الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

ماذا هي الدنيا والآخرة؟ وما هو البعث؟ ....... بقلم المفكر الصادق النيهوم


التفسير السائد في قاموس الفقه , أن كلمة ( الدنيا ) تعني ( عالم الأحياء ) , و أن كلمة (الآخرة ) تعني ( عالم ما بعد الموت ) . و هو تفسير يستند في الظاهر إلى نص القرآن , لكن القرآن نفسه لا يسنده بشيء .
فالواقع أن كلمة ( الدنيا ) ليست إسما أصلا , بل صفة تحتاج بالضرورة إلى اسم موصوف . إنها مجرد نعت مضاد لكلمة ( قصوى ) , تستخدم لتحديد المسافة بين مكانين . و قد أوردها القرآن بهذا المعنى في قوله تعالى : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا و هم بالعدوة القصوى } , فليس ثمة شيء قائم بذاته اسمه ( الدنيا ) أو ( الأخرة ) , بل ثمة اسم موصوف , تلحق به هاتان الصفتان , لأنه يستحق عناء الوصف .
هذا الأسم الموصوف , سقط من قاموس الفقه منذ مولد الفقه , و أخلى مكانه سرا للنعت , حتى أصبح النعت اسما , فصارت كلمة ( الدنيا ) تعني ( عالم الأحياء ) , و صارت كلمة ( الآخرة ) تعني ( عالم ما بعد الموت ) , و انقسمت حياة المسلمين تلقائيا بين عالمين , أحدهما هنا على الأرض , و الثاني على أرض أخرى . و هي صورة مألوفة في تاريخ الأديان منذ عصر أوزيريس , لكنها لا تستند إلى نص القرآن .
فالقرآن لا يسقط اسم الموصوف , و لا يستعمل كلمة ( الدنيا ) منفردة في أي مكان . و قد أورد هذه الصفة مائة و أربع عشرة مرة , مقرونة دائما باسم الموصوف في صيغتين .
الصيغة الأولى , تستعمل كلمة ( الدنيا ) كصفة لأسم المكان , كما في قوله : { و لقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } . و هي صيغة فهمها العرب من دون عناء , لأن كلمة الدنيا كانت مألوفة في لغتهم بمعنى ( قريب ) , و كان بوسعهم أن يحدسوا أن السماء الدنيا هي السماء الأقرب إليهم . لكن المشكلة ظهرت فجأة عندما بدأ القرآن يستعمل كلمة ( الدنيا ) كصفة للحياة في صيغة جديدة لم يسمع بها العرب حتى ذلك الوقت .
فكلمة ( الحياة الدنيا ) مصطلح قرآني بحت , لم يعرفه العرب في تراثهم الجاهلي , و لم يرد مرة واحدة في قاموسهم , و لم يكن من شأنه أن يعني لهم شيئا سوى أن الحياة لها مكانان , أحدهما قريب على هذه الأرض , و الآخر بعيد في السماء . و هو تفسير ناقص بمقدار النصف لأنه يتجاهل نصف ما يقوله القرآن :
فالحياة الدنيا في النص القرآني ليست حياة الناس على الأرض , بل هي المرحلة الطفولية منها فقط . و قد وصفها القرآن بأنها ( لعب و لهو ) لأنها مرحلة غير مسؤولة , و غير مؤهلة لضمان حق الحياة في السلام و العدل , إنها ليست حياتنا كلها , بل هي النقص الطبيعي فيها , الذي أراد القرآن أن يستكمله بوسائل المعرفة و الجدل . و إذا كانت ( الحياة الدنيا ) قد أصبحت الآن هي ( الحياة كلها ) في لغة العرب , فذلك أمر مرده أن العرب خسروا حقهم في بقية الحياة منذ زمن بعيد .
منهج القرآن في استخدام كلمة ( الدنيا ) له قاعدتان : فإذا وردت هذه الصفة , من دون كلمة (الآخرة ) , يرد معها اسم الموصوف كما في قوله تعالى { ذلك متاع الحياة الدنيا , و الله عنده حسن المآب } .
أما إذا وردت هذه الصفة مع كلمة ( الآخرة ) , فإن القرىن يتجنب تكرار اسم الموصوف بثلاثة حلول :
الحل الأول : أن يحذف اسم الموصوف المكرر قبل كلمة الآخرة , كما في قوله تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا , و الآخرة خير و أبقى }
الحل الثاني : أن يستبدل اسم الموصوف المكرر بكلمة مرادفة , كما في قوله تعالى { و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب , و إن الدار الاخرة لهي الحيوان }
الحل الثالث : أن يضِّمِن اسم الموصوف لغرض الأيجاز كما في قوله تعالى { فاطر السموات و الأرض , أنت وليي في الدنيا و الآخرة } , و هو تضمين لأسم الموصوف , و ليس حذفا له , لأن القرآن لا يجمع هاتين الصفتين أبدا إلا مع كلمة ( الحياة ) .
في جميع هذه الآيات لا يقول القرآن إن الدنيا هي عالم الأحياء على الأرض , بل يقول إنها جزء عابر منه لأنها مرحلة طفولية عابرة . و قد جاء في سورة الأنعام { و ما الحياة الدنيا إلا لعب و لهو } , و في سورة الحديد : { و اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم }. و هو تقرير لا يريد أن يقول إن الحياة كلها عبث , بل يقول بوضوح إن الحياة الدنيا مرحلة طفولية , و غير مسؤولة , لأنها مشغولة بالحاضر عن المستقبل , مثل حياة الأطفال
فالصفة الأولى لعقل الطفل أنه مقيد إلى الزمن الحاضر , و مشغول دائما بما يريده الآن عما يحتاج إليه فعلا . إنه لا يحمل مسؤولية الأنسان عن المستقبل , و لا يضمن حق الحياة في السلام و العدل , و لا يختلف في هذا الشأن عن أي حيوان أعجم آخر . لكن ذلك لا يجعل الطفل حيوانا إلى الأبد إلا إذا نسي أن يكبر .
إن القرآن لا يدين حياة الأطفال , بل يدين الحياة المشغولة بالحاضر عن المستقبل , لأن هذه الصفة الطفولية علامة مؤكدة على سقوط الأنسان المسؤول , و العودة بالحياة إلى عالم الغابة ملايين السنين إلى الوراء . فالقرآن لا يخاطب جميع الأحياء , بل يخاطب الحي الوحيد الذي يعرف أن الحاضر مسؤول شرعا عن المستقبل , و يعرف أن إسقاط هذه المسؤولية ليس إنكارا لشريعة , بل إنكارا لحق الحياة في الخروج من شريعة الغابة . و هي جريمة عقابها العادل - و التلقائي - أن يخلد الأنسان في غابة إلى الأبد .
فالحياة الدنيا في النص القرآني ليست هي حياة الحيوانات و الأشجار , بل هي حياة الأنسان المسؤول الذي يعرف يقينا أن الله قد بعثه من جسد طفل و عقل طفل , و علمه ما لم يكن يعلم , و كشف له علاقة الحاضر بالمستقبل , و أعطاه مفتاحا خاصا لباب الجنة .
لا أحد غير الأنسان , يعيش تجربة البعث من عالم الطفولة .
لا أحد غيره يغادر سجنه الغريزي الذي تحرسه غرائز عمياء , و يفتح لنفسه بابا على عالم لا يحرسه سوى صوت العقل و المنطق . إنه الحيوان الخارق الوحيد الذي يخرج من ( حياته الدنيا ) , و يدخل فعلا في ( حياة أخرى ) , يواجه فيها مسؤوليته عما كسبت يداه , و يدفع فيها ثمن خسائره شخصيا .
هذا البعث من الحياة الغريزية يسميه القرآن بعثا من الموت . و هي تسمية تعني ما تقوله حرفيا , فخروج الأنسان من عالمه الطفولي الغائب في ظلام اللاوعي , إلى عالم العقل الحاضر في ضوء الصحوة و اليقين , خروج خارق لجميع قوانين الطبيعة , مثل البعث من الموت . لكن العرب الوثنيين أساءوا فهم هذه الحقيقة الماثلة أمام أعينهم , و نقلوا الجدال إلى عالم الأموات الذي يعرفونه في لغتهم الوثنية , فأنكروا خروج الموتى إلى الحياة , و سخروا من فكرة البعث نفسها , و تحدوا الرسول لكي يحيي أمامهم رجلا ميتا . و لو كان الرسول يريد من العرب أن يؤمنوا بالبعث بعد الموت فقط لقبل هذا التحدي أو سكت .
لكن الرسول كان يدعوا العرب إلى الأيمان بالبعث في هذه الحياة , و كان يعرف أن هدفه لا يتحقق بإحياء رجل ميت , بل بإعادة الوعي إلى جيل غائب عن عالم الوعي . و قد اختار أن يجادل , و يحاور , و يضرب أمثلة من التاريخ , لشرح العلاقة المباشرة بين حاضر الناس , و بين مستقبلهم . و هو رد أوجزه القرآن في نقطة صاعقة مؤداها أن البعث من الموت أمر واقع , لكنه أمر لا يحتاج إلى دليل من عالم الموتى لأن الدليل موجود هنا على هذه الأرض :
.. فكل جيل من الأحياء هو في الحقيقة سجل مفتوح لأعمال جيل من الموتى . إنه يتكلم لغتهم , و ينطق بلسانهم , و يحصد ما زرعوه , و يخسر ما خسروه , و يكون شاهدا حيا على بعثهم الآن , في هذه الحياة .
كل جيل من الأحياء هو اعمال جيل من الموتى المبعوثين للحساب في ضوء النهار . و كل ما كسبته أيدي الموتى بالأمس , يجده الأحياء أمامهم كاملا و غير منقوص , من الحدائق المعلقة إلى الصراع الطائفي , و التلوث , و الأنفجار السكاني , و القنابل النووية.
إن عجز العقل الوثني عن إدراك هذا البعث الماثل في واقع الأحياء , هو الذي دعا العرب إلى طلب الدليل على البعث من عالم الأموات , و في ما عدا مبرر العجز , فإن العقل لا يستطيع أن ينكر أن الحي يخرج فعلا من الميت , و أن المستقبل يولد فعلا من الحاضر , و أن البعث العلني المستمر في هذه الحياة , دليل في حد ذاته على حقيقة البعث .
و الواقع أن القرآن لم يطلب من العرب أن يؤمنوا بالخروج من الموت لاختبار قدرتهم على الأيمان الأعمى , بل دعاهم إلى استقراء حقيقة هذا الميلاد من واقعهم على الأرض , لأنه أراد أن يعلمهم أن الحاضر يبعث حيا في المستقبل . و أن الأنسان الذي يعرف هذا السر , يعرف في الواقع جميع الأسرار , و يستطيع وحده أن يخرج بالحياة من حاضرها في الغابة إلى مستقبلها في الجنة , لأول مرة منذ مولد الحياة . فالقرآن رسالة من هذا الحجم , لها هدف عملي من هذا الحجم , و ليس مجرد وصفة سحرية للحصول على جنة بالمجان .
إنه ليس كتابا للموتى , و لا يطلب من الأحياء أن يؤمنوا ببعث الأموات , رغبة في الحصول على قرابينهم . و قد تعمد أن يغلق عالم الموتى الذي فتحه الكهنة منذ عصر أوزيريس , و تعمد أن يعلن بطلان القرابين بنصوص صريحة , منها قوله : { إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار , فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا , و لو افتدي به ...} فالميت لا يفديه سوى عمله بين الأحياء , لأن القرآن كتاب يخاطب عالم الأحياء وحدهم , و يريدهم أن يكتشفوا بعثهم الآن , فوق هذه الأرض , و يخرجوا من حياتهم الدنيا إلى حياة مسؤولة , و قادرة - بالتالي - على ضمان حقهم في السلام و العدل . و إذا كان الفقه الأسلامي قد أقنع المسلمين بعد ذلك بأن (حياتهم الدنيا ) , هي كل حياتهم , فإن ثمن هذه الغلطة الفادحة لم يدفعه الفقه , بل دفعه المسلمون الذين يمثلون حاليا أعلى نسبة من اللاجئين في التاريخ , و أعلى نسبة بين الأميين و الفقراء , و يعيشون محشورين داخل أوطان محاطة بالبوابات , عليها حراس غلاظ شداد , مثل سجون مسورة من الجحيم .
فثمة ملايين من المسلمين , يركضون في هذا النهار حفاة عراة على تلال آسيا الحارقة . و ثمة ملايين أخرى يتضورون جوعا في الوطن العربي و أفريقيا . و كلهم يدفعون نقدا ثمن ما خسرته أيدي موتاهم الذين تنازلوا عن حقهم في المستقبل , و شغلتهم حياتهم الدنيا عن آخرة حياتهم , و نسوا معجزة البعث على الأرض , و نسوا مسؤوليتهم عن واقع عيالهم , و طمعوا في جنة مجانية , و ذهبوا وراء هذا الحلم الطفولي إلى النقطة التي لا عودة منها .
إن هذه ( الدنيا ) التي يعيشها المسلمون الآن , هي - بالضبط - ما كسبته أيدي موتاهم , موزونا بدقة متناهية , مثقال ذرة بمثقال ذرة . و هي حقيقة ماثلة في واقع الناس , يمكن إثباتها بلغة الحساب و المنطق , و لا تحتاج إلى أدلة من عالم الأموات , و لا تحتاج إلى غيبيات الفقه , و ليس من شأنها أن تشكك في البعث بعد الموت , بل من شأنها أن تؤكده , لأنها تشرحه عمليا في واقع الأحياء . و سواء استبان المسلمون هذه الحقيقة , أو غابت عنهم , فإن الأسلام لا يستطيع أن يضمن لهم الحاضر أو المستقبل إلا إذا خرجوا من دهليز الفقه الطفولي , و اكتشفوا معجزة البعث المعلن في هذه الحياة , و عرفوا مسؤولية الحاضر عما يحدث في المستقبل , و رفضوا جنة أوزيريس المجانية , و استعادوا حقهم في ضمان السلام و العدل , بنظام إداري قادر على توفير الضمان .
و الواقع , أن كلمة ( الدنيا ) لا تستطيع أن تعني ( عالم الأحياء ) إلا في ثقافة خسرت حقها في ( الآخرة ) , و خسرت قدرتها على تغيير المستقبل , و أنكرت بعث الأنسان المسؤول , من طفولته غير المسؤولة , و فقدت - بالتالي - كل أمل في الخروج بالحياة من شريعة الغابة . و هي ثقافة لم يرثها العرب من القرآن الذي بشرهم بالجنة , بل ورثوها من نظمهم الأقطاعية المتخلفة , التي ألغت مسؤوليتهم عن الحاضر و المستقبل , و ألغت بذلك حاجتهم إلى فكرة البعث نفسها , و سخرت الفقه إلى تمرير هذه الكارثة السياسية , بمنهج تربوي شامل , ما لبث أن أباح لنفسه صفة ( العلم الآلهي ) , و أصبح ثقافة شفوية بحتة , كلامها جميل و مقدس , و واقعها قبيح , و شيطاني جدا



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...