الأربعاء، 10 أغسطس 2016

الرسالة كعبء وتكليف ..... بقلم المدون حليم عباس



الرسول على ناقته القصواء ببطن الوادي، وقد اجتمع حوله عشرات الألوف من الناس، والشمس تميل نحو الغروب لتضفي على المشهد طابع الوداع الأخير : يا أيها الناس، أسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا...وعرفت هذا الخطبة لاحقا بخطبة الوداع. أهم ما استوقفني في هذه الخطبة سؤال الرسول للناس : وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون ؟ فقالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بإصبعه السبابة يرفعها الى السماء، وينكتها إلى الناس : اللهم أشهد،اللهم أشهد، اللهم أشهد.
ولتأمل هذا المشهد من المفيد أن نرجع للوراء أكثر من عشرين عاما، كان النبي جالسا وقد نزل عليه الوحي قبل قليل ،وزجته تسأله: "لم لا تنام يا أبا القاسم " ؟
- إنتهى ياخديجة عهد النوم والراحة ، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس، وأن أدعوهم الى الله وإلى عبادته فمنذا أدعو ؟ ومنذا يستجيب ؟
لقد كان عبئا وتكليغا ثقيلا تنوء له الجبال، ومن الواضح أن النبي كان يدرك ثقل الأمانة ، ولكنه كان أمرا ، لا يستطيع النبي رفضه مهما كان.
في الأيام الأولى للرسالة ، لم تكن تشريفا بقدر ما كانت عبئا وتكليفا ثقيلا، ومن المفيد أن ننظر للرسالة من هذه الزاوية، زاوية التكليف. ففي تلك الأيام لم يكن محمد بن عبدالله قد اكتسب تلك الأسطورية التى ينظر له بها الناس اليوم.
لقد تناول مالك بن نبي في كتاب" الظاهرة القرآنية" حقيقة إقتناع محمد الشخصي بالنبوة. وتساءل هل كان كان إقتناع محمد بنوته تلقائيا أم ناشئا عن تغكير ؟ وينتهي مالك نبي الى إقتناع النبي ناتج عن تفكير واع،وبحث دقيق متردد للوقائع، واستبطان متغلغل في اعماق الضمير.
وهنا أود أن أشير إلى إيمان النبي بنفسه، وهو إيمان يستند الى التفكير وإلى العقل كما أوضح مالك بن نبي. فعلاقة النبي بالغيب هي علاقة إيمان أيضا، فالغيب بالنسبة له لم يكن معطى مباشرا وإنما يؤمن به . ويؤمن بأن ظاهرة الوحي ليست من نسج خياله هو، ولا من كائن آخر غير الله. أي أن مصدر الوحي هو الله. وهذه نقطة مهمة.
لقد أصبح إيمان النبي فيما بعد راسخا لا يخالطه شك، ولكنه مع ذلك بقي إيمانا. ولقد كان القرآن يدعم إيمان النبي الشخصي ويقويه بإستمرار، "كذلك لنثبت به فؤداك ورتلناه ترتيلا".
إن عظمة محمد بن عبدالله تنبع من هذا الإيمان وتحمل عبء الرسالة كإنسان مؤمن بالغيب، يصبر ويتوكل على الله إيمانا به "غيبا".
" وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحي إلي وما أنا إلا نذير مبين".
عادة في تناول سيرة الرسول يطغى الإلهي على الإنساني في شخصية النبي، الى الحد الذي يجعله مستلبا للإرادة الإلهية، وتختفي شخصيته وإيمانه ومعاناته وجهاده وصبره وتوكله.
إن النظرة الأسطورية للنبي وللصحابة هي أحد أهم أسباب عدم التأسي بالرسول والصحابة. حيث يتصور الناس أن كل تلك النماذج هي نماذج فوق-طبيعية، وهي بالتالي خارج إطار الممكن بالنسبة للناس الطبيعيين. ولذلك تجد من يتهمك بالمثالية من المؤمنين عندما تتكلم عن التأسي بالأنصار مثلا أو المهاجرين. فتلك النماذج -على ما يبدو - هي للإستعراض فقط. وقد تدخل الإله بنفسه لصناعتها وهي غير قابلة للتحقق مرة أخرى.
لقد كان محمد بن عبدالله ينظر للرسالة على أنها أمانة .. تكليف ومسئولية، وكان يجاهد من أجل أداء الأمانة بالوجه الأكمل. وفي أشد الأوقات عندما كذبوه في مكة وذهب الى الطائف فوجد أقسى مما لاقاه في مكة ،فقد رموه بالحجارة وبثوا في طريقه الأشواك وجعلوا الأطفال والعبيد يسخرون منه. مع كل هذه المعاناة كان كل همه : " إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي.. لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك" لعله كان يخشى أن يكون مقصرا في أداء رسالته رغم كل ما لاقاه !
إن تلك النظرة المدائحية لمحمد بن عبدالله، والتى تصوره وكأن كل الكون تحت أمره ، يظلله الغمام ويبكي له الشجر، حبيب الله الذي يعتقد الكون نفسه أنه ما خلق إلا لأجله، إن هذه النظرة تبدو ظاهريا كتعظيم للنبي ولكنها في الواقع تسلبه أهم مقومات العظمة، وهو إنسانيته. فحينما رماه سفهاء الطائف بالحجارة حتى اختضبت نعلاه بالدم فقد كان يتألم كأي إنسان. وعندما كان يقاتل في أحد وقد طوقه جيش من المشركين وكان معه تسعة فقط من المسلمين، فقد كان يقاتل كإنسان شجاع وبقوة إنسان.
ودائما كانت الرسالة أهم من الشخص، لدرجة أن الرسول نفسه كان مستعدا للإستشهاد من أجلها. ولكن لقد ماتت الرسالة، وبقي الرسول ! اليوم إسم الرسول لا يذكر بالرسالة، وأصبح تعظيم الرسول غاية لذاته في أغلب الأحيان.


الصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، وعلى من سبقوه من الأنبياء والرسل . والصلاة والسلام على من يحملون الرسالة اليوم وغدا.
ونواصل



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...