وبما أنني جزائري ومسلم أبا عن جد، وأفتخر بأجدادي المسلمين الذين استشهدوا ورفعوا راية المقاومة والقتال ضد المستعمرين والأعداء (جدي عبد القادر المشرفي الذي كان ضمن القادة الذين حرروا مدينة وهران رفقة طلبة العلم من الإستعمار الإسباني ذات يوم، عليه رحمه الله)، وبما أنني من أشد المحبين والمفتخرين برموز الثورة التحررية وخاصة العربي بن مهيدي رحمه الله، أقول:
تخيل مجموعة من الجزائريين جالسين الآن على مائدة الطعام بأحد الأرياف الشهيرة بمنطقة الأوراس بمناسبة فرح عائلي يجمع كل أفراد العائلة الكبيرة التي يطلق عليها في الدوار مسمى "عائلة الحاج عمر" من إخوة وأخوات وأجداد وأعمام وعمات ووو بــــتاريخ 31 أكتوبر من سنة 1954 ميلادية، ولم تبقى سوى سويعات فقط على الساعة 12 ليلا وتبدأ ثواني ودقائق وساعات 1 نوفمبر المجيد من تاريخ 1954م، والجميع منهمك في أجواء الفرحة العائلية يتبادلون أطراف الحديث عن واقعهم اليومي وأحوالهم المعيشية تحت ظل الإستعمار الفرنسي الغاشم المجرم الذي منذ سنوات فقط قد قتل رهط من أفراد العائلة الذين شاركوا في أحداث ماي 1945 الدموية، أحدهم لم يتمالك نفسه وبدأ بالبكاء عندما تذكر أن إبنه الشاب الذي خرج تلك الأيام لم ولن يعود أبدا، فقد تبخرت أجواء الفرحة عندما أدرك هذا الأخير أن الواقعة مرت عليها 9 سنوات ولم ينتقم لإبنه ولم تدفع فرنسا الثمن، بل ولا تزال تمارس القمع وأفراد الشرطة الفرنسية لا يفارقون بيته بحثا عن ثائر جديد أو مشروع إحتجاجات واااسعة لوأدها في بدايتها...
ثم يقاطعه أحد أفراد العائلة المسمى "قادة" وهو يربت على كتفيه قائلا:
"يجي النهار وتخرج فرنسا يا الحاج عمر، وربي معانا.."
يصرخ الرجل في وجهه غاضبا وهو يردد:
"مريض أنت؟ فرنسا تخرج؟ شكون يخرجها؟ فرنسا راهي مسيطرة على كل شيء، على التعليم والإدارة والبلدية والجيش والشرطة والعاصمة والأرياف وشرات الجزاير كامل، وعلامها يرفرف فوق الجغرافيا تاع بلادنا كامل، وعندها جيش قوي ومعاها القور (Les Européens) وسكت علينا يرحم والديك، تخاف الجنود تاع فرنسا يكون مارين الآن ويسمعوك، يدخلوا يقتلونا، باش تحارب فرنسا أنت؟ شا عندك؟ فرنسا راهي دولة عندها الطائرات وعندها الصناعة وعندها وعندها؟ راك تحوس أنت تخرجها، خلاص، فرنسا رانا عايشين حنا عندها كالخدامة والعبيد، ومستحيل تخرج.."
يصمت المسمى "قادة" طويلا وباقي الحضور من أفراد العائلة ينتظرون ردة فعله، ثم يقول:
"عندك الحق الحاج عمر، فرنسا شكون يقدر عليها، أنا برك حبيت نواسيك ونصبرك، ولكن أنا نأمن بلي الباطل زاهق ولو طال والحق منتصر ولو بعد حين، هاذي قناعتي مع الله سبحانو..."
يصمت الجميع، ثم ينصرف الحضور بصغيرهم وكبيرهم إلى النوم.
.........
سويعات بعدها، لا أحد يدري ماذا يخطط مجموعة من الشباب (29-37 سنة فقط) الذين يحملون عقيدة رجولية وتحررية وإيمانية أوصلتهم لقناعة راسخة أن علاج الإستعمار هو الكفاح المسلح والضجيج مهما كلف ذلك الجزائريين من دماء وأرواح، ومهما بدت أدوات التحرر بدائية وتقليدية جدا أمام جيش فرنسي جرار مدجج بأعتى الأسلحة العسكرية آنذاك، دقت ساعة الصفر، لابد أن تحيا الجزائر، تصرخ جبال الأوراس برصاصة الحق بعد سنوات من التخطيط ونسج العلاقات وإستغلال الظروف الجيوسياسية الدولية وأحداث مركبة ومتداخلة وكأنها عناية إلهية بــ01 نوفمبر المجيد، عمر يسمع صوت النار والرصاص فينهض مسرعا من فراشه والهلع يقطع قلبه وهو يردد:
''واش كاين ها جماعة، واش راهو صاري؟ نوضوا الولاد والنساء وهربوا بيهم لكاش مكان آمن، هاذي غي فرنسا طاحت الليلة على الدوار تاعنا وحابة تقتلنا كامل"
يلقي أحدهم نظرة من النافذة ويقول: ''ماني نشوف في والو، بصح يا جماعة راهو حس كبير ومراهوش بعيد، اقعدوا في الدار واحد ما يخرجش"
دقائق وساعات بعدها، يرتفع صوت الإنفجارات والرصاص بشكل عنيف، ثم يصرخ أحدهم بالخارج:
"الله أكبر، تحيا الجزاير" ثم تتبعها طلقات رصاص تبدوا أنها قريبة جدا من البيت، إنه أحد الجنود الأشاوس قام بعملية وقد أصيبت بنيران العدو، وهو يبحث الآن عن مكان يلجأ إليه ويسترجع فيه أنفاسه، فيظهر له منزل عائلة الحاج عمر، يدق على الباب بقوة، فيطلب عمر من أفراد العائلة عدم فتح الباب خوفا من أن يكون جندي فرنسي، فيتدخل أحدهم ويلح على فتح الباب وهو يقول: "مراكمش تسمعو فيه واش راه يقول؟ راه يقول افتحوا يا خاوتي، أنا رايح نحل وكي جات جات"، يفتح الرجل الباب، فيدخل المجاهد الجزائري مسرعا بزي عسكري غريب على أفراد العائلة حاملا السلاح والعلم الجزائري بيمينه والجميع مندهش من هول المشهد وماذا يحدث يا ترى، وهو يردد: "راني مضروب في كتفي، اعطوني حاجة نزير بيها على الجرح، وغلقوا الباب.."، الحاج عمر يتدخل: "واش كاين ها وليدي، واش بيك وشكون ضربك وشكون أنت ومين راك جايب هذا السلاح؟"، يرد عليه الجندي: "أنا من أفراد جيش التحرير تاع جبهة التحرير الوطني، ورانا اليوم شعلنا في فرنسا النار وفي شحال من مكان في الجزائر، ومستحيل نتوقفوا حتى نخرجوا فرنسا ونحروا الجزائر، وجدوا رواحكم، أنتوما هوما الوقود تاع الثورة"، الجميع يصمت، ثم ينظر الحاج عمر إلى قادة الذي صرخ في وجهه منذ سويعات فقط، وهو يقول: "راك تخزر فيا قادة؟ خف روحك أنت والجماعة وقوموا بوليدي هذا، ثم تنهمر الدموع وهو يردد: تحيا الجزائر، تحيا الجزائر، الدموع التي تعبر عن القهر والفرحة والإيمان وشعور الحاج عمر أن ذلك الشاب المصاب هو حقا أمله وأمل العائلة والشهداء والجزائر برمتها..
08 سنوات بعدها فقط، تختلط معها الظروف الإقليمية والدولية والوقائع وأمور كثيرة معقدة لم يكن في الحسبان أصلا تلاقيها وحدوثها لدعم القضية، وتستقل الجزائر في سنة 1962 وترفع راية الشهداء وتعود الجغرافيا الجزائرية إلى أهلها
من كان يعتقد يا ترى في تلك الليلة على مائدة الطعام وفي منزل الحاج عمر وغيره من المنازل الجزائرية آنذاك أنه بعد سويعات فقط تلد الجزائر من جديد وتنفجر واحدة من أعنف وأكبر الثورات في التاريخ الحديث، وما هي إلا 8 سنوات فقط حتى رفرف علم الجزائر والشهداء على يد أولئك الشباب الجزائريين الذين كانوا وقود ثائر متشبع بحب الجزائر وكره الظلم والذل وروح الإنتقام والموت في سبيل الكرامة مهما كلف الثمن ويفجرون ثورة تحرير كبرى؟
حتما كان هناك العديد من أمثال الحاج عمر الذين كانوا يرون انه من المستحيل تماما ان يصبح للجزائريين دولتهم الخاصة، ثم يرد عليهم أمثال قادة بقولهم وهم كلهم يقين أن الجزائر ستستقل وفرنسا ستطرد من هذه الارض، ضحك عليهم الآخرين من باب العقلانية البحتة ولغة الواقع المادية، ولكن سنوات بعدها تستقل الجزائر وتتحقق اليقينية الإيمانية للرجال الذين ضحكوا عليهم، وهم يعيشون بفلسفة الحق صاحب اليد العليا والكلمة الاخيرة مهما طال الزمن والباطل زاهق مهما اشتدت شوكته وطال امده من باب اليقين الإيماني بالله وسننه الغالبة......
هذا المثال البسيط هو الفرق بين العقلانية والإيمان، أي العقلانية وتضادها، بل قمة العقلانية هي اللاعقلانية وهذا هو صريح الإيمان، ان يفقد الناس الأمل في شيء ما ولكن شيء بداخلهم زودهم الله به وهو الايمان يقول لهم العكس، ولهذا لا ايمان حقيقي ولا لذة له الا بتضاده مع العقلانية المادية البحتة "الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وهذا يتجلى بشكل كبير اليوم لدى أهلنا في غزة
فاللهم اجعل طوفان أكتوبر كطوفان نوفمبر..
والسلام عليكم ورحمة الله، وصح سحوركم يا إخوة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق