أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة
الجزء الثالث
عشرة أيام لن تكفي لتشكيل الحكومة
ملاحظة: ما أنا بصدد نشره ليس مذكرات، لأن المذكرات يكتبها من عاش تلك الأحداث أو كان له دور فيها، إنما أنا بصدد نشر دراسة في تاريخ الجزائر، اعتمدت فيها على وثائق مختلفة من مذكرات كتبها من عايشوا تلك الأحداث، ووثائق رسمية ودبلوماسية، وشهادات نشرت في صحف ومجلات، ومجموعة كبيرة جدا من الكتب والمصادر الوطنية والأجنبية، بالإضافة إلى شهادات جمعتها بنفسي من بعض الشخصيات التي سمحت لي الظروف والفرص أن ألتقيها، وما أقوم به من كتابة في تاريخ الجزائر، لا هدف منه إلا إظهار جوانب خفية وغير معروفة من تاريخ ما بعد الاستقلال، الذي أخذ يتآكل ويندثر بسبب وفاة أغلبية الفاعلين.
عشرة أيام لن تكفي لتشكيل الحكومة
الرئيس بومدين للدكتور أمير - مارس 1977.
بعد أن قطع الرئيس بومدين اتصاله الهاتفي مع العقيد بن شريف، قال لعبد المجيد علاهم: حان الوقت لنعيد ترتيب شؤون الرئاسة، وسنبدأها اعتبارا من يوم غد مع الدكتور أمير.
في اليوم الموالي، بدى الرئيس بومدين منشرح الصدر ومعنوياته عالية (1)، ليستدعي الدكتور أمير، بحجة استطلاع مدى تقدم إعداد التقرير النهائي المتعلق بمحاربة البيروقراطية، الذي انطلق العمل عليه في شهر أوت من عام 1976، فرد الدكتور أمير أن التقرير النهائي جاهز تقريبا، وسيعرض عليه في حدود التاسع مارس (2).
بعد حديث مقتضب عن مدى تقدم تحضير التقرير النهائي، المتعلق بمحاربة البيروقراطية، طلب الرئيس بومدين من كاتبه العام الدكتور أمير الجلوس، لأنه يريد استشارته فيما يخص تشكيل الحكومة الجديدة، ليبدأ في سرد تصوراته المتعلقة بإعادة تنظيم الهيكل الحكومي، الذي حسب رأي الرئيس بومدين أصبح من الضروري إعادة النظر فيه، بما يتماشى مع المرحلة الجديدة التي ستدخلها الجزائر، فأوضح أن هناك أربع وزارات تحتاج لعناية خاصة؛
أولها الخارجية: التي بدأ يفكر جديا في تغيير رأسها، أو عن الأقل إنشاء كتابة دولة تابعة لها، تتكفل ببعض القضايا الحساسة، وقد بنى الرئيس بومدين قراره هذا نتيجة لجُملة من القضايا والمسائل التي سنتعرض لها تفصيلا عند الوصول لهذه النقطة (3).
ثانيها وزارة الصناعة والطاقة التي قرر تفكيكها لتخفيف الضغط على وزيرها، وكذلك لسدّ أفواه من يقولون إن بلعيد عبد السلام أصبح على رأس امبراطورية اقتصادية (4).
ثالثها وزارة الشؤون الدينية والتعليم الأصلي التي يريد حصرها في القضايا الدينية فقط، مع ضرورة إلغاء التعليم الأصلي وإلحاقه بوزارة التربية (5).
وفي الأخير وزارة الإعلام، التي يريد على رأسها شخصية تضاهي شخصية الدكتور أحمد طالب، الذي يحتاجه في مكان آخر، ثم طرح الرئيس بومدين سؤالا مباشرا على الدكتور أمير فقال: حسب رأيك من هو أنسب شخص لتولي هاته الوزارة؟
بدون أن يعطي لنفسه أي فرصة للتفكير، وكأنه كان مستعدا مسبقا لذلك، رد الدكتور أمير: رأيي أن الدكتور عميمور، هو أنسب من يليق لهذا المنصب، فهو شخص مثقف ومعرب، وعمل بتفان لمدة 6 سنوات، مستشارا إعلاميا معنا، وله صلة وثيقة بكل المثقفين والصحفيين الجزائريين، وحتى علاقاته بالمثقفين والصحفيين في الخارج كبيرة جدا، وبالتالي هو أفضل اختيار لتولي حقيبة الثقافة والإعلام (6).
هز الرئيس بومدين رأسه كأنه وافق على اقتراح الدكتور أمير، وصرفه قائلا: ممتاز سنكمل الحديث في شأن التشكيلة الحكومية الجديدة لاحقا، المطلوب منك الآن الاتصال بوزارة الخارجية لاستعجالهم في إرسال ملف حركة السلك الدبلوماسي التي طلبتها منذ فترة، فبعض الوزراء سيعينون سفراء، والواجب أن نختار لهم سفارات تليق بمقامهم، واطلب لي بن شريف ودراية للتشاور، وكذلك بوتفليقة لنفس السبب، أما بن شريف ودراية فسيكون لقائي معهما سويا، أما بوتفليقة فأريده منفردا.
خرج الدكتور أمير من مكتب الرئيس، الذي نظر لعبد المجيد علاهم قائلا: أنا الآن مخيّـر بين الدكتورين، فإما أن أعين عميمور وزيرا للإعلام، وبالتالي سأبعده عني، بينما أنا في أمسّ الحاجة إليه إلى جانبي أكثر من أي وقت مضى، أو أعين الدكتور أمير في منصب جديد، لأنه من الواضح جدا أن الرجلين لن يتفقا أبدا، بينما أنا في حاجة لمجموعة عمل متلاحمة تماما، ولا يوجد أي خلاف بين أفرادها، فما سيأتي صعب، لذلك أختار عميمور للبقاء معي، ولن أتخلى عن الدكتور أمير، الذي سيغادر منصبه نحو منصب وزاري محترم، سأل علاهم الرئيس بومدين عن الوزارة التي سيتولاها الدكتور أمير؟ فكان رده أنه قد أعد فعلا هيكلا جديدا للحكومة، ستدمج فيه وزارات، بينما ستفكك وزارات أخرى، تماما كما أوضح قبل ذلك لكاتبه العام، الذي سيحظى بوزارة مهمة. وليطوي الرئيس بومدين ملف الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، قال لعلاهم: لا أظن أنه يوجد في محيطي المقرب شخص يمكنه ملء الفراغ، الذي سيتركه الدكتور أمير غيرك أنت، نعم أنت أحسن اختيار لتولي منصب الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، ولا أوصيك بكتم الموضوع، حتى أبلغه بطريقتي للدكتور أمير في حينه (7).
حسم الرئيس نهائيا في ثلاثة مناصب داخل المجموعة التي تعمل بصفة مباشرة معه، فهو لا يزال في حاجة لكل من أحمد حوحات (المكلف بملف الثورة الزراعية)، وبلقاسم نابي (المكلف بملف المحروقات)، أما محمد يعلى فسيدخل الحكومة بصفته وزيرا للتجارة خلفا للعياشي ياكر، الذي التحق بالمجلس الشعبي الوطني، ليكون محمد يعلى ثاني مستشار رئاسي، يغادر منصبه، لتولي حقيبة وزارية، بعد عبد القادر بن قدادرة الذي انتخب نائبا في البرلمان.
عند عودته لمكتبه، اتصل الدكتور أمير بالأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية عبد المالك بن حبيلس، ليستعجله في إرسال تقريره النهائي فيما يخص حركة السلك الدبلوماسي التي طلبها الرئيس بومدين، فرد بن حبيلس أن الملف طور الدراسة، ولا يوجد أي سبب للاستعجال، لأن الحركة لن تكون إلا بعد أن تشكل الحكومة الجديدة بمدة، لينهي الدكتور أمير المكالمة بالقول إنه أمر مباشر من الرئيس، كما سأله إن كان بوتفليقة قد عاد لأرض الوطن، فالرئيس يحتاجه للتشاور معه في قضية تشكيل الحكومة الجديدة، فكان رد بن حبيلس أنه لا يزال في الخارج ولا يدري بالتحديد أين هو.
في تلك الأثناء حسم الرئيس بومدين في قضية مساعديه، الذين سيغادرون ممن سيبقون إلى جانبه، ليستدعي للمرة الثانية الدكتور أمير، للتشاور معه في إعادة هيكلة الحكومة، فأبلغه أنه قرر تفكيك وزارة الصناعة والطاقة إلى ثلاث وزارات هي:
1- وزارة الصناعات الخفيفة.
2- وزارة الصناعات الثقيلة.
3- وزارة الطاقة والصناعات البتروكيماوية.
أما كتابة الدولة للمياه، فسترفع إلى وزارة مع توسيع مجال اختصاصها لتصبح وزارة للري واستصلاح الأراضي وحماية البيئة، وذلك لتخفيف العبء عن وزارة الفلاحة التي ستنحصر صلاحياتها في الفلاحة والثورة الزراعية فقط.
أما وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، فستُستبدل بوزارة لدى رئاسة الجمهورية مكلفة بالشؤون الدينية فقط، لأن التعليم الأصلي سيلغى كما سبق وأن أعلن.
كما ستتحول وزارة التعليم الابتدائي والثانوي إلى وزارة التربية، وسيقتطع منها قطاع التكوين المهني ليُلحق بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ووزارة الأخبار والثقافة ستتحول لوزارة الثقافة والإعلام، وباقي الوزارات ستبقى كما هي بدون تغيير.
بعد الانتهاء من إعداد الهيكل الجديد للحكومة، قال الرئيس بومدين، عدد سكان الجزائر يزداد يوما بعد يوم وأحد التحديات التي لا أستطيع المجازفة فيها هي قطاع العمل والشؤون الاجتماعية، فهذه الوزارة التي تشرف على سوق العمل وتسيّر الضمان الاجتماعي وأضفنا لها التكوين المهني، الذي يعتبر العمود الفقري للهياكل التي توفر اليد العاملة المحترفة التي يحتاجها قطاع الصناعة والبناء بل وكل قطاعات الاقتصاد الوطني، هذه الوزارة لا أستطيع أن أسلمها لأي كان، فهي الضامن للاستقرار الاجتماعي للبلاد، وبعد تفكير طويل، لم أجد دكتور أمير أفضل منك لتولي هذه الوزارة الضخمة، فعلى رأسها ستُشرف على صناديق الضمان الاجتماعي، وصندوق التقاعد، والديوان الوطني لليد العاملة، ومراكز التكوين المهني، وأنت في الأصل طبيب، عملت قبل تولي الكتابة العامة للرئاسة، مديرا مركزيا للصحة العسكرية، فهذه الوزارة الضخمة تحتاج لشخص لديه خبرة كبيرة ولا يوجد أمامي غيرك لهذا المنصب، خصوصا وأن مصالح الأمن أبلغتني منذ مدة أن هناك بوادر تذمر عمالي، يجب القضاء عليه قبل أن ندخل في موجة إضرابات كما هو الحال في تونس وموريتانيا، فمبروك عليك وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والتكوين المهني (8).
سكت الدكتور أمير ولم يجد ما يقوله، لأن الرئيس بومدين فاجأه ووضعه أمام الأمر الواقع، فلم يجد ما يفعل سوى قبول المنصب، وبذلك كان الدكتور أمير أول وزير عينه الرئيس بومدين في حكومة 1977، وهنأه بمنصبه الجديد في مكتبه رفقة عبد المجيد علاهم، ثم قال الرئيس بومدين: بطبيعة الحال ستبقى في منصبك حتى صدور مرسوم تعيين الحكومة الجديدة، وعليه علينا النظر في تشكيلة باقي الحكومة، ولنبدأها من وزارة الخارجية.
كان الرئيس بومدين، بشهادة مُقربيه، يُسيّـر بنفسه ملف الصحراء الغربية، وشكل من أجل ذلك مجموعة عمل قريبة منه، على مستوى رئاسة مجلس الوزراء (رئاسة الجمهورية منذ 1977) (9)، مهمتها متابعة هذا الملف، في شقه الأمني والعسكري، وكذا تقديم الدعم الإنساني للاجئين الصحراويين، والتكفل بهم، وإعانة قيادة جبهة البوليساريو التي التجأت للجزائر، بصفتها رائدة وراعية الحركات التحررية في العالم، بينما تكفل الدكتور محيي الدين عميمور بالتنسيق مع وزارة الأخبار والثقافة بكل ما يتعلق بجانب التعبئة والاعلام، فكان لا يصدر أي شيء في الصحافة المكتوبة أو الإذاعة والتلفزيون إلا تحت مراقبة المستشار الإعلامي للرئيس، ووزير الأخبار والثقافة، ونظرا لخطورة الموقف وحالة الحرب التي كانت تخيم على المنطقة، طرح الرئيس بومدين فكرة تشكيل كتابة دولة للشؤون العربية والافريقية، يُدرَج ملف الصحراء الغربية ضمن صلاحياتها، وأبقى الأمر غاية في السرية بين مساعديه المباشرين، ومنع أي تسرب للمعلومة حتى يناقش الفكرة مباشرة مع وزير خارجيته بوتفليقة.
عند نهاية ذلك اليوم، سأل الرئيس بومدين كاتبه العام عن بوتفليقة فكان رد الدكتور أمير أن وزير الخارجية موجود منذ فترة في الخارج كما تعلم، ولم يعد لأرض الوطن بعد، فبدا على ملامح الرئيس نوع من الغضب حاول عدم إظهاره، ونهر الدكتور أمير: أعلم أنه غير موجود، والظاهر أن غيابه سيُسبب لي تأخيرا لم أحسب له حسابا، فعشرة أيام لن تكفي لتشكيل الحكومة الجديدة (10).
يتبع
الهوامش :
(1)- مصدر خاص.
(2)- في 20 أوت 1976، نشرت رئاسة مجلس الوزراء بيانا دعت فيه جميع أفراد الشعب لمراسلة الرئاسة للتبليغ عن تفشي ظاهرة البيروقراطية وتوجيهها للرئاسة.
(3)- مصدر خاص.
(4)- دارت شائعات كثيرة جدا، اتهمت بلعيد عبد السلام بالوقوف على إمبراطورية اقتصادية، حتى أن شركة سوناطراك كانت تُنعت بأنها دولة داخل دولة.
(5)- حسب مولود بلقاسم نايت بلقاسم: ابتداء من عام 1976 أظهر الكثير من الإطارات السامين في الدولة امتعاضهم من التعليم الأصلي، بحجة أنه ينتج فيالق من الإسلاميين المتشددين، وإن كان لابد من الحفاظ على هذا التعليم، فليكن ضمن برامج وزارة التربية الوطنية، وفق مناهج مدروسة ومتحكم فيها وتكون معتدلة.
(6)- مصدر خاص.
(7)- المصدر السابق.
(8)- نفس المصدر السابق.
(9) - تتكون هذه اللجنة من:
1- سليمان هوفمان مستشار رئاسي مكلف بملف حركات التحرر.
2- قاصدي مرباح المدير المركزي للأمن العسكري.
3- النقيب (ب ب) رئيس المكتب المركزي للتعاون الدولي برئاسة مجلس الوزراء.
(10)- نفس المصدر السابق.