وتوفي متأثرًا بجراحه...بمجرد أن علم سليمان بوفاة أخيه، عاد مسرعًا إلى توقرت واستولى عليها.  
تحرك الجنرال ديفو Desveux (قائد باتنة) بجيشه إلى بسكرة، حيث انضم إليه إخوة سي بوعزيز بن قانة وفرسانهم، ثم تقدمت القوة نحو توقرت... لكن سليمان، عند علمه باقتراب الجيش، أقدم على قتل أبناء بوليفة وبسط سيطرته الكاملة على توقرت....اضطر الجيش الفرنسي للعودة إلى بسكرة بسبب ظروف غير مذكورة، بينما كانت قوة أخرى من الجزائر تراقب الشريف محمد بن عبد الله وتطارده حتى أجبرته على اللجوء للصحراء.  
أمر الجنرال ديفو ڨايد العرب الغرابة (سي أحمد بن الحاج بن ڨانة) وابن عمه سي علي بن الڨيدوم بن ڨانة بقطع طريق تراجع الشريف، نفذ الرجلان المهمة بنجاح...
نفّذا الأوامر التي أعطيت لهم فانطلقوا في مطاردة  
الشريف المذكور. وقد لقوه عندما كانت فرقنا العسكرية تعود إلى الجزائر، في مكان يدعى دينرمة بين توڨرت ورقلة. كان على رأس جماعة من أولاد نايل وقبل خوض المعركة برزت البطولات من الجانبين ثم اشتبكو في القتال، كانت نتيجة هذه المعركة أن تحطمت قوات الشريف وأجرينا مذبحة مروعة. صحيح أننا خسرنا من جهتنا ثلاثة وأربعين فارسا وستة عشر حصانا قتلوا خلال المواجهة، وأصيب ثلاثة وعشرون رجلا. جميع هؤلاء الأهالي المقتولين أو المجروحين كانوا من قبيلتي العرب الشرقية والعرب الغربية.  
بعد هذا الإنجاز العسكري الباهر، حصل سي أحمد بن الحاج بن ڨانة على وسام صليب ضابط في جوقة الشرف، وحصل سي علي بن القيدوم بن ڨانة على صليب الفارس، زادت هذه التكريمات فرحهما بانتصارهما.  
كما ذكرنا سابقا، أن سليمان بن جلاب قد استولى على توڨورت وقتل أبناء بوليفه وخوفا من أن يلاقوا نفس المصير، هرب أعيان توڨرت الذين قاتلوا تحت امرة بوليفه من المدينة بعجلة وتوجهوا للحصول على ملجإ في بسكرة، حيث بادرت عائلة بن ڨانة بإيوائهم وتأمين كافة احتياجاتهم.  
في انتظار وصول الحملة الجديدة التي كانت تعد لها، بقي هؤلاء اللاجئون في بسكرة، حيث وفر لهم المأوى والطعام والملبس....أخيرا، وصلت الفيصل العسكرية بقيادة الجنرال ديفو إلى بسكرة خلال فصل الخريف، خلال هذه الفترة، استمرت أفعال سليمان بن جلاب الشريرة:  
حيث أمر أتباعه بتخريب بساتين النخيل التي كانت ملكا لقبيلة الغرابة الرحل في توڨورت،  
فجاء هؤلاء المساكين للتشكي إلى الجنرال ديفو في بسكرة،
نظم الجنرال جيشه وقسمه إلى فرقتين: الأولى بقيادة القائد مارميي، وكانت مهمتها التقدم، ضم هذا الفصيل سي أحمد بن الحاج بن ڨانة، ڨايد العرب الغرابة، الذي تولى قيادة الفرسان العرب، أما الجزء الأكبر من الجيش، والمكون أساسا من الجنود الفرنسيين، فكان تحت قيادة الجنرال ديفو نفسه، وضم هذا الفصيل أيضا سي بولخرص بن ڨانة، والسي الحاج بن محمد بن ڨانة، وسي أحمد بن المسعي ابن سي بوعزيز بن ڨانة. على بعد ما من بسكرة، انفصل الفصيلين. تقدم القائد مارميي وخيم في المڨارين، في حين خيمت قوات الجنرال ديفو في أول الأمر في المغير ثم بعدها في سيدي خليل،  
عندما علم سليمان بن جلاب بما يحدث، أرسل فورا رسولا إلى الشريف محمد بن عبد الله طالبا منه النجدة، أسرع محمد بن عبد الله بقيادة أتباعه، واجتمع الاثنان لمهاجمة القائد مارميي...وقع قتال عنيف، سقط فيه عدد كبير من أتباع سليمان والشريف، وانهزم الجيش تماما، بينما هرب الباقون نحو أعماق الصحراء. بعد هذه المواجهة، دخل القائد مارميي توڨورت، وانضم إليه الجنرال ديفو سريعا.
اعطى الجنرال ديفو الڨايد سي أحمد بن الحاج بن ڨانة قيادة مدينة توڨورت ومنطقتها، وضمها إليه ڨايد العرب الغرابة، لأن أكثر ممتلكات هذه القبيلة كانت في توڨورت. كانت هذه الخطة دليلا على فطنة الجنرال والحكومة الفرنسية، لأنها جعلت توڨورت تحت سيطرة العرب الغرابة، الذين أظهروا ولاءهم لفرنسا منذ زمن طويل، وكان لديهم مصلحة في الحفاظ على الأمن لضمان ممتلكاتهم في توڨورت أو القرى المجاورة. لكن للأسف، لم يستطع سي أحمد بن الحاج بن ڨانة البقاء في توغورت لأنه كان مريضا دائما، فاستقال من منصبه، عرض الجنرال ديفو المنصب على سي علي بن فرحات، الذي كان منفيا في سطيف، وأسند إليه قيادة توڨورت وواد ريغ وسوف، يعتبر هذا التعيين بداية لنشأة "التخندق" أو الخصامات الحزبية التي أصبحت لاحقا سببا للفوضى في المنطقة الصحراوية.
إلى جانب ذلك، أعقب سقوط توڨورت فترة طويلة من السلام والأمن. كان كل شيء هادئا حتى قام سي الصدوق بن الحاج، من قبيلة أحمر خدو، بإثارة الفوضى بين أفراد قبيلته. أرسل أولا بعض أتباعه إلى مكان يدعى حوزة الهنا قرب سيدي عقبة لتحريش أهاليه. استجاب أحمر خدو، الذين كان قائدهم سي أحمد بي بن شنوف، للدعوات وانضموا إلى العصيان، توجه سي محمد الصغير بن ڨانة لمحاربة أتباع سي صدوق المخيمين قرب سيدي عقبة، وأجبرهم على الهرب، ثم تحرك بقواته نحو أراضي أحمر خدو، خرج الجنرال من باتنة بقواته للالتحاق بسي بوعزيز بن ڨانة وخيم في شطمة مع جميع الفرسان والمشاة من القبائل الخاضعة لقيادتهم. أمر الجنرال سي بو عزيز بن ڨانة وأقاربه بمهاجمة سي الصادق في مشونش، تقدم آل بن ڨانة واشتبكوا مع سي الصادق في قتال عنيف سقط عدد كبير من القتلى والجرحى من كلا الجانبين؛ حيث تم تدمير قوات سي صدوق بالكامل، وفر هو نفسه إلى الجبال، غزت القوات الجبال على الفور، وأرسلت عائلة بن ڨانة كمستكشفين: وضع بولخرص ورجاله في الطليعة، بينما وقف سي أحمد بن الحاج بن ڨانة ورجاله على اليمين على مسافة معينة من الجيش كما غطى سي علي بن الڨيدوم الميسرة بنفس الطريقة، بينما قاد سي الحاج بن محمد بن ڨانة المؤخرة، جعل هذا التشكيل عائلة بن ڨانة وجنودهم يتحملون كل جهود العدو، وتعرضت قواتهم بالفعل لخسائر فادحة، بعد مقاومة لفترة، تمكن سي الصدوق، الذي ظل يتعرض للمضايقات من قبل بني ڨانة، من الفرار في النهاية، تمت مطاردته من قبل الضابط لور Laure وڨايد بسكرة سي محمد الصغير بن ڨانة، وتم أسره بعد فترة وجيزة من قبل ڨايد الخنقة سي بن ناصر بن محمد الطيب، صهر الڨايد سي محمد الصغير بن ڨانة تم إحضار سي صدوق إلى الجنرال، واستسلم جميع سكان الجبال الذين تبعوه.... بعد انتهاء هذه الحملة، عادت القوات الفرنسية إلى باتنة، وعاد النظام والسلام والأمن مرة أخرى إلى المنطقة الصحراوية بأكملها، بعد فترة اندلعت انتفاضة أولاد سي حمزة بن الشيخ في الغرب، بينما رفع إبراهيم بن عبد الله من أولاد ماضي راية التمرد. انطلق العقيد سيروكا على الفور إلى الحضنة...
بعد فترة اندلعت انتفاضة أولاد سي حمزة بن الشيخ في الغرب، بينما رفع إبراهيم بن عبد الله من أولاد ماضي راية التمرد. انطلق العقيد سيروكا على الفور إلى الحضنة برفقة سي بولخراس بن ڨانا وسي علي بن الڨيدوم بن ڨانا، لقمع تمرد إبراهيم بن عبد الله، كان سي أحمد بن الحاج بن ڨانا قايد العرب الغرابة، مكلفًا بالمشاركة في هذه الحملة؛ لكنه توفي قبل أيام قليلة من انطلاق الحملة، فتم تعيين سي بولخرص بن ڨانا مكانه .....بأمر من العقيد سيروكا، كان على سي علي بن الڨيدوم التوجه مع كتيبته إلى البعاج لمراقبة تحركات المتمردين وانتظار القوات رافق سي بولخرص وكتيبته العقيد سيروكا Seroka الذي كان معه السيد فورجيمول (اصبح جنرال)، وتوجهوا حتى لحجيرة لمنع أولاد سي حمزة بن الشيخ من دخول أراضي ورقلة ونڨوسة. استمرت هذه الحملة البعيدة حوالي ستة أشهر، وجذب الأداء المتميز لسي بولخرص بن ڨانه خلال هذه الفترة الطويلة انتباه الحكومة، التي منحته وسام جوقة الشرف مكافأة على خدماته الجيدة... عاد الهدوء تمامًا؛ عادت القوات إلى باتنة، وساد السلام الكامل حتى عام 1870، في ذلك الوقت، انتشرت اضطرابات خفية في جميع الجهات، ونصحنا ممثلو الحكومة بأقصى درجات اليقظة للحفاظ على النظام والأمن، كالعادة، بذلنا نحن ال ڨانا كل الجهود لإنجاز هذه المهمة الجديدة، ونجحنا في ذلك، ولكن بأي ثمن! قدمنا مبالغ طائلة للحفاظ على حرس مكون من مئتي فارس في ڨايدات بسكرة ونفس الشيئ في كل ڨايدات عائلة بن ڨانة؛ حيث كان الراتب الشهري لكل فارس 100 فرنك، تدفع الدولة منها 30 فرنكًا فقط، مما اضطررنا لدفع الفرق من أموالنا الخاصة. ومع ذلك، لم نفعل كل هذا إلا للامتثال لأوامر القائد الأعلى لـبسكرة ولمنع أي فوضى في المنطقة الصحراوية...لم نكن نعمل إلا لمصلحة الحكومة الفرنسية، وفي نفس الوقت، كانت السلطات تأمر سي علي باي بن فرحات، الذي كان يقود توڨرت آنذاك، بحراسة مكونة من مئتين وخمسة وثلاثين فارسًا، وكانت الدولة تدفع لكل من هؤلاء الفرسان 100 فرنك شهريًا كراتب؛ بالإضافة إلى ذلك أُعطوه خمسون من الرماة الجزائريين، وجميع النفقات كانت تُقتطع من خزينة الدولة،  
ذلك لأن هناك فرقًا كبيرًا بيننا، بين بني ڨانا، والآخرين. كانوا يعرفون ولاءنا لفرنسا وكان من المنطقي الوثوق بنا، في الواقع، حافظنا على النظام في كل الأراضي الموكل بحراستها حتى وصول القوات الفرنسية، وفي خلال هذا الوقت، ماذا فعل سي علي باي بن فرحات؟ أخذ معه حرسه الشخصي المئتين وخمسة وثلاثين فارسًا الذين كانت الدولة تدفع لهم لحماية توڨورت ولمساعدة الرماة عند الحاجة، وترك مدينة توڨرت تقريبًا بدون حامية.  
بهذه الأفعال، كان سي علي باي بن فرحات سببًا في الاستيلاء السهل على توڨورت من قبل بوشوشة وفي مجزرة الرماة الجزائريين التي ارتكبها الأخير.  
قبل هذه الأحداث المؤسفة بفترة، جاء الكولونيل أدلر Adler إلى بسكرة، واستقبل زيارة من عائلة بن ڨانا، ومن سي علي باي بن فرحات، وأبناء بن شنوف؛ وقد أوصى الجميع بمراقبة تحركات السكان بدقة وبذل كل الجهود للحفاظ على النظام في القبائل، أجبنا آنذاك الكولونيل أدلر بأننا نضمن أن الهدوء لن يختل في القبائل التي يقودها بن ڨانا، ولكن بشرط أن يعود سي علي باي إلى منصبه ويراقب من جانبه ألا يحدث أي شيء في توڨورت، التي كانت تحت حراسته، نظرًا لأن الشريف بو شوشة كان قد نجح بالفعل في الاستيلاء على ورڨلة، وكان من الضروري مواجهته وطرده من أراضي توڨورت.  
في هذه الأثناء، علم الكولونيل أدلر أن قبائل دائرة باتنة قد ثارت وقتل العديد من المستوطنين الفرنسيين حول تلك المدينة، أمر على الفور سي علي باي بالعودة إلى منصبه في توڨورت، ولاحظ الهدوء الذي ساد في القبائل الخاضعة لقيادتنا، فقال لنا كالمعتاد: "عليكم أن تأخذوا الصحراويين إلى المراعي في التل"، وهو ما فعلناه وفقًا لأوامره.  
بعد اتخاذ هذه الإجراءات المختلفة، توجه الكولونيل أدلر بسرعة إلى باتنة لمحاربة التمرد.  
مع ذلك، لم يلتزم سي علي باي بن فرحات بأي من الأوامر التي تلقاها، وبدلًا من الذهاب إلى توڨورت لضمان أمن المدينة، تجول في قبائل الصحراء التابعة لقيادة عائلة بن ڨانا وأشعل الفوضى عبر تحريضهم ضد ڨايد بسكرة...كانت نتيجة هذه المؤامرات أن جزءًا فقط من الصحراويين استمع لنصائحنا وتبعنا إلى المراعي، بينما بقي مثيرو الفوضى الذين أصبحوا أتباعًا لسي علي باي بن فرحات في الصحراء لمواصلة أعمالهم ضد بني ڨانا....القائد الأعلى، الذي كان يدير آنذاك دائرة بسكرة، السيد دي ماغث Magth، علم كل هذه الحقائق، واكتفى بنصح سي محمد الصغير بن قانا قايد بسكرة بالصبر وكسب الوقت حتى تنتهي أمور فرنسا وتصبح قادرة على إرسال قواتنا، مؤكدًا أن من تصرف جيدًا سيكافأ ومن أساء سيعاقب بشدة....عندما غادر أفراد عائلة بن ڨانا الذين كان عليهم أخذ الصحراويين إلى المراحل مع من وافق على مرافقتهم، أُمروا بالتوقف لفترة على أراضي قبيلة أولاد سلطان، التي كانت ثائرة مع القبائل المحيطة، ومحاربة التمرد أينما واجهوه، نُفذت هذه الأوامر بدقة ووقعت عدة معارك دموية بين عرب بني ڨانا والمتمردين، خسرنا الكثير من الرجال، ولم ندخل منطقة التل إلا بعد وقت طويل من الموعد المعتاد، لم يختل وقت الرعي بأي فوضى من جانب الصحراويين المخيمين بالقرب من قبائل التل؛ لأن الذين تبعونا، كما ذكرنا، كانوا محبين للنظام ومخلصين تمامًا للحكومة الفرنسية....خلال هذه الأحداث، لم يغادر سي علي باي بن فرحات محيط بسكرة، وكان يتنقل بين المدينة وسيدي عقبة والزيبان، رغم علمه بأن الشعانبة وبوشوشة دخلوا ورڨلة وبقي خارج ڨايداته عندما وصل خبر استيلاء بوشوشة على توقورت وقتل معظم حراسها وأسر الباقين ونهب المدينة.  
عند سماع هذا الخبر المروع، استشاط البدو الغرابة غضبًا – وكان معظمهم يملكون ممتلكات ومخازن في توڨورت أو حولها – لسماعهم بهذه الأحداث، فطلبوا عبر قائدهم الڨايد سي بولخرس من القائد الأعلى التحرك نحو توڨورت واستعادتها من الغزاة اتباع بوشوشة، لكن الكولونيل رفض الموافقة على الحملة، قائلاً إن مهمة سي علي باي بن فرحات هي العودة سريعًا إلى قيادته واستعادة المدينة....بعد تلقيه أوامر صارمة بهذا الشأن، قرر سي علي باي بن فرحات تجميع قواته وحراسه والتوجه نحو توڨورت.  
عند وصولهم إلى المغير، أول مدينة في وادي ريغ، استقبلهم أهلها وقدموا لهم كرم الضيافة وإيواء خيولهم...لكن عند مغادرته، حرض سي علي باي جنوده على السكان، فقتلوا نحو سبعين شخصًا غدرًا، واستولوا على مخازن العرب الغرابة ونهبوا المدينة... من الواضح أن هذا الفعل الشنيع لـ علي باي نابع من كراهيته لبني ڨانا، وأنه سمح بنهب ممتلكات العرب الغرابة فقط لنشر الفوضى في القبيلة التي كان أحد أفراد عائلة بني قانا ڨايدًا لها....هرب سكان المغير المساكين – الذين عوملوا كأعداء – إلى توقورت وحصنوا أنفسهم هناك.  
هاجمهم علي باي مرات عديدة دون نجاح، في هذه الأثناء، قرر الشريف بوشوشة التوجه بنفسه على رأس قوة صغيرة لمهاجمة علي باي ، لم ينتظره علي باي بل انسحب هو وقواته بسرعة نحو بسكرة، مع نهاية فترة رعي الصحراويين، غادروا التل تحت قيادة أفراد عائلة بني ڨانا المرافقين لهم، في الطريق التقوا بفرقة الجنرال سوسييه، وساروا معه فترة، مما أكد للجنرال إخلاص العرب تحت سلطة بني ڨانا، عند وصول الصحراويين إلى بيطام، وجدوا سي محمد الصغير بن ڨانا، قايد بسكرة، ورئيس المكتب العربي، اللذين جاءا لاستقبالهم بأمر من القائد الأعلى لبسكرة، واللذين، وفقًا للتوجيهات التي تلقياها منه، جعلاهم يغادرون الطريق الرئيسي ليعودوا إلى ديارهم، لتجنب أي صدام بينهم وبين أهل الزاب والفارين الذين كانوا عائدين من توڨورت مع سي علي باي...أطاع عرب بني ڨانا هذه التعليمات بدقة وأثبتوا مرة أخرى خضوعهم لأوامر السلطة الفرنسية....أخيرًا، سمح القائد الأعلى لـبسكرة لـ سي بولخراس وعربه بالتوجه إلى توڨورت التي كانت لا تزال تحت سيطرة الشريف بوشوشة.  
توجه سي بو لخراس وقومه نحو توقورت؛ لكن عند وصولهم إلى أراضي أولاد جلال...
سمح القائد الأعلى لـبسكرة لـ سي بو لخراس وعربه بالتوجه إلى توقورت، التي كانت لا تزال تحت سيطرة الشريف...توجه سي بولخراس واتباعه نحو توڨورت؛ لكن عند وصولهم إلى أراضي أولاد جلال، علموا أن الشريف قد فر للتو من توڨورت ومع ذلك واصلوا طريقهم ودخلوا المدينة دون قتال....قام سي بولخراس بتنظيم الضرائب والرسوم التي يتعين على توڨورت ووادي ريغ دفعها للدولة الفرنسية؛ ونظَّم بنفس الطريقة تلك المستحقة على منطقة السوف، وانتظر وصول فرقة الجنرال لاكروا Lacroix، الذي دخل بعد فترة وجيزة على رأس قواته إلى مدينة توڨورت.  
قام سي بولخراس باعتقال عدد من سكان توڨورت الذين تحالفوا مع بوشوشة بناءً على أوامر الجنرال وسلمهم إليه، وقبل مغادرته، أنشأ الجنرال المذكور مكتبًا عربيًا في توڨورت.  
بعد هذه الحملة، استُعيد السلام في كل المنطقة الصحراوية...
تم نقل علي باي ببساطة وتعيينه قائدًا لـباتنة، لم يمض وقت طويل على توليه منصبه الجديد حتى انشغل بمؤامرات جديدة: أعد قائمة بوجهاء قبيلة العرب الشراقة، التابعين للڨايد سي الحاج بن ڨانا، مدعيًا أن هؤلاء الأشخاص طلبوا منه التوسط لدى ممثلي السلطة لوضع قبيلتهم تحت قيادته، وتجرأ على التحدث بذلك نيابة عنهم...لم تنخدع سلطات باتنة بهذه الخدعة، وبسبب قضية البارود التي وُجدت عند الميهوب بن شنوف بالإضافة إلى هذه المحاولة الجديدة لإثارة الفوضى، تمت إقالة سي علي باي بن فرحات من منصبه وتم نفيه إلى الجزائر العاصمة.  
منذ ذلك الحين، ماذا حدث في قضية العمري؟ ثبت بشكل قاطع وأصبح معروفًا للجميع أن سي علي باي بن فرحات أنفق مبالغ طائلة لتحريض أولاد بوعزيز على الثورة، صحيح أنه كعادته، كان يتجنب التصرف مباشرًة وينقل الأموال عبر وسطاء من أصدقائه؛ لكنه من المؤكد أيضًا أن العديد من خدمه تم التعرف عليهم بين القتلى والجرحى الذين خلفهم المتمردون بعد المعارك، بينما لا يزال آخرون يقضون عقوبتهم في سجون الدولة....ماذا كان يفعل بن ڨانا خلال هذه الثورة؟ متمسكين بعهودهم مع فرنسا، كانوا دائمًا في طليعة القوات الفرنسية؛ لدرجة أن ڨايد بسكرة سي محمد الصغير بن ڨانا أُصيب أثناء قتاله المتمردين، وقُتل أربعة من خدمه وجُرح ثمانية، بينما خسر فرسانه خمسة خيول قتلى وعشرين جريحًا....على أي حال، لم تتوقف عائلة بني ڨانا عن محاربة أعداء فرنسا، وكان عليها في هذه المناسبة أن تفعل كما فعلت دائمًا...بعد قضية واحات العمري، كنا نعيش في هدوء تام، حتى اندلعت ثورة الأوراس واغتيال اثنين من ڨيادنا، لم نكن فقط بمعزل عن هذه الأحداث، بل لم نكن نعلم حتى ما يحدث في تلك الجبال، أو الدوافع الكامنة وراء هذا التمرد،  
ما هو مؤكد هو أننا كالعادة، قدمنا دعمنا للسلطات الفرنسية: كان سي محمد بن الحاج بن ڨانا وقومه جزءًا من الوحدة التي قدمتها بسكرة للحملة، ومن جهة أخرى، كان سي بولخراس و سي محمد بن قانا قايد السحاري، وسي العربي بن محمد خليفة العرب الشراڨة، جزءًا من القوات التي قادها الجنرال قائد قطاع باتنة....في هذه الحملة، أُرسل بن ڨانا إلى الزريبة مع قومهم لمنع المتمردين من الفرار من هذا الجانب، بينما كانت وحدات عسكرية أخرى تطوقهم في الجبال، عدد من المتمردين كانوا قد عبروا إلى الزريبة قبل وصول بن ڨانا إلى المنطقة، لكنهم ماتوا عطشًا في الطريق بين الزريبة ونڨرين....بعد أن مكثوا بضعة أيام في الزريبة، استُدعي بني ڨانا إلى الحملة ثم لم تلبث الثورة أن هُزمت واستسلم المتمردون.  
وفي ظل هذه الظروف، هاجمنا أشخاص يهتمون بنا ويسعون للإضرار بنا عبر اتهامنا بتحريض ثورة الأوراس، وهي افتراء يرفضه أي تفكير بسيط لو أدركوا المسافة التي تفصلنا عن سكان تلك الجبال...لكن، بغض النظر عن الاستحالات المادية، أليست الأربعون عامًا من الخدمات الجيدة والوفية التي قدمتها عائلتنا دليلًا لصالحنا؟ كيف يمكن القبول أن عائلة كرست نفسها لأكثر من أربعين عامًا لخدمة فرنسا وحاربت دائمًا من أجلها، يمكن أن ترتكب مثل هذا الخطأ؟ ليتنا علمنا بما كان يحدث عند أولاد داود! نحاول عبثًا تخمين الدافع الذي يُزعم أنه دفعنا إلى هذا الطريق. هل أردنا الانتقال للسكن عند أولاد داود، أم كان لدينا اطماع او ننوي الاستيلاء على جبال الاوراس؟ كل هذا غير معقول ولا يمكن تصديقه.  
لا يمكننا الا ان نلجا الى الله القوي العظيم، لانه من المستحيل علينا فهم المصداقية التي تحظى بها مثل هذه الاتهامات.  
ماذا حدث عند وصول لجنة التحقيق؟ اعداؤنا وزعوا مبالغ كبيرة على القبائل وجمعوا بهذه الطريقة عددا من الشهود الذين جاءوا ليشوهوا سمعتنا امام اللجنة...الدافع الذي يحرك من نسميهم اعداءنا هو الحسد، واذا هاجموا شرفنا، فانما ذلك لجعلنا نبدو بمثل احتقارهم....لحسن الحظ، سجلات خدمتنا موجودة للرد عليهم وازالة اي فرصة لنجاح افتراءاتهم؛ لانه بدون روح العدالة والانصاف التي وجهت اعضاء لجنة التحقيق، كنا سنتعرض للعقاب دون ان نستحقه باي شكل...
بفضل الله، اخلاصنا الذي لا يمكن انكاره سينقذنا، وسننجو من الاخطار التي كانت تهددنا.  
حاولنا هنا عرض ما قمنا به في خدمة فرنسا، واذا حكم باننا تصرفنا بشكل جيد، فلا نعتقد انه يمكن قبول الافتراءات التي اطلقها اعداؤنا ضدنا كحقائق....على اي حال، نشكر الله لاننا لا نملك ما نلوم انفسنا عليه، ولاننا نجحنا في الوفاء بوعودنا التي قطعناها للحكومة الفرنسية منذ اربعين عاما!  
اما اولئك الذين يسعون لاحداث الشر، فنامل ان تكون افعالهم بلا تأثير؛ لان الناس سيعرفون التمييز بين الصادق والكاذب، وبين من وفى بوعوده ومن لم يف باي منها. 
بالنسبة لنا، مهما حدث، سنستمر في اداء واجبنا، وكما فعل اسلافنا دائما في زمن الحكم العثماني، لن نغير ابدا في العهود التي قطعناها... بفضل الله، عائلتنا تفي بوعودها! التاريخ خير شاهد على ذلك.  

ليحم الله من كان الحق معهم، وهذا حالنا، وليمنح السلام للجميع! من يمكنه ان يمنح الحماية والقوة التي نحتاجها افضل منه، العلي القدير؟  
 النهاية.......

الأحد، 6 يوليو 2025

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة . الجزء الأخير.. بقلم براءة عبد الله

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة
الجزء الثاني عشر والأخير
" درتها يا سي يحياوي "
(الرئيس بومدين لمحمد الصالح يحياوي عام 1978).

في حدود الساعة التاسعة ليلا، غادر الرئيس بومدين مقر المجلس الشعبي الوطني، رفقة الأمين العام لرئاسة الجمهورية، وسط جو ثقيل جدا، لم يتفوه الرئيس بكلمة واحدة، خلال طول الطريق الفاصل بين مقر المجلس الشعبي الوطني ومقر رئاسة الجمهورية، التي عاد إليها بسبب موعد لم يكن بالإمكان تأجيله.
عند ولوجهما للمكتب الرئاسي، كسر عبد المجيد علاهم ذلك الصمت المطبق ليطرح سؤالا مباشرا على الرئيس: 
سيادة الرئيس بعد هذا الكم الهائل من الفوضى التي تسبب فيها الثلاثي (رضا مالك، عبد اللطيف رجال، ومصطفى لشرف)، ألا ترى أنه من الواجب أن تُنهي هذه القضية عند هذا الحد؟
سكت الرئيس بومدين مدة من الزمن أحرجت محاوره وأشعرته أنه قد تجاوز حدود الأدب مع رأس الدولة، ليبدد الرئيس ذلك الجو الثقيل بقوله: وهل مالك، ورحال ولشرف هم فقط من تسببوا في فوضى عارمة؟ أنت تعلم أن المشاكل بدأت منذ الإعلان عن الحكومة الجديدة، فبوتفليقة مستاء لأنني سحبت منه بعض الملفات المهمة، وكلفت بها الدكتور طالب (1)، أحمد دراية بدوره حاول السطو على بعض صلاحيات وزارة الأشغال العمومية، ليوسع بها صلاحياته، وعندنا أيضا الخلاف الذي نشب بين طيبي العربي وأحمد بن شريف لنفس السبب السابق، دون أن أنسى محمد بن أحمد عبد الغني، الذي لم يُخف امتعاضه الشديد، حين كلفت الدكتور طالب بمراجعة حركة الولاة الأخيرة معه، دون أن ننسى وزير المجاهدين، الذي عرض علي كوارث وزارته، فإن كان لابد من إقالة الثلاثي مالك، رحال، ولشرف، فمن باب الانصاف يجب إقالة الحكومة كلها بسبب عدم تجانسها، وعجزها عن الوصول للأهداف التي سطرتها لها خلال اجتماعها الأول في شهر مايو 1977 (2). 
واصل الرئيس بومدين كلامه كأنه يريد التخلص من أمور كثيرة كانت واجمة على قلبه ليقول: .... الذي أنا متأكد منه أن هذه الحكومة، ستكون أقصر حكوماتي عمرا، ولن يتجاوز عمرها تاريخ مؤتمر الحزب، الذي سيكون محطة فاصلة، ستولد خلاله قيادة سياسية جديدة قوية ومتجانسة، تستمد قوتها من الشرعية الشعبية المتمثلة القاعدة النضالية لجبهة التحرير الوطني والمنظمات الجماهيرية التابعة لها... نعم يمكنني إقالة الثلاثي بل يمكنني إقالة الحكومة كاملة، لكن كيف سيفسر أعداء الجزائر تصرفا كهذا؟ كيف لي أن أبدأ في إقالة وزراء لم يمض على تعيينهم أكثر من سنة؟ لا أريد أن أمنح الأعداء إمكانية الطعن في متانة وصلابة ووحدة القيادة السياسية للبلاد، لأنني أعي جيدا أن قوة أي نظام تكمن في قوة مؤسساته، لذلك سأنتظر انعقاد مؤتمر الحزب، وعندها سأغير كل شيء، دون منح أعداء الجزائر إمكانية الطعن فينا، لأن المؤتمر سيد وأي تغيير خلاله سيكون طبيعيا بل وشرعيا. 
في تلك الأثناء وصل إسماعيل حمداني الأمين العام للحكومة، رفقة المحامي قدور ساطور (3) للقاء الرئيس بومدين.
كان الرئيس بومدين يسعى منذ توليه الحكم عام 1965، لاستعادة أموال جبهة التحرير الوطني الموجودة في سويسرا، فقد كان يعتبر تلك الأموال حقا من الحقوق المالية للجمهورية الجزائرية، التي نُهبت واستعملت في ضرب النظام في أكثر من مناسبة، كما كان يعتبر بقاءها في يد ورثة "محمد خيضر" تصرفا غير مقبول، لأن تلك الأموال في حقيقة الأمر أرصدة أعادتها فدرالية فرنسا لجبهة التحرير، قبل حل الفدرالية وتحويلها للودادية الجزائرية في فرنسا، إلا أن محمد خيضر، رفض إعادتها للدولة الجزائرية بعد استقالته من الأمانة العامة لحزب جبهة التحرير الوطني، واستعملها في تمويل حركات معارضة للنظام (4).
أثناء اللقاء، قدم الأستاذ قدور ساطور للرئيس بومدين ملخصا لآخر المستجدات، وأبلغه أن القضية أصبحت قضية وقت فقط، قبل أن تستعيد الجزائر أموال جبهة التحرير الوطني، خصوصا بعد أن قررت محكمة جنيف متابعة الرئيس المدير العام للبنك التجاري العربي (5) بتهمة خيانة الثقة، وكذلك بعد أن قبلت أرملة محمد خيضر التفاوض مع الحكومة الجزائرية لحل تلك المشكلة وديا (6).
في اليوم الموالي لتلك الأحداث، استقبل الرئيس بومدين بمقر رئاسة الجمهورية، المنسق الوطني للحزب العقيد محمد الصالح يحياوي الذي طلب لقاء الرئيس للتباحث معه في القضايا التنظيمية المرتبطة بعقد مؤتمر الحزب، ومن باب المزاح بادر الرئيس بومدين ضيفه (يحياوي) قائلا: درتها يا سي يحياوي وضحك.
رد يحياوي مبتسما: لم أفهم قصدك سيادة الرئيس ḷḷḷ 
ثم أضاف (يحياوي): ربما تقصد ما حدث ليلية أمس في المجلس الشعبي الوطني؟
فرد الرئيس بومدين: بالضبط.
تبسم العقيد يحياوي ثم أضاف: سيادة الرئيس، ما حدث ليلة أمس في المجلس الشعبي الوطني، مسألة تدعوا للفخر، فمستوى النقاش كان عال جدا، ولم يسبق لرئيس عربي ولا حتى إسلامي أن يجلس مع نواب شعبه، ليناقشوه في قضايا تسيير الشأن الحكومي، مما يعني ان حركة 19 جوان قد أثمرت وجاءت بديمقراطية غير موجودة عند سوانا من دول العالم الثالث...... اما قضية المجازر التي ارتكبها وزير التربية في وزارته، فقد طويت نهائيا، ولا أضن ان يرتكب أي وزير مستقبلا أي خطأ مخافة أن يجد نفسه في نفس الموقف التي وقفه وزير التربية، وهذا أيضا شيء ممتاز لأن المجلس الشعبي الوطني مارس حقه في متابعة و مسائلة الحكومة، دون ان يتجاوز حده أو تطئ أقدامه حدود صلاحيات الرئيس (7).
إلا هنا أغلق الرئيس بومدين، ملف حكومته الأخيرة، على أن يعيد تشكيل حكومة جديدة من الكفاءات والشباب، بعد مؤتمر الحزب الذي كان مقررا أن يجتمع خلال الثلاثي الأول من عام 1979، إلا أن المنية وافته قبل أن يتمكن من إدخال التغييرات التي أرادها على الجهاز التنفيذي في البلاد.

الهوامش:
1- سحب الرئيس بومدين من وزير خارجيته أربع ملفات كلف بها وزيره المستشار الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وهي: ملف الصحراء الغربية، ملف الجامعة العربية، وكذلك مهمة تمثيل الجزائر في كثير من الندوات والمؤتمرات الدولية.
2- مصادر خاصة.
3- الأستاذ قدور ساطور: من مواليد 14 أبريل 1911 بالجزائر العاصمة، تخرج من معهد الحقوق عام 1933 وفتح مكتب محاماة في العاصمة، التحق بثورة التحرير الوطني، وأسس شبكة محامي جبهة التحرير الوطني، ترأس لجنة تنظيم استفتاء تقرير المصير، وعمل مستشار قانونيا لدى الهيئة التنفيذية ببومرداس. بعد الاستقلال ترأس منظمة المحامين من 1963 إلى 1967، وعمل لدى وزارة العدل كمكلف بملفات ثقيلة، منها متابعته لملف استعادة أموال جبهة التحرير الوطني، التي استطاع استعادتها لصالح الدولة الجزائرية، توفي عام 1997.
4- يوجد معلومات مؤكدة لدى مصالح الأمن العسكري مفادها ان خيضر قدم مبلغ مليوني فرنك فرنسي لبوضياف و آيت احمد، كدعم لحزب الثورة الاشتراكية وجبهة القوى الاشتراكية، كما قدم دعم مالي لكريم بلقاسم في حدود 200 ألف فرنك فرنسي.
5- البنك التجاري العربي: مؤسسة مصرفية مقرها في سويسرا صارت ملكا لمحمد خيضر بعد أن قام بشراء أسهمها المقدرة بعشرين ألف سهم، وصب في حسابها كل أموال جبهة التحرير الوطني التي كانت بحوزته في حسابات أخرى والمقدرة بين 40 إلى 43 مليون فرنك سويسري أي حوالي 20 إلى 25 مليون دولار.
6- راجع الصحف المرفقة.
7- مصدر خاص.

المراجع والكتب:
1- كتاب "أنا وهو وهم" للدكتور محيي الدين عميمور.
2- كتاب "الفرص الضائعة" للدكتور محيي الدين عميمور.
3- كتاب "أيام مع الرئيس بومدين" للدكتور محيي الدين عميمور.
4- كتاب "التاريخ السياسي للجزائر من 1962 إلى يومنا هذا" للدكتور عمار بوحوش.
5- كتاب "مذكرات جزائري" للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الجزء الثاني.
6- كتاب "الجزائر وفرنسا 50 سنة من التاريخ" الجزء الأول.
7- كتاب "السياسة الخارجية الجزائرية من 1962 إلى 1978". 
8- كتاب "الصدفة والتاريخ" الجزء الثاني.

السبت، 28 يونيو 2025

فلسفة الهجرة ، بقلم الدكتور خالص جلبي


 المشكلة في الذين تركوا الوطن ليست واحدة بل ثلاث: فالذين ذهبوا إلى الغرب أصبحت حياتهم لا تعرف الهدوء فقد دخلت الزوبعة إلى حياتهم إلى أجل غير مسمى. ولعلها ستبقى ترافقهم مثل الحمى المالطية حتى نزع الروح. ويقول المثل الشركسي: من يخسر وطنه يخسر كل شيء. حتى يجد وطنا جديدا لن يكون وطنا. وعندما عرض على (فيرنر هايزنبرغ) الدماغ الفيزيائي صاحب نظرية الارتياب في ميكانيكا الكم الهجرة إلى أمريكا كان جوابه: إنه قرار يجب أن يحسم في عمر مبكر. فمن نشأ في ثقافة بعينها حتى عمر معين تصبح تلك البيئة له أكثر الأوساط تأثرا منها وتأثيرا فيها. كان جوابه: سأرجع إلى ألمانيا حتى إذا انهدمت المدن الألمانية قمت بتربية جيل ما بعد الكارثة. وهو الذي حصل عندما دشن معهد ماكس بلانك في فروع لا نهاية لها من العلوم.     
والمشكلة الثانية أن من هاجر واحتك بالحضارات الأخرى يصل إلى وضع لا يحسد عليه، فلم يعد الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده فهو نفسياً في الأرض التي لا اسم لها. ومن أجمل ما قرأت نقلا عن مهاجر ألماني ما معناه أن الذي يرى وطنه جميلا فهو لا يفهم الحياة، ومن شعر بالغربة في الهجرة فهو غير ناضج، ولكن من شعر بالغربة في كل العالم فهو المواطن الصالح. يقصد بهذا إن وجودنا في الأرض كله يقوم على التوقيت والإعارة وأننا البشر من التراب وإليه نعود. وهذا يقرب إلى وعينا صدى تلك الجملة العميقة التي نطقها المسيح عليه السلام: مملكتي ليست من هذا العالم. 
ويعتبر قرار الهجرة ثالثاً من أصعب وأخطر القرارات في حياة الإنسان ولعله يكون طريق باتجاه واحد. ومشكلة الغرباء أنهم يبقون غرباء لفترة طويلة وقد تدوم هذه الغربة مدى الحياة. وعلى من يتخذ قرار الهجرة أن يتذكر ثلاث أمور: أنه قرار لا يتعلق به وحده بل ذريته من بعده. ثانياً أنه قد يكون هجرة بغير عودة. وثالثا ليتذكر قول الفيلسوف ديكارت أن من يكثر التنقل يصبح غريبا في بلده.  
الهجرة ظاهرة كونية مثل الوحي فكما أوحى الله إلى أنبياءه روحاً من أمره، كذلك أوحى إلى (النحل) أن اتخذي من الجبال بيوتا. وأوحى إلى (أم موسى) أن أرضعيه. كل بطريقته الخاصة. ولا يهاجر الإنسان فقط بل سمك السلمون والنحل والطيور والفراشات. ويهاجر الرجل والمرأة إلى عش جديد لتوليد عائلة جديدة. فهذا قانون وجودي. 
الطيور تهاجر تبحث عن الحب. وسمك السلمون يهاجر في ملحمة رائعة من نهر فرايزر في كندا ليقطع رحلة عشرة آلاف كيلومتر حتى المحيط. وتغادر الفراشات (الملكة) شمال أمريكا لتصل إلى أمريكا الجنوبية فتتبدل خلقا من بعد خلق. ولكن هجرة الإنسان غير هجرة السمك والطيور فهي حركة ثقافية. 
وحسب فيلسوف التنوير الألماني (كانط) فقد كانت الهجرات تأريخاً للاضطهاد السياسي، من خلال الانشقاق المتتابع في الجماعات الإنسانية، وبذلك زحف الإنسان في الأرض من شرق أفريقيا حتى جنوب أمريكا في رحلة امتدت على مدار 200 ألف سنة. فكان الاضطهاد في طرف منه خيرا في انتشار الإنسان في الأرض. ونعرف اليوم أن هجرات الجنس البشري عبرت مضيق بهرنجر قبل 12 ألف سنة وتابعت زحفها حتى مضيق ماجلان وأرض النار.  
وحسب المؤرخ البريطاني (توينبي) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) فالهجرة صيروة تنطبق أيضاً على الأنبياء من خلال قانون (الاعتزال والعودة). وبذلك هاجرت البوذية من نيبال في الهند واستقرت في الصين. وتركت المسيحية فلسطين وزحفت إلى روما.
وفي مسيرة (ماوتسي تونج) مشى معه مائة ألف من أتباعه إلى شمال الصين ما عرف بـ (المسيرة الكبرى). بعد أن اجتاز عشرات الأنهار وسبع سلاسل من قمم الجبال لينشيء جمهوريته الأولى في ينان بأربعة آلاف إنسان. بعد أن قتل أكثرهم على يد الكومنتانغ. 
والسؤال ما الذي يدفع الإنسان إلى الهجرة فيترك مراتع الطفولة وأحب الأماكن إلى قلبه كما وصف ذلك الرسول ص وهو يجبر على مغادرة مكة عندما ائتمروا على قتله وتفريق دمه بين القبائل؟ 
إن شعور الفراق الأبدي الذي استولى على (هرقل) كان حزينا وهو يغادر دمشق بعد الفتح الإسلامي ويقول: "وداعا يا دمشق .. وداعاً لا لقاء بعده" وهي نفس الجملة التي كررها فارين اللجوء السياسي من بلاد الشام إلى الأرجنتين والدومينيكان والسويد. قد يحمل نعش أحدهم إلى الوطن كما حصل مع نزار قباني فيدفن فيه. ولكنه لم يعد وطنا للحياة بحال. فهو وطن الأحياء الأموات. والموتى فيه يدفنون. 
يعتبر إبراهيم عليه السلام المهاجر الأكبر فهو الذي ترك بلاد الرافدين ووفرة المياه وخضرة النيل ليأوي إلى أرض غير ذي زرع عند بيته المحرم. فالصحاري مع الحرية أطيب من الاستبداد مع الجنان. وهناك أقام القواعد من البيت في بيئة صعبة هو وإسماعيل ربنا تقبل منا. وهناك دعا أن لا يجعل في ذريته من يعبد الأوثان. كان هذا بعد النقاش المرير مع النمرود في العراق الذي زعم أنه يحيي ويميت، وبعد نجاته من النار فكانت بردا وسلاماً عليه. ترك كل ذلك خلف ظهره ليأمن على ذريته في أرض غير ذي زرع، لأن أعظم زرع هو الإنسان في مناخ الحرية. ومع الديكتاتورية لا أمان ولا ضمان لأي شيء. وفي جو الاستبداد تقتل الحياة قتلا. 
وهاجر فتية أهل الكهف فرارا من الاضطهاد السياسي ومعهم كلبهم، فبيئة مدمرة من هذا النوع لا تطيقها الكلاب. وفر موسى عليه السلام بدوره من جو الحضارة الفرعونية المقيت التي اعتاد أهلها أكل البصل والثوم مع الإهانة والإذلال إلى صحراء مدين ليتزوج هناك ويعيش، ولم يرجع إلى مصر إلا برسالة، ولم يكن له أن يعيش قط في بلد يرفع القبور لأشخاص فانين على هيئة أهرامات تناطح السحاب في مناخ ميت مميت من الديكتاتورية. 
قد يكون موسى نجح قديما في الهجرة بشعب كامل يشق بعصاه البحر فكان كل فرق كالطود العظيم. ولكن مشكلة الهجرة اليوم أنها تتحول إلى قضية دولية ولكن من يهاجر في العادة رغبة هم زبدة القوم وأكثرهم فعالية. وجرت العادة أن أكبر الهجرات جاءت بأفضل النتائج فمع طوفان نوح تطهرت الأرض. ومع هجرة كولمبس تقرر مصير الغرب وانقلبت محاور التاريخ وانتقلت الحضارة من المتوسط إلى الأطلنطي.
الدكتور خالص جلبي

السبت، 21 يونيو 2025

الارتباط المرضي بالأم في المجتمع الجزائري:.. بقلم بلال قهلوز

٧ في المجتمع الجزائري: حين يتحوّل الحب إلى عبء واستعراض
في المشهد الاجتماعي الجزائري، لا شيء يجلب التعاطف والتمجيد أكثر من شاب يقول: "ربي يخليلي ميمتي (ma mère)". عبارة جاهزة، محفوظة، تُستخدم بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي وحتى في الجلسات العائلية، لتُظهر نموذجًا مثاليًا للابن البارّ، لكنها في كثير من الأحيان ليست سوى قناع اجتماعي (masque social) يخفي وراءه علاقة مختلّة، لا تقوم على العناية والرعاية بل على الاستغلال والاتكالية (dépendance infantile).
العديد من هؤلاء الشباب الذين يتغنون بـ"حب الأم" هم أنفسهم من يسهرون حتى ساعات متأخرة، ثم يعودون للبيت يوقظون الأم لتحضير العشاء أو طهي "الكسرة"، وكأن الأم آلة خدمية (machine domestique) لا تتعب ولا تشتكي. وهو لا يتردد في أن يقول: "لا توجد امرأة في العالم تتحملني مثل أمي". وهذا صحيح بشكل مأساوي، لأنه فعلاً لا توجد امرأة تقبل بحماقاته اليومية، ولا بهذا المستوى من الأنانية والطفولية (immaturité affective).
هذا "الحب" لا يظهر في الواقع العملي: فكم من أم تشتكي من أمراض مزمنة، لكنه لا يصحبها إلى الطبيب، لا يكلّف نفسه بعلاج أسنانها أو حتى بنزهة تُخفف عنها وحدة البيت وثقل السنين. إن ما يسميه البعض "حبًا للأم" ليس سوى نوع من الرأسمال الرمزي (capital symbolique) يوظفه الشاب أمام مجتمعه لتلميع صورته، وليس تعبيرًا حقيقيًا عن علاقة إنسانية متوازنة.
في حفلات الزواج مثلًا، نراه يركع أمام أمه، يقبّل رجليها أمام زوجته المستقبلية، ويقول: "أمي هي الأصل"، في مشهد استعراضي أشبه بمسرحية رومانسية رخيصة (drame sentimental). لكنه في اليوم التالي قد يتركها وحيدة، لا يسأل عنها، ولا يفتح لها باب العيادة، لأنه ببساطة يحب أن يُرى وهو يبرّ بها، لا أن يعيش فعل البرّ.
المشكل الحقيقي أعمق: الشاب الجزائري لا يريد أن ينفصل عن أسرته، لأنه يجد فيها ملاذًا من المسؤولية، وامتدادًا لحياة دون نضج. فبيت الأم هو الفندق (hôtel maternel) الذي يعود إليه محمّلًا بالتعب والأنانية، دون أي مقابل فعلي. وبهذا المعنى، تتحول الأم إلى "حاضنة للطفولة الدائمة" وليس إلى رمز للحنان فقط.
الحب الحقيقي للأم ليس في الأقوال ولا في الصور التي تُنشر على "فيسبوك" يوم عيدها، بل في احترام جسدها، صحتها، حريتها، وفي أن يعي هذا الابن أن الأم ليست امتدادًا له، بل كائن .

الاثنين، 2 يونيو 2025

عرائس الحروب ..

عرائس الحرب أو "War Brides : لماذا تتخلى النساء عن شركائهن بسرعة ويتكيفن مع الجدد بسهولة؟ الحقيقة المدهشة وراء التكيف الأنثوي!"

عرائس الحرب أو "War Brides" هي ظاهرة اجتماعية تاريخية تعود إلى العصور القديمة وحتى الحروب الحديثة، حيث كانت النساء يؤخذن كزوجات أو سبايا من قِبَل القوات الغازية. هذه الظاهرة كانت نتيجة مباشرة لظروف الحروب، حيث يتم القضاء على الرجال المحاربين من القبيلة أو المجتمع المهزوم بينما تُحتفظ النساء بسبب قيمتهن في الإنجاب وتربية الأطفال.
في العديد من الثقافات التاريخية، عندما كانت قوة غازية تهزم قوة أخرى، كانت تقتل الرجال وتأسر النساء. هؤلاء النساء كن يُستخدمن كوسيلة لدمج الثقافات أو كجوائز حرب، وغالبًا ما يُجبرن على الزواج من محاربي القبيلة الغازية، مما يساهم في استمرارية وتوسعة سلالة تلك القبيلة.

الطبيعة البشرية، وخاصةً النسائية منها، تُملي على النساء البحث عن الأمان والاستقرار. في ظروف الحروب، كان الارتباط بالغزاة يُعتبر أحيانًا وسيلة للبقاء على قيد الحياة، حيث يُنظر إلى الرجال المهزومين كأفراد غير قادرين على الحماية وتقديم الأمان.

النساء يمكنهن التأقلم بسرعة بعد الانتقال من الرجال المهزومين إلى الرجال المنتصرين. هذا التأقلم يُفسر جزئيًا بظاهرة "الحب الجنسي المتبادل"، حيث تبحث المرأة بشكل لا واعٍ عن الأمان والموارد من الشريك الجديد القوي.

الظاهرة تمتد أيضًا لفهم أعمق للطبيعة الأنثوية، خاصةً من منظور علم النفس التطوري. ففي حين أن الرجال كانوا يُعتبرون الدرع الذي يحمي القبيلة أو الأسرة، كانت المرأة تُعتبر الجائزة التي يجب الحفاظ عليها. هذا هو أحد الأسباب التي تجعل النساء اليوم أكثر قدرة على التكيف مع تغييرات الشركاء مقارنة بالرجال.

عرائس الحرب ليست مجرد حدث تاريخي بل هي ظاهرة لها آثارها في العلاقات المعاصرة. يمكن للرجال اليوم أن يتعلموا من هذه الديناميكيات، حيث تكشف عن الطبيعة التكيفية للنساء وعن أهمية الأمان والموارد في اختيار الشريك. المرأة تميل دائمًا للارتباط بالشريك الذي يوفر لها الأمان، وهذا يتضح من كيفية اختيارها لشركائها في الحياة اليومية سواء في سياقات الحروب أو غيرها.

ظاهرة عرائس الحرب تُبرز جوانب مهمة من الطبيعة الأنثوية، خصوصًا فيما يتعلق بالاختيار الجنسي والتأقلم السريع مع الظروف المتغيرة. وهذا التأقلم ليس مقتصرًا على السياقات الحربية فقط، بل يمتد إلى العلاقات الحديثة أيضًا. النساء يبحثن بشكل طبيعي عن الشريك الأكثر قدرة على توفير الأمان والحماية والاستقرار، سواء كان ذلك في العصور القديمة أو في العالم المعاصر.

في العلاقات الحديثة، النساء يميلن إلى تغيير الشركاء بسرعة عندما يشعرن بأن الشريك الحالي لم يعد قادرًا على تقديم الأمان والحماية أو الموارد الكافية. هذه الظاهرة تُعرف باسم "تقافز القردة"، حيث تترك المرأة شريكها الحالي إذا وجدت شخصًا آخر يلبي احتياجاتها بشكل أفضل، هذه طبيعة غريزية لدى المرأة البحث عن أفضل الخيارات لضمان مستقبلها ومستقبل أبنائها.

الهيبرجامي او التزاوج الفوقي هي ميل المرأة للارتباط بشريك أفضل من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية. في سياق عرائس الحرب، كانت النساء دائمًا يبحثن عن المحاربين الأقوى والأكثر قدرة على حمايتهن وتوفير الموارد لهن. هذا المبدأ لا يزال قائمًا اليوم، حيث تسعى المرأة إلى الارتباط بشريك يوفر لها أمانًا ماليًا واجتماعيًا، ويُعتبر هذا جزءًا من التكيف الطبيعي لضمان بقاء العائلة.

حتى في العلاقات الحديثة، يُتم ملاحظة هذا النمط في كيفية اختيار النساء لشركائهن بناءً على المكانة الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يعكس ديناميكيات عرائس الحرب بشكل عصري. فالنساء يمِلن إلى الارتباط بالرجال الذين يتمتعون بوضع مالي جيد، مكانة اجتماعية مرموقة، أو يتمتعون بصفات القوة والقيادة.

المرأة عبر التاريخ أظهرت قدرة عالية على التكيف مع التغيرات الاجتماعية، الاقتصادية، والحربية التي تؤثر على وضعها ومكانتها. من ظاهرة عرائس الحرب إلى تكيّف النساء في المجتمعات الحديثة، نرى أن النساء يتمتعن بمرونة نفسية وسلوكية تمكنهن من التأقلم مع الشركاء والظروف المتغيرة بسرعة وفعالية.

‏هذا التكيف ينبع من الحاجة البيولوجية والاجتماعية للبقاء وضمان استمرارية النسل، ما يجعل المرأة أكثر قدرة على تغيير الشركاء، وتبني أدوار جديدة عندما تتغير الظروف المحيطة. فهي تسعى دائمًا للحصول على أفضل الشروط التي تضمن لها الأمان والاستقرار، سواء كان ذلك من خلال الارتباط بالغزاة كمثال تاريخي أو اختيار الشريك الأنسب في العصر الحديث.

التكيف الأنثوي يتجلى أيضًا في سرعة المرأة في التعافي من الصدمات العاطفية وإعادة بناء حياتها، بعكس الرجل الذي قد يحتاج لوقت أطول للتأقلم مع الفقدان أو التغيير. هذه القدرة على التكيف تفسر لماذا المرأة أكثر مرونة وقدرة على تغيير الشركاء، وتبني أدوار جديدة على مر العصور.
منقووول

الثلاثاء، 27 مايو 2025

اطول تعديل حكومي في تاربخ الجزائر المستقلة .. بقلم براءة عبد الله

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة

الجزء الثامن
محمد الصالح يحياوي أول من يكسر حاجز التحفظ

"سي بومدين، هل تظن أن تعيين لشرف على رأس وزارة التربية، قرار صائب ولن يتسبب في أي مجزرة على مستوى قطاع التعليم"؟ 
محمد الصالح يحياوي للرئيس بومدين أبريل 1977.

خلال الفترة الممتدة بين 28 أبريل 1977 (تاريخ الإعلان الرسمي عن التشكيلة النهائية للحكومة)، و03 مايو 1977 (تاريخ أول اجتماع للحكومة الجديدة)، أمر الرئيس بومدين الأجهزة السياسية والأمنية أن تجس نبض وردود الأفعال الداخلية والخارجية، فيما يخص تشكيلة حكومته الجديدة، التي اختلفت وجهات النظر وتعددت الآراء فيها، فبعض الجهات الرسمية (جهاز الحزب على وجه الخصوص وبعض قيادات الجيش) تحفظت على بعض الأسماء التي تولت مناصب وزارية، كما استهجن الكثير من المتابعين تعيين بوعلام بن حمودة وزيرا للأشغال العمومية، بينما كان قبلها وزيرا للعدل حافظا للأختام، فأين الصلة بين العدل والأشغال العمومية؟ 
كما اعتبر الكثير من إطارات جهاز الحزب، تعيين مصطفى لشرف على رأس وزارة التربية الوطنية، نوعا من التراجع عن سياسة التعريب، التي خطت خطوات كبرى منذ الاستقلال إلى ذلك التاريخ، وكثير من قيادات الحزب ألمحت إلى أن عبد الحميد مهري، الذي كان حينها أمينا عام لوزارة التعليم الابتدائي والثانوي، أحق بالوزارة من لشرف (1)، بينما اعتبرت جهات خارجية (2) أن بومدين شكل حكومة مسيرين لا غير (3)، وتضاربت الآراء، وكثر القيل والقال، ولم يتجرأ أحد على مواجه الرئيس بومدين بالحقيقة، باستثناء المقدم قاصدي مرباح الذي اقتصرت مهمته على تقديم تقارير كتابية عن قراءة أجهزته لردود الأفعال الداخلية والخارجية فقط، حتى كسر العقيد محمد الصالح يحياوي (4)، جدار الصمت والتحفظ حين اتصل بعبد المجيد علاهم، ليطلب لقاء الرئيس بومدين لأمر مهم دون أن يحدد طبيعته، فما كان من بومدين إلا أن ضرب له موعدا صبيحة اليوم الموالي.
استقبل الرئيس بومدين، العقيد يحياوي في الموعد الذي حدده له، وبعد تبادل عبارات المجاملة والترحيب، تفاجأ الرئيس بومدين أن القضية التي جاء من أجلها العقيد يحياوي لا علاقة لها بشؤون الجيش.
فيحياوي المعروف بصرامته، وانضباطه الشديد، دخل مباشرة في صلب الموضوع الذي جاء من أجله ليقول: سي بومدين ليس من عادة العسكريين، التدخل في العمل الحكومي، لكنني كعضو في مجلس الثورة، أظن أنه من حقي طرح سؤال، لم تسمح لي الظروف بطرحه قبل اليوم، راجيا أن يتسع صدرك له.
 فأشار إليه الرئيس بومدين برأسه بـ (نعم)؛ ليطرح يحياوي سؤالا ثقيلا نزل على الرئيس بومدين ثقل جبال الأوراس فقال: سي بومدين، هل تظن أن تعيين لشرف على رأس وزارة التربية، قرار صائب ولن يتسبب في أي مجزرة على مستوى قطاع التعليم؟ (5). نظر الرئيس بومدين بتمعن ليحياوي بضع ثوان قبل أن يرد قائلا: لقد سبق وأن قلت لبلعيد عبد السلام إنني أعتبر من دواعي الفخر أن يكون إلى جانبي شخصية مثقفة، وصاحب رأي سديد، على شاكلة مصطفى لشرف (6). 
ثم أضاف: اسمح لي أنا أيضا أن أطرح سؤالا مباشرا، أرجو أن تجيب عليه بدون تحفظ: 
على أي أساس استنتجت أن قرار تعيين لشرف وزيرا للتربية غير صائب؟ 
وعلى أي أساس استنتجت أنه سيرتكب مجازر في القطاع الذي هو مسؤول عنه؟
حاول العقيد يحياوي تلطيف الجو بينه وبين الرئيس بومدين فرد مازحا: قلت إنك ستطرح سؤالا واحدا، لكنك طرحت اثنين، فتبسم الرئيس بومدين.
ثم أردف يحياوي قائلا: لا خلاف في أن لشرف شخصية على قدر عال من الثقافة، لكن أغلبية الإطارات الذين عرفوه وعملوا معه قبل اليوم، يؤكدون أنه لن يتوانى في إعادة النظر في سياسة التعليم المنتهجة منذ 1962، وقد يعيد النظر في كل شيء، فيرجعنا للخلف بدلا من أن يقدمنا للأمام؛ أعلم أنه قد فات الأوان على مثل هذا الكلام، لكن كان من الأفضل الاحتفاظ بعبد الكريم بن محمود على رأس وزارة التربية، أو تكليف مهري بدلا منه، فهو أحق بوزارة التربية من لشرف، أما الآن وقد صرنا جميعا أمام أمر واقع، فالمطلوب إقناع لشرف بإكمال المسيرة التي بدأت عام 1965، وليس تكسيرها وإعادة النظر فيها، وأذكرك سيدي الرئيس أن لشرف خلال كتابته للشق المتعلق بالتربية والتعليم في الميثاق الوطني، لم يُخف ازدراءه للسياسة المنتهجة في مجال التربية والتعليم، ومن هذا المنطلق يمكن الاستنتاج أنه سيأتي بعكس السياسة المتبناة في الميثاق (7)، وعلى ضوء ذلك استنتجت أنه سيرتكب مجازر في القطاع الذي هو مسئول عنه. 
سكت الرئيس بومدين قليلا ثم قال ليحياوي: إن لكل مقام مقال، وإنه من السابق لأوانه الحكم على الرجل قبل أن يباشر مهامه، فحتى هذه اللحظة لم يرتكب لشرف أي شيء يلام عليه، وقد اخترته لتولي حقيبة التربية لسببين رئيسيين: 
أولهما: أنه بحر من المعرفة، يمكنها أن يكون قيمة مضافة في ترقية التعليم، فالمطلوب منا الآن الرفع من مستوى التعليم في البلاد، ولشرف أحسن خيار يمكنه إكمال المسيرة وتحقيق الهدف المنشود.
ثانيهما: لقد أشرف مصطفى لشرف بنفسه، على اللجنة الفرعية التي كتبت الميثاق الوطني، في شقه المتعلق بالتربية والتعليم، فهو أفضل من يمكنه أن يحقق الأهداف المسطرة في الميثاق لأنها من صلب أفكاره.
لينتهي اللقاء بين الرجلين، بوعد قطعه الرئيس بومدين لضيفه، مفاده أنه سيحرص شخصيا على إعطاء التوجيهات اللازمة، لوزير التربية، حتى يكمل المسيرة التي بدأت عام 1962 (8)، وألا يقوم بأي عمل قد يمس سياسة التعريب المنتهجة منذ الاستقلال.
بعد ذلك اللقاء مباشرة، طلب الرئيس بومدين من الأمين العام الجديد لرئاسة الجمهورية عبد المجيد علاهم، أن يعلم جميع الوزراء بأنهم مدعوون لأول اجتماع لمجلس الحكومة يوم الثلاثاء 03 مايو 1977 (9).
صبيحة اليوم المحدد، اجتمعت الحكومة الجديدة لأول مرة، تحت رئاسة الرئيس هواري بومدين، الذي أبدى صرامة تجاوزت المعهود، فلم يُخف امتعاضه من التأخير الذي رافق تشكيل الحكومة، لكنه أغلق الباب أمام أي نقاش حين قال إنه بعد أن أفرغ ما في قلبه، يطوي صفحة ويفتح صفحة جديدة، كما حدد بدقة المطلوب من الوزراء في مهامهم الجديدة، وحث الجميع على ضرورة التكاتف وتنسيق عملهم، بحيث تكون الحكومة جسدا واحدا، يسير بنفس الإيقاع، وأكد أن الثورة الزراعية مشروع وطني غاية في الحساسية، كان وسيبقى أحد المحاور الكبرى لسياسة التنمية الوطنية، فكما يعيش أبناء المدن في نوع من الرفاهية ومستوى معيشي متطور، علينا كحكومة أن نضع أبناء الريف في نفس المستوى، إذ لا فرق بين سكان المدن وسكان الأرياف، ويجب أن يشمل ذلك تحسين ظروف معيشة الفلاحين.
خلال نفس الاجتماع، تكلم الرئيس بومدين بإسهاب، عن وجوب إعادة بعث دور جهاز الحزب، تمهيدا لانعقاد مؤتمره الذي سيكون فرصة جديدة، لإعادة صياغة الأرضيات السياسية والاقتصادية للدولة الجزائرية، وأنهى كلمته بأنه قرر فتح تحقيق معمق حول ممتلكات وأسلوب معيشة جميع الموظفين السامين بدون أي استثناء، وأن هذا التحقيق سيشمل عائلات كبار المسؤولين وزوجاتهم وأبناءهم بل وحتى والديهم والإخوة والأصهار، ليؤكد للمرة الثانية أنه لا مجال للجمع بين الثورة والثروة، فقد سبق أن تكلم في الموضوع أثناء خطاب قسنطينة في جوان عام 1974 (10).
عند اختتام اجتماع مجلس الحكومة، طلب الرئيس بومدين من الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي البقاء رفقة وزير الثقافة والاعلام رضا ملك لصياغة البيان الختامي لاجتماع مجلس الحكومة، ثم طلب من الدكتور محيي الدين عميمور الاشراف على نشر البلاغ بدلا من وزارة الاعلام، مما أوحى وكأن الرئيس لا يثق في وزير إعلامه، أو عن الأقل لا يريده أن يرتكب أي خطأ في انتظار إلمامه بمهامه الجديدة.
باشر جميع الوزراء مهامهم، باستثناء وزير التربية مصطفى لشرف، الذي غادر الجزائر نحو العاصمة المكسيكية، ليقوم بتصفية أعماله والقيام بإجراءات توديع السلطات الحكومية المكسيكية كما هو التقليد في العرف الدبلوماسي، إلا أن لشرف أطال الإقامة في جمهورية المكسيك، مما أثار حفيظة الرئيس بومدين الذي طلب من عبد المجيد علاهم، الاستفسار في الموضوع، لأنه من غير المعقول أن يقبع سفير منتهية مهامه في منصبه، بينما منصبه الجديد قد تولاه فعليا بتاريخ 12 أبريل 1977، حين جرى حفل استلام المهام بينه وبين الوزير السابق للتعليم عبد الكريم بن محمود (11).
تطبيقا لأمر الرئيس بومدين، اتصل عبد المجيد علاهم هاتفيا بمصطفى لشرف، ليبلغه أن الرئيس بومدين غير راض تماما عن بقائه في العاصمة مكسيكو، بينما منصبه كوزير للتربية بقي شاغرا في غيابه، فكان رد مصطفى لشرف أن السنة الدراسية قد أشرفت على نهايتها، وأنه منشغل بتحضير برنامج عمل وزارته، لذلك يريد البقاء بعيدا عن الضوضاء ليقوم بعمله على أكمل وجه، كما أن الأمين العام للوزارة عبد الحميد مهري، يمكنه القيام باللازم في غيابه. 
حين أبلغ عبد المجيد علاهم الرئيس بومدين بالخبر، استبشر الرئيس خيرا، لأن جميع مصادره كانت تقول إن مكوث العروبي عبد الحميد مهري، لن يطول إلى جانب وزير التربية الجديد، بسبب الاختلاف الجوهري في التوجهات الفكرية بين الرجلين.
يتبع 

الهوامش:
1- مصدر خاص.
2- المقصود فرنسا.
3- راجع جريدة لوموند الفرنسية الصادرة بتاريخ 29 أبريل 1977.
4- كان العقيد محمد الصالح يحياوي حينها عضوا في مجلس الثورة، ومديرا للأكاديمية العسكرية بشرشال منذ 1969.
5- مجموعة حوارات خاصة وحصرية مع عبد المجيد علاهم.
6- راجع جريدة الشعب العدد الصادر بتاريخ 09 جويلية 1990 (حوار مع بلعيد عبد السلام).
7- نفس المرجع الثالث.
8- نفس المرجع السابق.
9- راجع الجرائد الوطنية الصادرة بتاريخ 04 مايو 1977. 
10- راجع خطاب الرئيس بومدين في قسنطينة بتاريخ 06 جوان 1974.
11- راجع الصورة المرفقة رقم .....

الصور والوثائق المرفقة: 
1- نسخة من مقال جريدة لوموند الفرنسية متعلق بتشكيلة حكومة 1977.
2- مقال من جريدة الشعب الصادرة بتاريخ 03 مايو 1977 متعلق بأول اجتماع للحكومة الجديدة.
3- صورة رقم 01 استقبال الوزراء من طرف عبد المجيد علاهم لحظة دخولهم لقاعة الاجتماعات دخول وزير المجاهدين محمد السعيد معزوزي.
4- صورة رقم 02 استقبال الوزراء من طرف عبد المجيد علاهم لحظة دخولهم لقاعة الاجتماعات دخول وزير السكن و البناء عبد المجيد اوشيش.
5- صورة رقم 03 منظر لقاعة اجتماعات مجلس الوزراء اول اجتماع لحكومة 1977.
6- صورة رقم 03 منظر لقاعة اجتماعات مجلس الوزراء اول اجتماع لحكومة 1977.
7- صورة استلام المهام بين عبد الكريم بن محمود ومصطفى لشرف 12 ابريل 1977.

المراجع والكتب:
1- كتاب "أنا وهو وهم" للدكتور محيي الدين عميمور.
2- كتاب "الفرص الضائعة" للدكتور محيي الدين عميمور.
3- "التاريخ السياسي للجزائر من 1962 إلى يومنا هذا" للدكتور عمار بوحوش.
4- كتاب "مذكرات جزائري" للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي - الجزء الثاني والثالث.
5- كتاب "حقائق حول الثورة الجزائرية" لمحمد لبجاوي.
6- كتاب "الجزائر وفرنسا 50 سنة من التاريخ" الجزء الأول.
7- كتاب "الجزائر.. فرنسا والولايات المتحدة من الخطب للعمل".
8- كتاب "المسبح جهاز المخابرات الفرنسية من 1944 الى 1988".
9- كتاب "السياسة الخارجية الجزائرية من 1962 إلى 1978". 
10- كتاب "الصدفة والتاريخ" - الجزء الثاني.

التقارير والوثائق:
1- مراسلات دبلوماسية فرنسية 1962 إلى 1979. (مرفوع عنها طابع السرية).
2- مراسلات دبلوماسية أمريكية 1962 إلى 1977. (مرفوع عنها طابع السرية).
3- مراسلات دبلوماسية سوفييتية 1962 إلى 1977. (مرفوع عنها طابع السرية).

السبت، 29 مارس 2025

بقلم .. الاستاذ المشرفي محمد امين

سوء تقدير قوة الخصم كما يتقول البعض ضد قوات المقاومة في غزة وفلسطين عموما، ينتهي بالمرء إلى نموذج عباس العبوس مع أهله والمبتسم مع أعدائه، أو لنقل الوزير الص ه يوني ولست أبالغ هنا، فحماس تعلم والجميع يعلم والعالم يعلم أن الكيان هو كتيبة عسكرية أمريكية، والدخول في مواجهة معه ستعني طرديا الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغ الأمر بها إلى جلب حاملات طائرات مرعبة إلى المنطقة، وفي كل الأحوال الكيان لديه خارطة توسعية ومشروع يشمل المنطقة برمتها وليس فلسطين فقط، وسواءً إرتكنت المقاومة إلى التريث أو إعلان الجهاد على المستعمر، فإن الكيان سيقصف ويتوسع ويدمر ويذبح ويسيل دماءً كثيرة، وبالتالي الموت بكرامة وشهادة أفضل من الموت بنذالة وعباسة (محمود عباس) وإستسلام شامل، ومن لم يقرأ التاريخ جيدا ويعود إليه سيقع في مغالطات كبيرة وكثيرة، فالحروب في كثير من الأحيان تعتمد على الهزيمة النفسية لا العسكرية، وإلا ما خرجت فرنسا من الجزائر وما خرجت أمريكا من فييتنام والعراق وافغانستان وما خرجت اليابان من الصين وما خرج الإتحاد السوفياتي من أفغانستان وما خرجت بريطانيا من الهند والكثير الكثير على مر التاريخ البعيد والقريب والواقع الحديث..

وبما أنني جزائري ومسلم أبا عن جد، وأفتخر بأجدادي المسلمين الذين استشهدوا ورفعوا راية المقاومة والقتال ضد المستعمرين والأعداء (جدي عبد القادر المشرفي الذي كان ضمن القادة الذين حرروا مدينة وهران رفقة طلبة العلم من الإستعمار الإسباني ذات يوم، عليه رحمه الله)، وبما أنني من أشد المحبين والمفتخرين برموز الثورة التحررية وخاصة العربي بن مهيدي رحمه الله، أقول:

تخيل مجموعة من الجزائريين جالسين الآن على مائدة الطعام بأحد الأرياف الشهيرة بمنطقة الأوراس بمناسبة فرح عائلي يجمع كل أفراد العائلة الكبيرة التي يطلق عليها في الدوار مسمى "عائلة الحاج عمر" من إخوة وأخوات وأجداد وأعمام وعمات ووو بــــتاريخ 31 أكتوبر من سنة 1954 ميلادية، ولم تبقى سوى سويعات فقط على الساعة 12 ليلا وتبدأ ثواني ودقائق وساعات 1 نوفمبر المجيد من تاريخ 1954م، والجميع منهمك في أجواء الفرحة العائلية يتبادلون أطراف الحديث عن واقعهم اليومي وأحوالهم المعيشية تحت ظل الإستعمار الفرنسي الغاشم المجرم الذي منذ سنوات فقط قد قتل رهط من أفراد العائلة الذين شاركوا في أحداث ماي 1945 الدموية، أحدهم لم يتمالك نفسه وبدأ بالبكاء عندما تذكر أن إبنه الشاب الذي خرج تلك الأيام لم ولن يعود أبدا، فقد تبخرت أجواء الفرحة عندما أدرك هذا الأخير أن الواقعة مرت عليها 9 سنوات ولم ينتقم لإبنه ولم تدفع فرنسا الثمن، بل ولا تزال تمارس القمع وأفراد الشرطة الفرنسية لا يفارقون بيته بحثا عن ثائر جديد أو مشروع إحتجاجات واااسعة لوأدها في بدايتها...
ثم يقاطعه أحد أفراد العائلة المسمى "قادة" وهو يربت على كتفيه قائلا:
"يجي النهار وتخرج فرنسا يا الحاج عمر، وربي معانا.."
يصرخ الرجل في وجهه غاضبا وهو يردد: 
"مريض أنت؟ فرنسا تخرج؟ شكون يخرجها؟ فرنسا راهي مسيطرة على كل شيء، على التعليم والإدارة والبلدية والجيش والشرطة والعاصمة والأرياف وشرات الجزاير كامل، وعلامها يرفرف فوق الجغرافيا تاع بلادنا كامل، وعندها جيش قوي ومعاها القور (Les Européens) وسكت علينا يرحم والديك، تخاف الجنود تاع فرنسا يكون مارين الآن ويسمعوك، يدخلوا يقتلونا، باش تحارب فرنسا أنت؟ شا عندك؟ فرنسا راهي دولة عندها الطائرات وعندها الصناعة وعندها وعندها؟ راك تحوس أنت تخرجها، خلاص، فرنسا رانا عايشين حنا عندها كالخدامة والعبيد، ومستحيل تخرج.."
يصمت المسمى "قادة" طويلا وباقي الحضور من أفراد العائلة ينتظرون ردة فعله، ثم يقول:
"عندك الحق الحاج عمر، فرنسا شكون يقدر عليها، أنا برك حبيت نواسيك ونصبرك، ولكن أنا نأمن بلي الباطل زاهق ولو طال والحق منتصر ولو بعد حين، هاذي قناعتي مع الله سبحانو..."
يصمت الجميع، ثم ينصرف الحضور بصغيرهم وكبيرهم إلى النوم.
.........
سويعات بعدها، لا أحد يدري ماذا يخطط مجموعة من الشباب (29-37 سنة فقط) الذين يحملون عقيدة رجولية وتحررية وإيمانية أوصلتهم لقناعة راسخة أن علاج الإستعمار هو الكفاح المسلح والضجيج مهما كلف ذلك الجزائريين من دماء وأرواح، ومهما بدت أدوات التحرر بدائية وتقليدية جدا أمام جيش فرنسي جرار مدجج بأعتى الأسلحة العسكرية آنذاك، دقت ساعة الصفر، لابد أن تحيا الجزائر، تصرخ جبال الأوراس برصاصة الحق بعد سنوات من التخطيط ونسج العلاقات وإستغلال الظروف الجيوسياسية الدولية وأحداث مركبة ومتداخلة وكأنها عناية إلهية بــ01 نوفمبر المجيد، عمر يسمع صوت النار والرصاص فينهض مسرعا من فراشه والهلع يقطع قلبه وهو يردد: 
''واش كاين ها جماعة، واش راهو صاري؟ نوضوا الولاد والنساء وهربوا بيهم لكاش مكان آمن، هاذي غي فرنسا طاحت الليلة على الدوار تاعنا وحابة تقتلنا كامل"
يلقي أحدهم نظرة من النافذة ويقول: ''ماني نشوف في والو، بصح يا جماعة راهو حس كبير ومراهوش بعيد، اقعدوا في الدار واحد ما يخرجش"
دقائق وساعات بعدها، يرتفع صوت الإنفجارات والرصاص بشكل عنيف، ثم يصرخ أحدهم بالخارج:
"الله أكبر، تحيا الجزاير" ثم تتبعها طلقات رصاص تبدوا أنها قريبة جدا من البيت، إنه أحد الجنود الأشاوس قام بعملية وقد أصيبت بنيران العدو، وهو يبحث الآن عن مكان يلجأ إليه ويسترجع فيه أنفاسه، فيظهر له منزل عائلة الحاج عمر، يدق على الباب بقوة، فيطلب عمر من أفراد العائلة عدم فتح الباب خوفا من أن يكون جندي فرنسي، فيتدخل أحدهم ويلح على فتح الباب وهو يقول: "مراكمش تسمعو فيه واش راه يقول؟ راه يقول افتحوا يا خاوتي، أنا رايح نحل وكي جات جات"، يفتح الرجل الباب، فيدخل المجاهد الجزائري مسرعا بزي عسكري غريب على أفراد العائلة حاملا السلاح والعلم الجزائري بيمينه والجميع مندهش من هول المشهد وماذا يحدث يا ترى، وهو يردد: "راني مضروب في كتفي، اعطوني حاجة نزير بيها على الجرح، وغلقوا الباب.."، الحاج عمر يتدخل: "واش كاين ها وليدي، واش بيك وشكون ضربك وشكون أنت ومين راك جايب هذا السلاح؟"، يرد عليه الجندي: "أنا من أفراد جيش التحرير تاع جبهة التحرير الوطني، ورانا اليوم شعلنا في فرنسا النار وفي شحال من مكان في الجزائر، ومستحيل نتوقفوا حتى نخرجوا فرنسا ونحروا الجزائر، وجدوا رواحكم، أنتوما هوما الوقود تاع الثورة"، الجميع يصمت، ثم ينظر الحاج عمر إلى قادة الذي صرخ في وجهه منذ سويعات فقط، وهو يقول: "راك تخزر فيا قادة؟ خف روحك أنت والجماعة وقوموا بوليدي هذا، ثم تنهمر الدموع وهو يردد: تحيا الجزائر، تحيا الجزائر، الدموع التي تعبر عن القهر والفرحة والإيمان وشعور الحاج عمر أن ذلك الشاب المصاب هو حقا أمله وأمل العائلة والشهداء والجزائر برمتها..
08 سنوات بعدها فقط، تختلط معها الظروف الإقليمية والدولية والوقائع وأمور كثيرة معقدة لم يكن في الحسبان أصلا تلاقيها وحدوثها لدعم القضية، وتستقل الجزائر في سنة 1962 وترفع راية الشهداء وتعود الجغرافيا الجزائرية إلى أهلها
من كان يعتقد يا ترى في تلك الليلة على مائدة الطعام وفي منزل الحاج عمر وغيره من المنازل الجزائرية آنذاك أنه بعد سويعات فقط تلد الجزائر من جديد وتنفجر واحدة من أعنف وأكبر الثورات في التاريخ الحديث، وما هي إلا 8 سنوات فقط حتى رفرف علم الجزائر والشهداء على يد أولئك الشباب الجزائريين الذين كانوا وقود ثائر متشبع بحب الجزائر وكره الظلم والذل وروح الإنتقام والموت في سبيل الكرامة مهما كلف الثمن ويفجرون ثورة تحرير كبرى؟
حتما كان هناك العديد من أمثال الحاج عمر الذين كانوا يرون انه من المستحيل تماما ان يصبح للجزائريين دولتهم الخاصة، ثم يرد عليهم أمثال قادة بقولهم وهم كلهم يقين أن الجزائر ستستقل وفرنسا ستطرد من هذه الارض، ضحك عليهم الآخرين من باب العقلانية البحتة ولغة الواقع المادية، ولكن سنوات بعدها تستقل الجزائر وتتحقق اليقينية الإيمانية للرجال الذين ضحكوا عليهم، وهم يعيشون بفلسفة الحق صاحب اليد العليا والكلمة الاخيرة مهما طال الزمن والباطل زاهق مهما اشتدت شوكته وطال امده من باب اليقين الإيماني بالله وسننه الغالبة......
هذا المثال البسيط هو الفرق بين العقلانية والإيمان، أي العقلانية وتضادها، بل قمة العقلانية هي اللاعقلانية وهذا هو صريح الإيمان، ان يفقد الناس الأمل في شيء ما ولكن شيء بداخلهم زودهم الله به وهو الايمان يقول لهم العكس، ولهذا لا ايمان حقيقي ولا لذة له الا بتضاده مع العقلانية المادية البحتة "الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وهذا يتجلى بشكل كبير اليوم لدى أهلنا في غزة
فاللهم اجعل طوفان أكتوبر كطوفان نوفمبر..
والسلام عليكم ورحمة الله، وصح سحوركم يا إخوة.

الأربعاء، 19 مارس 2025

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة .. براءة عبد الله

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة

الجزء السابع
ميلاد حكومة بعد مخاض عسير

"حشيتلي ركايبي يا سي احمد"
الرئيس بومدين للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي - أبريل 1977.

بعد أن ضبط الرئيس بومدين أموره مع وزير خارجيته، قال لعبد المجيد علاهم وللدكتور أمير، اللذين كانا حاضرين في اللقاء الذي جمع الرئيس بوزير الخارجية: "نحن الآن في ورطة، بوتفليقة رفض التنازل عن الخارجية، ورفض تعيين كاتب دولة للشؤون العربية والإفريقية، واتفقت معه على تعيين رضا مالك وزيرا للإعلام والثقافة، فكيف سأعمل مع الدكتور أحمد طالب الذي مازلت في أمسّ الحاجة إليه، لا يمكنني تعيينه وزيرا للخارجية، ولا كاتب دولة لدى رئيس الجمهورية مكلف بالشؤون العربية والإفريقية، كما لا يمكن إبقاءه في منصبه، بعد أن اخترت رضا مالك لهذا المنصب، فما هو الحل؟". 
اقترح الدكتور أمير على الرئيس بومدين، أن يختار له وزارة تليق به، من ضمن الوزارات التي لا تزال شاغرة، فاستثنى الرئيس بومدين وزارة البناء والسكن، لأنها وزارة جديدة وتحتاج لمختص في هذا المجال، وقد اختار لها المدير العام للمديرية الوطنية للبناء (DNC/ANP) عبد المجيد أوشيش (1)، كما استثنى وزارة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية التي قرر إسنادها لمحمد زرقيني (2)، واستثنى أيضا وزارة المالية لأنها لا تليق بالدكتور أحمد طالب الميّال للعمل الثقافي والإعلامي والتربوي والعلاقات الخارجية، فبقيت أمامه وزارتان فقط هما العدل والسياحة، بينما ذكره عبد المجيد علاهم أن محمد الصديق بن يحيى لا يزال في قائمة الانتظار، ولم يفصل الرئيس في الوزارة التي سيسندها إليه.
فكر الرئيس بومدين قليلا ثم قال: سأقترح على أحمد طالب وزارة العدل، فإن لم قبلها أسندت وزارة السياحة، فأردف علاهم قائلا: وماذا لو رفض العدل والسياحة؟ فقال بومدين: إذا رفض الوزارتين فنحن فعلا أمام مشكلة حقيقية (قالها بالفرنسية: Alors là nous sommes vraiment devant un vrai problème).
في الأسبوع الأول من شهر أبريل 1977، استقبل الرئيس بومدين العقيد محمد زرقيني الذي كان يشغل منصب مفتش عام للجيش الوطني الشعبي، وأبلغه أنه قرر تعيينه وزيرا للبريد والمواصلات، وشكره على تفانيه في عمله خلال المدة التي قضاها ضمن صفوف الجيش الوطني الشعبي من 1962 إلى 1977، فما كان من زرقيني إلا أن قبل عرض الرئيس بومدين، الذي أنهى النقاش سريعا، ولم يعطي لمحاوره أي فرصة لمناقشة مسألة تعيينه في المنصب الجديد، وإخراجه من الخدمة العسكرية (3).
بعد محمد زرقيني، استقبل الرئيس بومدين عبد المجيد أوشيش المدير العام للمديرية الوطنية للبناء (DNC/ANP)، وهي مصلحة ضخمة تابعة للجيش الوطني الشعبي، استطاع أوشيش بفضل قوة شخصيته وتفانيه في العمل، أن يجعل منها شركة عملاقة تضم 50 ألف عامل، وتنشط في ميدان البناء والتعمير والأشغال العمومية، ومن بين أكبر إنجازات هذه الشركة، شق طريق الوحدة الإفريقية الممتد من الجزائر العاصمة إلى تمنراست ثم مالي والنيجر (4)، وقد اختاره الرئيس بومدين لتولي حقيبة البناء والسكن، لسببين:
أولهما: تزايد الطلب على السكن الاجتماعي، نتيجة جملة من الأسباب لعل أهمها الارتفاع الكبير لعدد سكان الجزائر، فخلال 15 سنة من الاستقلال ارتفع عدد السكان من 9 ملايين عام 1962 إلى 16 مليون عام 1977، مما تسبب في ارتفاع حجم الطلب على السكن، ومنها ظهور أزمة سكن لم تحسب الحكومة لها أي حساب (5).
ثانيهما: أن أوشيش كان لديه من الخبرة وقوة العزيمة ما يجعله أفضل اختيار للإشراف على مخطط عمل الحكومة الخاص بتدارك النقص الفادح في مجال السكن من جهة، مع استكمال بناء المرافق الاقتصادية والاجتماعية التي كانت الحكومة تعطيها أولوية خاصة في برامج التنمية، منها بناء المدارس والجامعات والمستشفيات والسدود، وتعبيد وشق الطرقات، التي كان يشرف عليها فعليا من خلال منصبه كمدير عام للشركة المذكورة (6). 
في 07 أبريل 1977، لم يبق أمام الرئيس إلا تعيين كاتبيْ دولة لدى وزير الفلاحة والثورة الزراعية (7)، ثم أن يجد حلا يرضي الدكتور أحمد طالب، لتكون الحكومة قد تشكلت فعليا، ويمكن إعلان ذلك على الملأ.
استقبل الرئيس بومدين وزيره للفلاحة والثورة الزراعية للمرة الثانية على التوالي، وكرر طلبه له بأن يقدم له مرشحين من محيطه المقرب، لتولي كتابة الدولة للإنتاج الحيواني، وكتابة الدولة للإنتاج النباتي، إلا أن الطيبي العربي أصر على موقفه الرافض لتعيين كتاب دولة حتى ولو كانوا من مقربيه، فقد تعرضت الوزارة - حسبه - لعملية ذبح وتقطيع لا نظير له، فملف السد الخضر سحب منه، واستصلاح الأراضي والبيئة سُحبا أيضا من وزارته، والمراد الآن تحطيم ما بقي من وزارة الفلاحة بتعيين كاتبيْ دولة، حيث لا يبقى له كوزير إلا أن يتجول بين القرى الاشتراكية للاطلاع على أحوال الفلاحين، الذين هم أصلا تابعون للاتحاد العام للفلاحين الجزائريين، وكرر على بومدين أنه إن كان يريد التخلص منه، فما عليه إلا أن يقيله من منصبه، وهو مستعد للذهاب إلى بيته، فقد تعب من تعدد المشاكل وكثرة القيل والقال، وغادر الطيبي العربي مكتب الرئيس دون أن يتفقا على حل يرضي الطرفين (8).
بعد أن انفض اللقاء الساخن بين بومدين والطيبي العربي، طلب الرئيس استدعاء الدكتور أحمد طالب لجسّ نبضه واقتراح وزارة العدل عليه، فاتصل عبد المجيد علاهم بوزير الاعلام والثقافة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، ليبلغه أن الرئيس بومدين في انتظاره يوم السبت 9 أبريل 1977 على الساعة الواحدة ظهرا (9).
في اليوم والساعة المحددين، استقبل الرئيس بومدين، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في مكتبه برئاسة مجلس الوزراء (رئاسة الجمهورية حاليا)، وأبلغه أنه ينوي القيام بتعديل وزاري وشيك، واقترح عليه حقيبة العدل. 
أخفى الدكتور أحمد طالب خيبة أمله لأن الجزائر كلها كانت تتحدث عن التعديل الحكومي الذي يقوم به الرئيس بومدين سرا، وسط تسريبات كثيرة جدا، متعمدة أحيانا وغير متعمدة أحيانا أخرى، واعتبر تصرف الرئيس معه نوعا من الإستغباء، حين حاول الرئيس أن يوهمه أنه قد بدأ المشاورات قبل 24 ساعة (10). 
رد الدكتور الابراهيمي عرض الرئيس بأدب، واعتذر عن قبول منصب وزير العدل بحجة أنه لا يستطيع أن ينام قرير العين إذا ما سجن مواطن بغير حق، أو إذا حكم بالإعدام ظلما على شخص ما؟ واختصر المسافة حين قال للرئيس بومدين: أظن أن الوقت قد حان بعد 12 سنة من العمل الوزاري أن انسحب من العمل الرسمي، وأتفرغ للكتابة والمحاضرات التي ألقيها في المدرسة الوطنية للإدارة (11). بعدها، غادر الدكتور أحمد طالب مكتب الرئيس، الذي طلب منه أن يفكر مليا في العرض الخاص بوزارة العدل.
الحقيقة التي لا غبار عليها، أن الدكتور أحمد طالب كان ينتظر تعيينه وزيرا للخارجية، أو كاتب دولة لدى رئيس الجمهورية مكلف بالشؤون العربية والإفريقية، وفقا للتسريبات التي ملأت الشارع الجزائري حينها، لذلك رفض وزارة العدل، ووضع الرئيس بومدين أمام الأمر الواقع (12).
في 16 أبريل 1977، أجرى الرئيس بومدين التعديل الحكومي الذي كان مقررا أن يعلن عنه بتاريخ 10 مارس 1977، فالحكومة الرابعة للرئيس كانت مستعصية جدا، وولدت بعد مخاض عسير، والغريب الذي لم أجد له جوابا شافيا، هو أن حفل استلام المهام بين الوزراء تم في 17 أبريل 1977، دون أن يتم الإعلان عن ذلك في وسائل الاعلام (13).
في 17 أبريل 1977، بمقر وزارة الاعلام والثقافة، استلم رضا مالك مهامه من الدكتور أحمد طالب، الذي طلبه الرئيس بومدين مباشرة بعد حفل استلام المهام بين الوزيرين، وألح عليه أن يقبل وزارة العدل التي أصر الدكتور أحمد طالب على رفضها، وغادر مكتب الرئيس متجها لمنزله، وأغلق بابه على نفسه ولم يغادر بيته لعدة أيام (14).
من كوارث ذلك التعديل الوزاري، أن مصطفى لشرف لم يستلم مهامه، لأنه فضل الذهاب للمكسيك قصد القيام بإجراءات إنهاء مهامه كسفير هناك، إلا أن غيابه طال أكثر من اللازم، التصرف الذي أغضب بومدين، ليتصل الأمين العام الجديد لرئاسة الجمهورية عبد المجيد علاهم بلشرف قصد حثه على العودة فورا لاستلام مهامه كوزير، لكن لشرف بقي في الميكسيك، ولم يعد للجزائر إلا في 02 مايو 1977، ليشارك في أول اجتماع للحكومة الجديدة، ثم يعود للمكسيك في اليوم الموالي، ولا يرجع للجزائر إلا في بداية شهر جوان 1977؛ بوتفليقة بدوره غادر الجزائر بعد لقائه بالرئيس بومدين، ولم يرجع إلا عندما اتصل به علاهم، ليعلمه بتاريخ أول اجتماع للحكومة الجديدة (03 مايو 1977)، أما بلعيد عبد السلام فقد أُعْلن أنه تولى وزارة الفلاحة والثورة الزراعية، مما أغضب الطيبي العربي، الذي اتجه لوزارته، وقال: باق في منصبي و ليكن ما يكون (15).
بين 17 و24 أبريل 1977، عاش الرئيس بومدين أياما صعبة جدا، حاول خلالها جمع شتات حكومة مهترئة منذ يومها الأول، فوزارتا العدل والسياحة لم يفصل فيهما بعد، والطيبي العربي بقي معارضا لقرار تعيين كاتبيْ دولة تابعين له، ولشرف بقي في المكسيك ولم يستلم مهامه، وانتشرت الشائعات وكثر القيل والقال، مما دفع بالرئيس بومدين للاتصال بصفة شبه يومية بالدكتور أحمد طالب، لحثه على قبول وزارة العدل (16).
وسط ذلك الجو المكهرب والزاخم بالشائعات، كلف الرئيس بومدين مدير الاعلام برئاسة الجمهورية الدكتور محيي الدين عميمور أن يلتحق بوزارة الاعلام والثقافة، يشرف بنفسه على تحرير البيان الأول الخاص بالإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة، فحرر الدكتور عميمور رفقة وزير الإعلام والثقافة رضا مالك بيانا باسم رئاسة الجمهورية أذيع بتاريخ 23 أبريل 1977، أعلن فيه عن تعديل وزاري جزئي ضم 17 وزيرا وهم:
1 - عبد العزيز بوتفليقة وزيرا للخارجية (لم يرد اسمه في البيان).
2 - محمد بن أحمد عبد الغني وزيرا للداخلية (لم يرد اسمه في البيان).
3 - أحمد بن شريف وزيرا للري واستصلاح الأراضي وحماية البيئة.
4 - أحمد دراية وزيرا للنقل.
5 - بوعلام بن حمودة وزيرا للأشغال العمومية.
6 - بلعيد عبد السلام وزيرا للصناعات الخفيفة.
7 - محمد السعيد معزوزي وزيرا للمجاهدين.
8 - مصطفى لشرف وزيرا للتربية.
9 - عبد اللطيف رحال وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي.
10 - محمد زرقيني وزيرا للبريد والمواصلات.
11 - محمد أمير بن عيسى وزيرا للعمل والتكوين المهني.
12 - جمال حوحو وزيرا للشبيبة والرياضة.
13 - محمد الياسين وزيرا للصناعات الثقيلة.
14 - سيد احمد غزالي وزيرا للطاقة والصناعات البتروكيماوية.
15- السعيد آيت مسعودان وزيرا للصحة العمومية.
16- رضا مالك وزيرا للإعلام والثقافة.
17 – محمد الصديق بن يحي.
أثار الإعلان الجزئي عن الحكومة الجديدة جدلا واسعا، داخل دواليب السلطة، وحتى على المستوى الشعبي، لتنتشر الشائعات انتشار النار في الهشيم، مما أدخل الرئيس بومدين في حالة من الغضب الشديد، لأنه بدأ يشعر أنه فقد سلطته على أركان حكمه، كما تفطن لأول مرة منذ توليه الحكم عام 1965 لظهور لوبيات قوية جدا تستطيع التأثير في سياسته وحتى في قراراته (17) (18) (19).
من 19 إلى 23 أبريل 1977، زار الدكتور أحمد طالب في بيته كل من، بوعلام بن حمودة، ثم عبد المجيد أوشيش، ثم محمد بن احمد عبد الغني، الذي أوفده الرئيس بومدين إليه، بعد أن اوصاه بأن لا يخبر الدكتور أحمد طالب أنه مكلف من الرئيس للاتصال به، ليطلبوا منه جميعا ويلحوا عليه بقبول منصب وزير العدل، إلا أن الدكتور أحمد طالب أصر على موقفه ورفض الحقيبة المقترحة، لنفس الاسباب التي قدمها للرئيس نفسه.
في 24 أبريل، اتصل عبد المجيد علاهم، بالدكتور أحمد طالب، ليبلغه أن الرئيس في انتظاره على الساعة السادسة مساء، فما كان من الدكتور طالب إلا أن توجه لرئاسة الجمهورية، تماما كما طلب منه علاهم (19).
بمجرد دخوله لرئاسة الجمهورية، سيق الدكتور أحمد طالب على عجل، إلى مكتب الرئيس بومدين، الذي بادره قائلا: سي احمد حشيتلي ركايبي (قطعت ركبي) برفضك للوزارة، ولعلك دون شك ودون أن تدري، قد جعلت الدولة محل سخرية، ذلك أنه لم يحدث أبدا أن طال تعديل وزاري أكثر من أسبوع واحد (20). 
سكت الرئيس بومدين قليلا ثم قال: ينبغي أن تتوقف هذه المهزلة حالا واليوم، ولن تخرج من هنا قبل أن نعين وزيرا للعدل، وما دمت أنت والطيبي العربي سببا هذا التعطيل، فالمطلوب منك أن تقترح لي من يستطيع تولي هذا المنصب (21).
في البداية، اقترح الدكتور أحمد طالب أيت شعلال لكن الرئيس بومدين رفضه بشدة، ثم اقترح العقيد الهاشمي هجرس، لكن بومدين قال: إنه لا يزال في حاجة إليه ضمن صفوف الجيش الوطني الشعبي، ثم اقترح عبد المالك بن حبيلس، فقال بومدين: هل تضمن لي نزاهته؟ فكان رد الدكتور أحمد طالب: قطعا على حد علمي (22). 
لتجاوز الأزمة والمهزلة، اتصل الرئيس بومدين هاتفيا بعلاهم، وطلب منه استدعاء بن حبيلس فورا، ولما وصل بن حبيلس، طلب الرئيس بومدين من الدكتور أحمد طالب، انتظاره في مكتب علاهم، إلى غاية إنهاء حديثه مع ضيفه. وصل عبد الملك بن حبيلس، الذي استقبله الرئيس بومدين، مختصرا الكلام في بضع جمل: سي عبد المالك ستكون وزيرا للعدل في الحكومة الجديدة، ما هو رأيك؟ رد بن حبيلس أنه مستعد للخدمة في أي منصب يسند له، فصافحه الرئيس بومدين وسرحه على السريع (23). 
لم يكد الدكتور أحمد طالب يتبادل عبارات التحية والترحيب مع علاهم، حتى فُتح الباب الفاصل بين مكتب الرئيس ومكتب الأمين العام لرئاسة الجمهورية، ليظهر الرئيس بومدين ويطلب من الدكتور أحمد طالب أن يلتحق به في مكتبه للمرة الثانية على التوالي، وأخبره أنه عين بن حبيلس وزيرا للعدل، وعرض عليه هذه المرة وزارة السياحة، إلا أن الدكتور أحمد طالب اعتذر بحجة أنه تعب ويريد التفرغ للكتابة والتدريس (24) (25) (26).
هنا أنهى الرئيس بومدين المشكلة قائلا: رفضت العدل، ثم رفضت السياحة، الآن أريدك إلى جانبي سأنشئ خصيصا لك منصب وزير مستشار لرئيس الجمهورية، ولا أريد أي كلمة زائدة لأنك ستكون بالقرب مني، وستعمل بصفة مباشرة معي، خصوصا أنني أعتمد عليك في تسيير ملف الصحراء الغربية الذي سحبته من الخارجية، وصار من اختصاصك على مستوى الرئاسة، فلم يجد الدكتور أحمد طالب بدا من قبول المنصب (26).
بعد خروج الدكتور أحمد طالب الابراهيمي، دخل عبد المجيد علاهم، الذي يعود له الفضل في حل المشكلة التي كان فيها الرئيس بومدين، ففي الليلة التي سبقت استدعاء الدكتور أحمد طالب للقاء الرئيس، ناقش الرئيس وأمينه العام حالة الدكتور الابراهيمي وإصراره على رفض وزارة العدل، فقال علاهم للرئيس بومدين: إن الدكتور أحمد طالب كان يظن أنه سيتولى وزارة الخارجية، وقد تسربت له بكل تأكيد معلومات في هذا الموضوع، لكن أمله خاب بعد أن عرضت عليه وزارة العدل، ولا أظن أنه سيقبل وزارة العدل ولن يقبل وزارة السياحة، فرأيي أن تعينه في منصب سامي بالقرب منك بدرجة وزير، وهنا لن يرفض العرض، لأنك تضعه بجانبك، وتستطيع تكليفه بأي مهمة تراه ينفع فيها، كما أن تعيينه بالقرب منك سيفتح له المجال لتولي ملف الصحراء الغربية، الذي قررت سحبه من الخارجية و تكليفه به، كما يمكن تكليفه بمهام دبلوماسية شتى، دون أن يتضارب ذلك مع صلاحيات وزير الخارجية (27).
أعجب الرئيس بومدين بالفكرة، لكنه أصر على أن يعرض عليه وزارة العدل ثم السياحة، فإذا لم يرض بإحداهما، فلا مجال سوى أن يطبق اقتراح عبد المجيد علاهم، لكن: أي منصب سامي بدرجة وزير؟ فكان رد علاهم: وزير مستشار لرئيس الجمهورية، فنجحت فكرة علاهم ، ورضي بها الدكتور احمد طالب، ثم عين عبد الغني العقبي وزيرا للسياحة بناء على اقتراح من علاهم، و لم يبقى غير قضية كاتبا الدولة لدى وزير الفلاحة، الذي يصر محمد الطيبي العربي على رفضهما، هنا اقترح علاهم على الرئيس أن يدرج المنصبان في مرسوم تشكيل الحكومة، دون تعيين من يتولاهما، في انتظار استرضاء الطيبي العربي الذي سيوضع أمام الأمر الواقع، ويقترح مرشحان له لتولي المنصبان (28).
في 28 أبريل 1977، صدر البيان النهائي لتشكيل الحكومة الجديدة، التي استلم وزراؤها مهامهم منذ 17 أبريل، ليطوي الرئيس بومدين أحد أصعب المراحل التي مر بها، منذ توليه السلطة في 19 جوان 1965، وأمر علاهم باستدعاء الحكومة الجديدة للاجتماع في 03 مايو 1977، إلا أن الرئيس بومدين لم يكن يعلم أنه طوى ملف أصعب تعديل حكومي في تاريخ الجزائر، ليدخل في أزمة توازنات جديدة ستمتد لغاية نهاية سنة 1977 (28) (29).
يتبع

الهوامش:
1- عبد المجيد أوشيش: ضابط سامي في الجيش الوطني الشعبي برتبة عقيد تولى إدارة المديرية الوطنية للبناء التابعة للجيش الوطني الشعبي من 1962 إلى 1977، ثم وزير للسكن والبناء من 1979 إلى 1980 ثم سفير في الأرجنتين من 1980 إلى 1984.
2- محمد زرقيني: ضابط سامي في الجيش الوطني الشعبي برتبة عقيد، تولى مناصب كثيرة ضمن قيادات الجيش منها مفتش عام للجيش الوطني الشعبي.
3- مصدر خاص.
4- طريق الوحدة الإفريقية: مشروع ضخم يبلغ طوله حوالي 5000 كيلومتر ويمر من الجزائر العاصمة إلى تمنراست جنوبا ثم يتفرع نحو ومالي والنيجر وصولا إلى نيجيريا، وهو جزء من مشروع شبكة طرق تربط ستة بلدان أفريقية (الجزائر، مالي، النيجر، التشاد، موريتانيا، نيجيريا) ويهدف المشروع إلى تحقيق التكامل الإقليمي وتعزيز التجارة بين شمال وجنوب الصحراء.
5- كان عدد سكان الجزائر عند استقلاها عام 1962 حوالي 9 ملايين نسمة، ليلتفع هذا العدد إلى 11 مليون عام 1966، ثم 15 مليون عام 1972 فـ17 مليون عام 1977.
6- منذ استقلال الجزائر لغاية 1976، لم تبني السلطات أي شيء باستثناء المؤسسات التربوية والاقتصادية، وكان الخبراء يقولون للرئيس بومدين إن العقارات الشاغرة التي تركتها فرنسا، تغطي الحاجيات الوطنية من السكن لمدة 20 سنة، لكن ابتداء من 1975، بدأت بوادر أزمة السكن تظهر وتشتد، مما دفع بومدين لتغيير سياسته، وعين أوشيش لتدارك العجز في السكن الاجتماعي.
7- كان الرئيس بومدين ينوي تعيين اثناين من مستشاريه في منصب كاتبيْ دولة لدى وزير الفلاحة للإنتاج الحيواني وللإنتاج النباتي، إلا أن محمد الطيبي العربي عارض ذلك القرار بشراسة، مما جعل الرئيس بومدين، يعلق تعيينهما إلى أن توفاه الله.
8- معلومة مستقاة من ثلاث مصادر موثوقة، وأكدها بلعيد عبد السلام والدكتور محيي الدين عميمور.
9- معلومة مستقاة من أربعة مصادر، وأكدها الدكتور أحمد طالب الابراهيمي.
10- نفس المصدر السابق.
11- معلومة مستقاة من مصدر خاص مؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
12- معلومة مستقاة من مصدر خاص مؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
13- معلومة مستقاة من مصدر خاص.
14- معلومة مستقاة من مصدر خاص مؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
15- معلومة مستقاة من مصدر خاص ومؤكدة من طرف الدكتور علي بن محمد.
16- معلومة مستقاة من مصدر خاص.
17- معلومة مستقاة من مصدر خاص مؤكدة من طرف الدكتور محيي الدين عميمور (في شقها الخاص بإرساله من طرف الرئيس بومدين لمراجعة نص البيان الصادر عن وزارة الاعلام والثقافة).
18- معلومة مستقاة من مصدر خاص مؤكدة من طرف بلعيد عبد السلام (في شقها الخاص بظهور اللوبيات النافذة داخل دواليب السلطة).
19- راجع نص البيان الصادر في جريدة الشعب الصادرة بتاريخ 23 ابريل 1977 (وثيقة ملحقة رقم 01).
20- معلومة مستقاة من مصدر خاص ومؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
21- معلومة مستقاة من مصدر خاص ومؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
22- معلومة مستقاة من مصدر خاص ومؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
23- كان الرئيس بومدين يتحفظ كثيرا من عبد المالك بن حبيلس، لذلك تردد في تعيينه وزيرا للعدل.
24- معلومة مستقاة من مصدر خاص، وهي مخالفة لرواية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي التي قال فيها : أن ثاني منصب عرضه عليه الرئيس بومدين هو منصب وزير المالية، وذلك غير ممكن لأن بن يحي صدر اسمه كوزير للمالية بتاريخ 23 أبريل 1977، ضمن القائمة الأولى للحكومة، بينما استقبل الرئيس بومدين الدكتور أحمد طالب بتاريخ 24 أبريل أي يومان بعد صدور القائمة الأولى للوزراء، فالأصح أن الحقيبة الثانية التي عرضت عليه هي وزارة السياحة التي كانت شاغرة، وتولاها عبد العني العقبي خلال تكملة التشكيلة الحكومية بتاريخ 28 ابريل 1977.
25- وثيقة ملحقة رقم 02 (جريدة الشعب العدد 4186 الصادر بتاريخ 23 أبريل 1977).
26- وثيقة ملحقة رقم 03 (جريدة الشعب العدد 4186 الصادر بتاريخ 23 أبريل 1977).
27- معلومة مستقاة من مصدر خاص ومؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
28- صدر المرسوم المتعلق بتشكيل الحكومة الجديدة في الجريدة الرسمية رقم 37 لعام 1977، وجاء في مادتها الثالثة تنشأ كتابتان دولة الأولى للإنتاج النباتي والثانية للإنتاج الحيواني، و لم يريد من سيشغل المنصبين، ولم يتم تعيين أي أحد في هذين المنصبين بسبب رفض الطيبي العربي لذلك.
29- وثيقة ملحقة رقم 04 (جريدة الشعب العدد 4191 الصادر بتاريخ 28 أبريل 1977).
30- وثيقة ملحقة رقم 04 (جريدة الشعب العدد 4191 الصادر بتاريخ 28 أبريل 1977).

المراجع:
1- كتاب "أنا وهو وهم" للدكتور محيي الدين عميمور.
2- كتاب "الفرص الضائعة" للدكتور محيي الدين عميمور.
3- "التاريخ السياسي للجزائر من 1962 إلى يومنا هذا" للدكتور عمار بوحوش.
4- كتاب "مذكرات جزائري" للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الجزء الثالث.
5- كتاب "حقائق حول الثورة الجزائرية" لمحمد لبجاوي.
6- كتاب "الجزائر وفرنسا 50 سنة من التاريخ" الجزء الأول.
7- كتاب "الجزائر فرنسا والولايات المتحدة من الخطب للعمل".
8- كتاب "المسبح جهاز المخابرات الفرنسية من 1944 الى 1988".
9- كتاب "السياسة الخارجية الجزائرية من 1962 إلى 1978". 

التقارير والوثائق:
1- مراسلات دبلوماسية فرنسية 1962 إلى 1979. (مرفوع عنها طابع السرية).
2- مراسلات دبلوماسية أمريكية 1962 إلى 1977. (مرفوع عنها طابع السرية).
3- مراسلات دبلوماسية سوفيتية 1962 إلى 1977. (مرفوع عنها طابع السرية).

تاريخ عائلة بن قانة ..

عائلة بن ڨانة : **مقاطعة قسنطينة**   **آل بن ڨانا**   **منذ الغزو الفرنسي إلى غاية 1879**  الحمد لله الواحد! هذا النشر مخصص لأو...