الأحد، 23 فبراير 2025

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة .. براءة عبد الله

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة

الجزء الثالث
عشرة أيام لن تكفي لتشكيل الحكومة

ملاحظة: ما أنا بصدد نشره ليس مذكرات، لأن المذكرات يكتبها من عاش تلك الأحداث أو كان له دور فيها، إنما أنا بصدد نشر دراسة في تاريخ الجزائر، اعتمدت فيها على وثائق مختلفة من مذكرات كتبها من عايشوا تلك الأحداث، ووثائق رسمية ودبلوماسية، وشهادات نشرت في صحف ومجلات، ومجموعة كبيرة جدا من الكتب والمصادر الوطنية والأجنبية، بالإضافة إلى شهادات جمعتها بنفسي من بعض الشخصيات التي سمحت لي الظروف والفرص أن ألتقيها، وما أقوم به من كتابة في تاريخ الجزائر، لا هدف منه إلا إظهار جوانب خفية وغير معروفة من تاريخ ما بعد الاستقلال، الذي أخذ يتآكل ويندثر بسبب وفاة أغلبية الفاعلين.

عشرة أيام لن تكفي لتشكيل الحكومة
الرئيس بومدين للدكتور أمير - مارس 1977.

بعد أن قطع الرئيس بومدين اتصاله الهاتفي مع العقيد بن شريف، قال لعبد المجيد علاهم: حان الوقت لنعيد ترتيب شؤون الرئاسة، وسنبدأها اعتبارا من يوم غد مع الدكتور أمير.
في اليوم الموالي، بدى الرئيس بومدين منشرح الصدر ومعنوياته عالية (1)، ليستدعي الدكتور أمير، بحجة استطلاع مدى تقدم إعداد التقرير النهائي المتعلق بمحاربة البيروقراطية، الذي انطلق العمل عليه في شهر أوت من عام 1976، فرد الدكتور أمير أن التقرير النهائي جاهز تقريبا، وسيعرض عليه في حدود التاسع مارس (2).
بعد حديث مقتضب عن مدى تقدم تحضير التقرير النهائي، المتعلق بمحاربة البيروقراطية، طلب الرئيس بومدين من كاتبه العام الدكتور أمير الجلوس، لأنه يريد استشارته فيما يخص تشكيل الحكومة الجديدة، ليبدأ في سرد تصوراته المتعلقة بإعادة تنظيم الهيكل الحكومي، الذي حسب رأي الرئيس بومدين أصبح من الضروري إعادة النظر فيه، بما يتماشى مع المرحلة الجديدة التي ستدخلها الجزائر، فأوضح أن هناك أربع وزارات تحتاج لعناية خاصة؛
أولها الخارجية: التي بدأ يفكر جديا في تغيير رأسها، أو عن الأقل إنشاء كتابة دولة تابعة لها، تتكفل ببعض القضايا الحساسة، وقد بنى الرئيس بومدين قراره هذا نتيجة لجُملة من القضايا والمسائل التي سنتعرض لها تفصيلا عند الوصول لهذه النقطة (3).
ثانيها وزارة الصناعة والطاقة التي قرر تفكيكها لتخفيف الضغط على وزيرها، وكذلك لسدّ أفواه من يقولون إن بلعيد عبد السلام أصبح على رأس امبراطورية اقتصادية (4).
ثالثها وزارة الشؤون الدينية والتعليم الأصلي التي يريد حصرها في القضايا الدينية فقط، مع ضرورة إلغاء التعليم الأصلي وإلحاقه بوزارة التربية (5). 
وفي الأخير وزارة الإعلام، التي يريد على رأسها شخصية تضاهي شخصية الدكتور أحمد طالب، الذي يحتاجه في مكان آخر، ثم طرح الرئيس بومدين سؤالا مباشرا على الدكتور أمير فقال: حسب رأيك من هو أنسب شخص لتولي هاته الوزارة؟ 
بدون أن يعطي لنفسه أي فرصة للتفكير، وكأنه كان مستعدا مسبقا لذلك، رد الدكتور أمير: رأيي أن الدكتور عميمور، هو أنسب من يليق لهذا المنصب، فهو شخص مثقف ومعرب، وعمل بتفان لمدة 6 سنوات، مستشارا إعلاميا معنا، وله صلة وثيقة بكل المثقفين والصحفيين الجزائريين، وحتى علاقاته بالمثقفين والصحفيين في الخارج كبيرة جدا، وبالتالي هو أفضل اختيار لتولي حقيبة الثقافة والإعلام (6). 
هز الرئيس بومدين رأسه كأنه وافق على اقتراح الدكتور أمير، وصرفه قائلا: ممتاز سنكمل الحديث في شأن التشكيلة الحكومية الجديدة لاحقا، المطلوب منك الآن الاتصال بوزارة الخارجية لاستعجالهم في إرسال ملف حركة السلك الدبلوماسي التي طلبتها منذ فترة، فبعض الوزراء سيعينون سفراء، والواجب أن نختار لهم سفارات تليق بمقامهم، واطلب لي بن شريف ودراية للتشاور، وكذلك بوتفليقة لنفس السبب، أما بن شريف ودراية فسيكون لقائي معهما سويا، أما بوتفليقة فأريده منفردا.
خرج الدكتور أمير من مكتب الرئيس، الذي نظر لعبد المجيد علاهم قائلا: أنا الآن مخيّـر بين الدكتورين، فإما أن أعين عميمور وزيرا للإعلام، وبالتالي سأبعده عني، بينما أنا في أمسّ الحاجة إليه إلى جانبي أكثر من أي وقت مضى، أو أعين الدكتور أمير في منصب جديد، لأنه من الواضح جدا أن الرجلين لن يتفقا أبدا، بينما أنا في حاجة لمجموعة عمل متلاحمة تماما، ولا يوجد أي خلاف بين أفرادها، فما سيأتي صعب، لذلك أختار عميمور للبقاء معي،  ولن أتخلى عن الدكتور أمير، الذي سيغادر منصبه نحو منصب وزاري محترم، سأل علاهم الرئيس بومدين عن الوزارة التي سيتولاها الدكتور أمير؟ فكان رده أنه قد أعد فعلا هيكلا جديدا للحكومة، ستدمج فيه وزارات، بينما ستفكك وزارات أخرى، تماما كما أوضح قبل ذلك لكاتبه العام، الذي سيحظى بوزارة مهمة. وليطوي الرئيس بومدين ملف الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، قال لعلاهم: لا أظن أنه يوجد في محيطي المقرب شخص  يمكنه ملء الفراغ، الذي سيتركه الدكتور أمير غيرك أنت، نعم أنت أحسن اختيار لتولي منصب الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، ولا أوصيك بكتم الموضوع، حتى أبلغه بطريقتي للدكتور أمير في حينه (7).
حسم الرئيس نهائيا في ثلاثة مناصب داخل المجموعة التي تعمل بصفة مباشرة معه، فهو لا يزال في حاجة لكل من أحمد حوحات (المكلف بملف الثورة الزراعية)، وبلقاسم نابي (المكلف بملف المحروقات)، أما محمد يعلى فسيدخل الحكومة بصفته وزيرا للتجارة خلفا للعياشي ياكر، الذي التحق بالمجلس الشعبي الوطني، ليكون محمد يعلى ثاني مستشار رئاسي، يغادر منصبه، لتولي حقيبة وزارية، بعد عبد القادر بن قدادرة الذي انتخب نائبا في البرلمان.
عند عودته لمكتبه، اتصل الدكتور أمير بالأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية عبد المالك بن حبيلس، ليستعجله في إرسال تقريره النهائي فيما يخص حركة السلك الدبلوماسي التي طلبها الرئيس بومدين، فرد بن حبيلس أن الملف طور الدراسة، ولا يوجد أي سبب للاستعجال، لأن الحركة لن تكون إلا بعد أن تشكل الحكومة الجديدة بمدة، لينهي الدكتور أمير المكالمة بالقول إنه أمر مباشر من الرئيس، كما سأله إن كان بوتفليقة قد عاد لأرض الوطن، فالرئيس يحتاجه للتشاور معه في قضية تشكيل الحكومة الجديدة، فكان رد بن حبيلس أنه لا يزال في الخارج ولا يدري بالتحديد أين هو.
في تلك الأثناء حسم الرئيس بومدين في قضية مساعديه، الذين سيغادرون ممن سيبقون إلى جانبه، ليستدعي للمرة الثانية الدكتور أمير، للتشاور معه في إعادة هيكلة الحكومة، فأبلغه أنه قرر تفكيك وزارة الصناعة والطاقة إلى ثلاث وزارات هي:
1- وزارة الصناعات الخفيفة.
2- وزارة الصناعات الثقيلة.
3- وزارة الطاقة والصناعات البتروكيماوية.
أما كتابة الدولة للمياه، فسترفع إلى وزارة مع توسيع مجال اختصاصها لتصبح وزارة للري واستصلاح الأراضي وحماية البيئة، وذلك لتخفيف العبء عن وزارة الفلاحة التي ستنحصر صلاحياتها في الفلاحة والثورة الزراعية فقط. 
أما وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية، فستُستبدل بوزارة لدى رئاسة الجمهورية مكلفة بالشؤون الدينية فقط، لأن التعليم الأصلي سيلغى كما سبق وأن أعلن. 
كما ستتحول وزارة التعليم الابتدائي والثانوي إلى وزارة التربية، وسيقتطع منها قطاع التكوين المهني ليُلحق بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ووزارة الأخبار والثقافة ستتحول لوزارة الثقافة والإعلام، وباقي الوزارات ستبقى كما هي بدون تغيير.
بعد الانتهاء من إعداد الهيكل الجديد للحكومة، قال الرئيس بومدين، عدد سكان الجزائر يزداد يوما بعد يوم  وأحد التحديات التي لا أستطيع المجازفة فيها هي قطاع العمل والشؤون الاجتماعية، فهذه الوزارة التي تشرف على سوق العمل وتسيّر الضمان الاجتماعي وأضفنا لها التكوين المهني، الذي يعتبر العمود الفقري للهياكل التي توفر اليد العاملة المحترفة التي يحتاجها قطاع الصناعة والبناء بل وكل قطاعات الاقتصاد الوطني، هذه الوزارة لا أستطيع أن أسلمها لأي كان، فهي الضامن للاستقرار الاجتماعي للبلاد، وبعد تفكير طويل، لم أجد دكتور أمير أفضل منك لتولي هذه الوزارة الضخمة، فعلى رأسها ستُشرف على صناديق الضمان الاجتماعي، وصندوق التقاعد، والديوان الوطني لليد العاملة، ومراكز التكوين المهني، وأنت في الأصل طبيب، عملت قبل تولي الكتابة العامة للرئاسة، مديرا مركزيا للصحة العسكرية، فهذه الوزارة الضخمة تحتاج لشخص لديه خبرة كبيرة ولا يوجد أمامي غيرك لهذا المنصب، خصوصا وأن مصالح الأمن أبلغتني منذ مدة أن هناك بوادر تذمر عمالي، يجب القضاء عليه قبل أن ندخل في موجة إضرابات كما هو الحال في تونس وموريتانيا، فمبروك عليك وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والتكوين المهني (8).
سكت الدكتور أمير ولم يجد ما يقوله، لأن الرئيس بومدين فاجأه ووضعه أمام الأمر الواقع، فلم يجد ما يفعل سوى قبول المنصب، وبذلك كان الدكتور أمير أول وزير عينه الرئيس بومدين في حكومة 1977، وهنأه بمنصبه الجديد في مكتبه رفقة عبد المجيد علاهم، ثم قال الرئيس بومدين: بطبيعة الحال ستبقى في منصبك حتى صدور مرسوم تعيين الحكومة الجديدة، وعليه علينا النظر في تشكيلة باقي الحكومة، ولنبدأها من وزارة الخارجية.
كان الرئيس بومدين، بشهادة مُقربيه، يُسيّـر بنفسه ملف الصحراء الغربية، وشكل من أجل ذلك مجموعة عمل قريبة منه، على مستوى رئاسة مجلس الوزراء (رئاسة الجمهورية منذ 1977) (9)، مهمتها متابعة هذا الملف، في شقه الأمني والعسكري، وكذا تقديم الدعم الإنساني للاجئين الصحراويين، والتكفل بهم، وإعانة قيادة جبهة البوليساريو التي التجأت للجزائر، بصفتها رائدة وراعية الحركات التحررية في العالم، بينما تكفل الدكتور محيي الدين عميمور بالتنسيق مع وزارة الأخبار والثقافة بكل ما يتعلق بجانب التعبئة والاعلام، فكان لا يصدر أي شيء في الصحافة المكتوبة أو الإذاعة والتلفزيون إلا تحت مراقبة المستشار الإعلامي للرئيس، ووزير الأخبار والثقافة، ونظرا لخطورة الموقف وحالة الحرب التي كانت تخيم على المنطقة، طرح الرئيس بومدين فكرة تشكيل كتابة دولة للشؤون العربية والافريقية، يُدرَج ملف الصحراء الغربية ضمن صلاحياتها، وأبقى الأمر غاية في السرية بين مساعديه المباشرين، ومنع أي تسرب للمعلومة حتى يناقش الفكرة مباشرة مع وزير خارجيته بوتفليقة.
عند نهاية ذلك اليوم، سأل الرئيس بومدين كاتبه العام عن بوتفليقة فكان رد الدكتور أمير أن وزير الخارجية موجود منذ فترة في الخارج كما تعلم، ولم يعد لأرض الوطن بعد، فبدا على ملامح الرئيس نوع من الغضب حاول عدم إظهاره، ونهر الدكتور أمير: أعلم أنه غير موجود، والظاهر أن غيابه سيُسبب لي تأخيرا لم أحسب له حسابا، فعشرة أيام لن تكفي لتشكيل الحكومة الجديدة (10). 
يتبع
 
الهوامش :
(1)- مصدر خاص.
(2)- في 20 أوت 1976، نشرت رئاسة مجلس الوزراء بيانا دعت فيه جميع أفراد الشعب لمراسلة الرئاسة للتبليغ عن تفشي ظاهرة البيروقراطية وتوجيهها للرئاسة.
(3)- مصدر خاص.
(4)- دارت شائعات كثيرة جدا، اتهمت بلعيد عبد السلام بالوقوف على إمبراطورية اقتصادية، حتى أن شركة سوناطراك كانت تُنعت بأنها دولة داخل دولة.
(5)- حسب مولود بلقاسم نايت بلقاسم: ابتداء من عام 1976 أظهر الكثير من الإطارات السامين في الدولة امتعاضهم من التعليم الأصلي، بحجة أنه ينتج فيالق من الإسلاميين المتشددين، وإن كان لابد من الحفاظ على هذا التعليم، فليكن ضمن برامج وزارة التربية الوطنية، وفق مناهج مدروسة ومتحكم فيها وتكون معتدلة.
(6)- مصدر خاص.
(7)- المصدر السابق.
(8)- نفس المصدر السابق.
(9) -  تتكون هذه اللجنة من:
1- سليمان هوفمان مستشار رئاسي مكلف بملف حركات التحرر.
2- قاصدي مرباح المدير المركزي للأمن العسكري.
3- النقيب (ب ب) رئيس المكتب المركزي للتعاون الدولي برئاسة مجلس الوزراء.
(10)- نفس المصدر السابق.

الثلاثاء، 11 فبراير 2025

اطول تعديل حكومي في الجزائر المستقلة .. براءة عبد الله

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة

الجزء الثاني
التغيير صعب جدا

"مهما كان إنه بوتفليقة وأنا أعتبره أخي الأصغر، 
أغضب عليه، وأحيانا أقسو عليه، 
لكن لا يمكنني التخلي عنه".
الرئيس هواري بومدين لعبد المجيد علاهم - مارس 1977.

بتنصيبه للمجلس الشعبي الوطني، وتزكية السيد رابح بيطاط رئيسا لذات المجلس، توجهت أنظار القاصي والداني نحو الحكومة التي غادرها 6 وزراء انتخبوا أعضاء في البرلمان، وأصبح من الضروري تعويضهم بعناصر جديدة، ومن ثمة صار تشكيل حكومة جديدة خطوة ضرورية، لاستكمال بناء الصرح المؤسساتي الذي جاء به دستور 1976.
في هذا السياق، بدأ الرئيس بومدين (اعتبارا من 05 مارس 1977)، يفكر في تشكيلة حكومته الجديدة، وكان مدركا تمام الإدراك لصعوبة هذه المهمة التي يجب - حسبه - أن تكون خطوة نحو الأمام، بحيث يزيد من صلابة النظام الحاكم، ولا يتسبب في إحداث أي شرخ في منظومة الحكم، التي كانت تعاني من تنافر كبير بين مركباتها المختلفة، وتوجهاتها المتعددة، فكان مدير تشريفاته السيد عبد المجيد علاهم، أول من فاتحه في هذا الموضوع.
أثناء الحديث الذي دار بين الرجلين (منفردين)، أبلغ الرئيس بومدين مدير تشريفاته، برغبته في تشكيل حكومة جديدة، حدد الـ 15 مارس، موعدا للإعلان عنها (أي بعد 10 أيام اعتبارا من ذلك اليوم)، وبما أنه لم يبق أمامه الكثير من الوقت، أمر علاهم أن يستدعي المقدم قاصدي مرباح مساء نفس ذلك اليوم، ليراجعه في بعض الأسماء التي ينوي تعيينها في مناصب وزارية.
خلال نفس جلسة العمل التي جمعت الرئيس بصندوق أسراره، باح الرئيس بومدين كعادته، لمساعده الوفي عبد المجيد علاهم، بما يختلج في صدره، فقال: إن بعض المسئولين قد أطالوا المكوث في مناصبهم، فلا مناص من تكليفهم بمهام أخرى، كما كشف عن نيته في إعادة هيكلة الحكومة، لتتناسب مع الوضع الجديد، الذي أنتجته حركة تنصيب المؤسسات التي نص عليها الدستور، كما أبدى عدم رضاه عن أداء وزير خارجيته الذي أمضى 14 سنة في المنصب، وأسر لعلاهم أن إعادة هيكلة الحكومة سيبدأها من وزارة الخارجية، بحيث ينوي سحب بعض الملفات من وزير الخارجية، وتكليف الدكتور أحمد طالب بإدارتها، فالمرحلة والرهانات والازمة مع فرنسا وطبول الحرب التي كانت تقرع بين الجزائر والمغرب، تجعله (أي الرئيس بومدين) في حاجة لمن يكون قربه بخطوات فقط، لأن بوتفليقة صوّال جوال، كثير الغياب، لذلك سيكلف الدكتور أحمد طالب بإدارة الشؤون العربية وبملف جبهة البوليساريو، وبالمفاوضات التي ينوي فتحها مع الملك الحسن الثاني لحل القضية الصحراوية. 
كان عبد المجيد علاهم يعرف العلاقة المتينة التي تربط الرئيس بوزير خارجيته، ويعرف الحساسية التي تعكر صفو العلاقة بين الدكتور أحمد طالب وعبد العزيز بوتفليقة، فألمح للرئيس بومدين بأن قرارا كهذا يمكن أن لا يرضي بوتفليقة، فكان رد الرئيس بومدين إن ذلك لن يكون لأن الدكتور أحمد طالب يجمع بين المتناقضين (أي ينتمي للتيار العروبي والفرانكفوني)، تماما مثل بوتفليقة، لكن الدكتور أحمد طالب تجاوز بوتفليقة بحرصه الشديد على إبقاء صورته على المستوى الداخلي والخارجي فوق كل الشبهات، وأضاف أنه في أكثر من مناسبة كلف الدكتور أحمد طالب، بمهام استثنائية خارج صلاحياته كوزير للإعلام، منها تمثيل الجزائر في اجتماعات مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية، التي كان بوتفليقة لا يحضرها إلا نادرا، بالإضافة للكثير من المهام الدبلوماسية التي أجراها الدكتور أحمد طالب منذ 1965 حتى ذلك التاريخ، وطوى الرئيس بومدين هذا الجزء من حديثه بالقول: مهما كان إنه بوتفليقة، وأنا أعتبره أخي الأصغر، أغضب عليه، وأحيانا أقسو عليه، لكن لا يمكنني التخلي عنه، أما هو (أي بوتفليقة) فسيتقبل الأمر لأنه لم يسبق أن عصى لي أمرا. 
كما أعرب الرئيس بومدين لمدير تشريفاته عن امتعاضه الشديد من أمرين:
أولهما: تنامي قوة العقيد أحمد بن شريف الذي قضى حتى ذلك التاريخ 15 سنة على رأس قيادة الدرك، وأحمد دراية الذي أمضى هو أيضا 12 سنة على رأس المديرية العامة للأمن الوطني.
ثانيهما: تفشي الإشاعات حول امبراطورية بلعيد عبد السلام الوزارية، التي أصبحت حسب بعض الأقاويل دولة داخل دولة.
ليخلص إلى وجوب وضع حد لكل ذلك، من خلال تكليف بن شريف ودراية بمهام جديدة، تليق بمقامهما كصديقين مخلصين منذ فترة حرب التحرير، فتغيير موقعهما ضرورة تمليها الظروف، وليس انتقاصا منهما أو شكا فيهما، فقد كانا نعم المساعدين، ولم أرى منهما إلا الإخلاص والتفاني في العمل، بقي لي فقط أن أجد الطريقة المثلى لإزاحتهما من مكانهما، دون أن يتسبب ذلك في أي مشاكل، خصوصا وأنهما على رأس جهازين حساسين. 
تكلم الرئيس بومدين أيضا وبإسهاب، عن الطاقم المحيط به في رئاسة الجمهورية، وكيف أملت الظروف اختيار كل واحد منهم، وتكلم أيضا عن العلاقة الفاترة بين الكاتب العام لرئاسة مجلس الوزراء، ومستشاره الإعلامي، وأشار عَرَضَا إلى الكتلة التي كونها الكاتب العام حول شخصه، كما تكلم عن الخلل الموجود داخل منظومة الحكم، المتمثل خصوصا في صراع بين التيار العروبي ونظيره الفرانكفوني، وأنهى كلامه بالحديث عن دور الحكومة الجديدة، التي اعتبرها حكومة لا غبار على شرعيتها، لأنها ستشكل بعد سلسلة طويلة من الاستفتاءات، وانتخابات (رئاسية وتشريعية)، فكان يرجو أن تكون هذه الحكومة، دفعة جديدة للجزائر على المستويين الداخلي والخارجي. 
شعر عبد المجيد علاهم (حسب قوله) بجسامة ما يخفيه الرئيس بومدين في نفسه، كأنه كان في حاجة ليخرج كل ما في داخله دفعة واحدة، فيتخلص من كل شيء، قصد طيّـه للأبد، ويتمكن من فتح صفحة جديدة، فنبهه علاهم: أنه إن كان لابد من التغيير، فعليه أن يبدأ من رئاسة الجمهورية، فهي رأس السلطة وقلبها النابض، كما أن الانتخابات التشريعية خلقت وضعا جديدا، فأحد المستشارين (السيد عبد القادر بن قدادرة) التحق بالمجلس الشعبي الوطني، ولا يمكنه الجمع بين المنصبين (مستشار لرئيس الجمهورية، ونائب في البرلمان)، كما أن بعض المستشارين لم يخفوا رغبتهم في الالتحاق بالحكومة كوزراء إذا كلفهم الرئيس بذلك، مثلما هو الحال بالنسبة لمحمد يعلى وبلقاسم نابي وحتى أحمد حوحات، أما الدكتور عميمور وهوفمان فلم يظهرا أي رغبة في تولي مناصب وزارية، بل بالعكس تهربا من ذلك صراحة حين حاولتُ جس نبضهما من خلال مزحة، وأضاف عبد المجيد علاهم جملة لم يمررها الرئيس بومدين مرور الكرام حين قال: الدكتور يريد إبعاد الدكتور (قالها بالفرنسية)، ففهم الرئيس بومدين أن الدكتور أمير يريد التخلص من الدكتور عميمور، ولما سأله الرئيس عن السبب؟ رد علاهم: أن عميمور شخصية صلبة، لم يتمكن الكاتب العام من ضمّها لمجموعته، مثلها هو الحال بالنسبة لإدريس الجزائري، كما أن عميمور كان حساسا جدا بالنسبة لاستقلاليته، حيث لا يسمح لأي شخص بتجاوز حدود معينة، أما الدكتور أمير فلا يستطيع أن يهضم بقاء قسم الإعلام خارج سلطته المباشرة، لذلك كان يختلق المشاكل لعميمور كلما سمحت الظروف، أما سليمان هوفمان، فهو عسكري لا يدنو منه حكيم ولا سليط.
بعد ظهر ذلك اليوم، وصل المقدم قاصدي مرباح لرئاسة الجمهورية، وفقا للموعد المحدد مع الرئيس، الذي استقبله فور وصوله، لأن الوقت كان يمر بسرعة، ولم يكن أمام الرئيس بومدين الكثير من الوقت ليضبط القائمة النهائية لحكومته الجديدة. 
حضر عبد المجيد علاهم ذلك الاجتماع الذي افتتحه الرئيس بومدين بالسؤال عن الوضع العام داخليا وخارجيا، ثم عن ردة فعل الشعب نتيجة تزكية السيد رابح بيطاط رئيسا للمجلس الشعبي الوطني، ثم تكلم مرباح عن ملامح إضرابات عمالية بدأت بوادرها تلوح في الأفق، وفي ختام جلسة العمل توجه إليه الرئيس بومدين بسؤال مباشر قائلا: برأيك كيف ستكون الحكومة الجديدة؟ فرد مرباح: كلهم يريدون أن يصبحوا وزراء إلا عميمور وهوفمان. قلّب الرئيس بومدين النظر بين علاهم ومرباح، ثم قال: إنه نفس الاستنتاج الذي قدمه لي علاهم قبل قدومك، المهم عزوف هوفمان مفهوم، ومقبول جدا، بل منطقي للغاية، لأسباب نعرفها جميعا، لكن وزارة الثقافة والإعلام ستصبح شاغرة، بعد أن أكلف الدكتور أحمد طالب بمهمة أخرى، فأنا أفكر في من يخلفه والدكتور عميمور حتى ولو كان يتهرب من هذه المهمة، فهو أحق بوزارة الثقافة والاعلام من غيره، ولا أريد أن يكون قربه مني عائقا، لذلك سأترك له المجال ليختار بنفسه بين البقاء معي أو تولي حقيبة الاعلام.
استدعى الرئيس بومدين العقيد بن شريف ليشرب معه كأسا من الشاي (كان الرئيس بومدين إذا احتاج أحد كبار القادة الذي يحترمهم، يقول له: تعال لنشرب كأس شاي)، بعد قدومه وتبادل عبارات الترحيب بين الرجلين، قال الرئيس بومدين لبن شريف: أحتاج لمساعدتك في أمر يهمني كثيرا، الدكتور أحمد طالب سيترك وزارة الإعلام لأنني أنوي إدخال بعض التعديلات على الحكومة، سأناقشك فيها بعد يوم أو يومين، المهم أريد إسناد هذه الوزارة للدكتور عميمور، فقاطعه العقيد بن شريف قائلا (كان العقيد بن شريف قريبا من الرئيس بومدين ويسمح لنفسه بأشياء لم يكن يفعلها غيره من القادة منها الضحك والمزاح مع الرئيس ومقاطعته عند الكلام المباشر معه): هذا اختيار ممتاز فعلا إنه يستحق هذا المنصب فهو كفؤ جدا، تبسم الرئيس بومدين وقال: خليني نكمل كلامي يا سي احمد (قالها بالعامية)، أعلم أنه كفؤ ويستحق المنصب، ولم أستدعك لاستشارتك في ذلك، لأنني سأعقد معك جلسة عمل بعد يوم أو يومين للحديث في تشكيلة الحكومة الجديدة، إنما طلبتك لأنني أريدك أن تذهب إلى مكتبه وتعرض عليه وزارة الاعلام ولا تخبره أنني خلف هذا الطلب، فلا أريد أن يكون قربه مني عائقا وحاجزا أمام منصب وزاري.
غادر العقيد بن شريف مكتب الرئيس بومدين وتوجه صوب مكتب الدكتور عميمور، ليقول له بعفويته وحماسه المعروف: كنت عند الرئيس، وتحدثنا عن تشكيلة الحكومة الجديدة، وقد اقترحتُـك لتولي وزارة الثقافة والاعلام، حتى أن الرئيس هز رأسه موافقا، وقبل أن يجلس لإكمال الحديث، رد الدكتور عميمور: صراحة الوزارة لا تهمني، فوقف العقيد بن شريف ولم يجلس لأن الدكتور عميمور أنهى القضية التي جاء من أجلها في 5 ثوان، فبُهت ولم يدري ما يفعل أو حتى ما يقول، وبعد حديث قصير جدا، خرج العقيد بن شريف من مكتب الدكتور عميمور، فتبعه هذا الأخير ورافقه حتى خارج المبنى مما تسبب في حرج كبير لبن شريف، لأن الرئيس بومدين طلب منه أن يستطلع الأمر ويعود له ليخبره بالنتيجة دون أن يشعر الدكتور عميمور، ولم يكن بإمكانه العودة لمكتب الرئيس والدكتور عميمور معه، فركب سيارته وعاد إلى مقر قيادة الدرك ومنه اتصل بالرئيس بومدين، الذي بادره: طلبت منك أن تعرض على عميمور الوزارة وتعود إلى مكتبي لتبلغني بقراره فورا، فرد العقيد بن شريف: إصطحبني الرجل حتى خارج المبنى،أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة

الجزء الثاني
التغيير صعب جدا

"مهما كان إنه بوتفليقة وأنا أعتبره أخي الأصغر، 
أغضب عليه، وأحيانا أقسو عليه، 
لكن لا يمكنني التخلي عنه".
الرئيس هواري بومدين لعبد المجيد علاهم - مارس 1977.

بتنصيبه للمجلس الشعبي الوطني، وتزكية السيد رابح بيطاط رئيسا لذات المجلس، توجهت أنظار القاصي والداني نحو الحكومة التي غادرها 6 وزراء انتخبوا أعضاء في البرلمان، وأصبح من الضروري تعويضهم بعناصر جديدة، ومن ثمة صار تشكيل حكومة جديدة خطوة ضرورية، لاستكمال بناء الصرح المؤسساتي الذي جاء به دستور 1976.
في هذا السياق، بدأ الرئيس بومدين (اعتبارا من 05 مارس 1977)، يفكر في تشكيلة حكومته الجديدة، وكان مدركا تمام الإدراك لصعوبة هذه المهمة التي يجب - حسبه - أن تكون خطوة نحو الأمام، بحيث يزيد من صلابة النظام الحاكم، ولا يتسبب في إحداث أي شرخ في منظومة الحكم، التي كانت تعاني من تنافر كبير بين مركباتها المختلفة، وتوجهاتها المتعددة، فكان مدير تشريفاته السيد عبد المجيد علاهم، أول من فاتحه في هذا الموضوع.
أثناء الحديث الذي دار بين الرجلين (منفردين)، أبلغ الرئيس بومدين مدير تشريفاته، برغبته في تشكيل حكومة جديدة، حدد الـ 15 مارس، موعدا للإعلان عنها (أي بعد 10 أيام اعتبارا من ذلك اليوم)، وبما أنه لم يبق أمامه الكثير من الوقت، أمر علاهم أن يستدعي المقدم قاصدي مرباح مساء نفس ذلك اليوم، ليراجعه في بعض الأسماء التي ينوي تعيينها في مناصب وزارية.
خلال نفس جلسة العمل التي جمعت الرئيس بصندوق أسراره، باح الرئيس بومدين كعادته، لمساعده الوفي عبد المجيد علاهم، بما يختلج في صدره، فقال: إن بعض المسئولين قد أطالوا المكوث في مناصبهم، فلا مناص من تكليفهم بمهام أخرى، كما كشف عن نيته في إعادة هيكلة الحكومة، لتتناسب مع الوضع الجديد، الذي أنتجته حركة تنصيب المؤسسات التي نص عليها الدستور، كما أبدى عدم رضاه عن أداء وزير خارجيته الذي أمضى 14 سنة في المنصب، وأسر لعلاهم أن إعادة هيكلة الحكومة سيبدأها من وزارة الخارجية، بحيث ينوي سحب بعض الملفات من وزير الخارجية، وتكليف الدكتور أحمد طالب بإدارتها، فالمرحلة والرهانات والازمة مع فرنسا وطبول الحرب التي كانت تقرع بين الجزائر والمغرب، تجعله (أي الرئيس بومدين) في حاجة لمن يكون قربه بخطوات فقط، لأن بوتفليقة صوّال جوال، كثير الغياب، لذلك سيكلف الدكتور أحمد طالب بإدارة الشؤون العربية وبملف جبهة البوليساريو، وبالمفاوضات التي ينوي فتحها مع الملك الحسن الثاني لحل القضية الصحراوية. 
كان عبد المجيد علاهم يعرف العلاقة المتينة التي تربط الرئيس بوزير خارجيته، ويعرف الحساسية التي تعكر صفو العلاقة بين الدكتور أحمد طالب وعبد العزيز بوتفليقة، فألمح للرئيس بومدين بأن قرارا كهذا يمكن أن لا يرضي بوتفليقة، فكان رد الرئيس بومدين إن ذلك لن يكون لأن الدكتور أحمد طالب يجمع بين المتناقضين (أي ينتمي للتيار العروبي والفرانكفوني)، تماما مثل بوتفليقة، لكن الدكتور أحمد طالب تجاوز بوتفليقة بحرصه الشديد على إبقاء صورته على المستوى الداخلي والخارجي فوق كل الشبهات، وأضاف أنه في أكثر من مناسبة كلف الدكتور أحمد طالب، بمهام استثنائية خارج صلاحياته كوزير للإعلام، منها تمثيل الجزائر في اجتماعات مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية، التي كان بوتفليقة لا يحضرها إلا نادرا، بالإضافة للكثير من المهام الدبلوماسية التي أجراها الدكتور أحمد طالب منذ 1965 حتى ذلك التاريخ، وطوى الرئيس بومدين هذا الجزء من حديثه بالقول: مهما كان إنه بوتفليقة، وأنا أعتبره أخي الأصغر، أغضب عليه، وأحيانا أقسو عليه، لكن لا يمكنني التخلي عنه، أما هو (أي بوتفليقة) فسيتقبل الأمر لأنه لم يسبق أن عصى لي أمرا. 
كما أعرب الرئيس بومدين لمدير تشريفاته عن امتعاضه الشديد من أمرين:
أولهما: تنامي قوة العقيد أحمد بن شريف الذي قضى حتى ذلك التاريخ 15 سنة على رأس قيادة الدرك، وأحمد دراية الذي أمضى هو أيضا 12 سنة على رأس المديرية العامة للأمن الوطني.
ثانيهما: تفشي الإشاعات حول امبراطورية بلعيد عبد السلام الوزارية، التي أصبحت حسب بعض الأقاويل دولة داخل دولة.
ليخلص إلى وجوب وضع حد لكل ذلك، من خلال تكليف بن شريف ودراية بمهام جديدة، تليق بمقامهما كصديقين مخلصين منذ فترة حرب التحرير، فتغيير موقعهما ضرورة تمليها الظروف، وليس انتقاصا منهما أو شكا فيهما، فقد كانا نعم المساعدين، ولم أرى منهما إلا الإخلاص والتفاني في العمل، بقي لي فقط أن أجد الطريقة المثلى لإزاحتهما من مكانهما، دون أن يتسبب ذلك في أي مشاكل، خصوصا وأنهما على رأس جهازين حساسين. 
تكلم الرئيس بومدين أيضا وبإسهاب، عن الطاقم المحيط به في رئاسة الجمهورية، وكيف أملت الظروف اختيار كل واحد منهم، وتكلم أيضا عن العلاقة الفاترة بين الكاتب العام لرئاسة مجلس الوزراء، ومستشاره الإعلامي، وأشار عَرَضَا إلى الكتلة التي كونها الكاتب العام حول شخصه، كما تكلم عن الخلل الموجود داخل منظومة الحكم، المتمثل خصوصا في صراع بين التيار العروبي ونظيره الفرانكفوني، وأنهى كلامه بالحديث عن دور الحكومة الجديدة، التي اعتبرها حكومة لا غبار على شرعيتها، لأنها ستشكل بعد سلسلة طويلة من الاستفتاءات، وانتخابات (رئاسية وتشريعية)، فكان يرجو أن تكون هذه الحكومة، دفعة جديدة للجزائر على المستويين الداخلي والخارجي. 
شعر عبد المجيد علاهم (حسب قوله) بجسامة ما يخفيه الرئيس بومدين في نفسه، كأنه كان في حاجة ليخرج كل ما في داخله دفعة واحدة، فيتخلص من كل شيء، قصد طيّـه للأبد، ويتمكن من فتح صفحة جديدة، فنبهه علاهم: أنه إن كان لابد من التغيير، فعليه أن يبدأ من رئاسة الجمهورية، فهي رأس السلطة وقلبها النابض، كما أن الانتخابات التشريعية خلقت وضعا جديدا، فأحد المستشارين (السيد عبد القادر بن قدادرة) التحق بالمجلس الشعبي الوطني، ولا يمكنه الجمع بين المنصبين (مستشار لرئيس الجمهورية، ونائب في البرلمان)، كما أن بعض المستشارين لم يخفوا رغبتهم في الالتحاق بالحكومة كوزراء إذا كلفهم الرئيس بذلك، مثلما هو الحال بالنسبة لمحمد يعلى وبلقاسم نابي وحتى أحمد حوحات، أما الدكتور عميمور وهوفمان فلم يظهرا أي رغبة في تولي مناصب وزارية، بل بالعكس تهربا من ذلك صراحة حين حاولتُ جس نبضهما من خلال مزحة، وأضاف عبد المجيد علاهم جملة لم يمررها الرئيس بومدين مرور الكرام حين قال: الدكتور يريد إبعاد الدكتور (قالها بالفرنسية)، ففهم الرئيس بومدين أن الدكتور أمير يريد التخلص من الدكتور عميمور، ولما سأله الرئيس عن السبب؟ رد علاهم: أن عميمور شخصية صلبة، لم يتمكن الكاتب العام من ضمّها لمجموعته، مثلها هو الحال بالنسبة لإدريس الجزائري، كما أن عميمور كان حساسا جدا بالنسبة لاستقلاليته، حيث لا يسمح لأي شخص بتجاوز حدود معينة، أما الدكتور أمير فلا يستطيع أن يهضم بقاء قسم الإعلام خارج سلطته المباشرة، لذلك كان يختلق المشاكل لعميمور كلما سمحت الظروف، أما سليمان هوفمان، فهو عسكري لا يدنو منه حكيم ولا سليط.
بعد ظهر ذلك اليوم، وصل المقدم قاصدي مرباح لرئاسة الجمهورية، وفقا للموعد المحدد مع الرئيس، الذي استقبله فور وصوله، لأن الوقت كان يمر بسرعة، ولم يكن أمام الرئيس بومدين الكثير من الوقت ليضبط القائمة النهائية لحكومته الجديدة. 
حضر عبد المجيد علاهم ذلك الاجتماع الذي افتتحه الرئيس بومدين بالسؤال عن الوضع العام داخليا وخارجيا، ثم عن ردة فعل الشعب نتيجة تزكية السيد رابح بيطاط رئيسا للمجلس الشعبي الوطني، ثم تكلم مرباح عن ملامح إضرابات عمالية بدأت بوادرها تلوح في الأفق، وفي ختام جلسة العمل توجه إليه الرئيس بومدين بسؤال مباشر قائلا: برأيك كيف ستكون الحكومة الجديدة؟ فرد مرباح: كلهم يريدون أن يصبحوا وزراء إلا عميمور وهوفمان. قلّب الرئيس بومدين النظر بين علاهم ومرباح، ثم قال: إنه نفس الاستنتاج الذي قدمه لي علاهم قبل قدومك، المهم عزوف هوفمان مفهوم، ومقبول جدا، بل منطقي للغاية، لأسباب نعرفها جميعا، لكن وزارة الثقافة والإعلام ستصبح شاغرة، بعد أن أكلف الدكتور أحمد طالب بمهمة أخرى، فأنا أفكر في من يخلفه والدكتور عميمور حتى ولو كان يتهرب من هذه المهمة، فهو أحق بوزارة الثقافة والاعلام من غيره، ولا أريد أن يكون قربه مني عائقا، لذلك سأترك له المجال ليختار بنفسه بين البقاء معي أو تولي حقيبة الاعلام.
استدعى الرئيس بومدين العقيد بن شريف ليشرب معه كأسا من الشاي (كان الرئيس بومدين إذا احتاج أحد كبار القادة الذي يحترمهم، يقول له: تعال لنشرب كأس شاي)، بعد قدومه وتبادل عبارات الترحيب بين الرجلين، قال الرئيس بومدين لبن شريف: أحتاج لمساعدتك في أمر يهمني كثيرا، الدكتور أحمد طالب سيترك وزارة الإعلام لأنني أنوي إدخال بعض التعديلات على الحكومة، سأناقشك فيها بعد يوم أو يومين، المهم أريد إسناد هذه الوزارة للدكتور عميمور، فقاطعه العقيد بن شريف قائلا (كان العقيد بن شريف قريبا من الرئيس بومدين ويسمح لنفسه بأشياء لم يكن يفعلها غيره من القادة منها الضحك والمزاح مع الرئيس ومقاطعته عند الكلام المباشر معه): هذا اختيار ممتاز فعلا إنه يستحق هذا المنصب فهو كفؤ جدا، تبسم الرئيس بومدين وقال: خليني نكمل كلامي يا سي احمد (قالها بالعامية)، أعلم أنه كفؤ ويستحق المنصب، ولم أستدعك لاستشارتك في ذلك، لأنني سأعقد معك جلسة عمل بعد يوم أو يومين للحديث في تشكيلة الحكومة الجديدة، إنما طلبتك لأنني أريدك أن تذهب إلى مكتبه وتعرض عليه وزارة الاعلام ولا تخبره أنني خلف هذا الطلب، فلا أريد أن يكون قربه مني عائقا وحاجزا أمام منصب وزاري.
غادر العقيد بن شريف مكتب الرئيس بومدين وتوجه صوب مكتب الدكتور عميمور، ليقول له بعفويته وحماسه المعروف: كنت عند الرئيس، وتحدثنا عن تشكيلة الحكومة الجديدة، وقد اقترحتُـك لتولي وزارة الثقافة والاعلام، حتى أن الرئيس هز رأسه موافقا، وقبل أن يجلس لإكمال الحديث، رد الدكتور عميمور: صراحة الوزارة لا تهمني، فوقف العقيد بن شريف ولم يجلس لأن الدكتور عميمور أنهى القضية التي جاء من أجلها في 5 ثوان، فبُهت ولم يدري ما يفعل أو حتى ما يقول، وبعد حديث قصير جدا، خرج العقيد بن شريف من مكتب الدكتور عميمور، فتبعه هذا الأخير ورافقه حتى خارج المبنى مما تسبب في حرج كبير لبن شريف، لأن الرئيس بومدين طلب منه أن يستطلع الأمر ويعود له ليخبره بالنتيجة دون أن يشعر الدكتور عميمور، ولم يكن بإمكانه العودة لمكتب الرئيس والدكتور عميمور معه، فركب سيارته وعاد إلى مقر قيادة الدرك ومنه اتصل بالرئيس بومدين، الذي بادره: طلبت منك أن تعرض على عميمور الوزارة وتعود إلى مكتبي لتبلغني بقراره فورا، فرد العقيد بن شريف: إصطحبني الرجل حتى خارج المبنى، وودعني عند الباب فلم أستطع العودة لمكتبك حتى لا يشك في الأمر، تماما كما طلبت، وها أنا أقولها لك، لم أكد أكمل كلامي حتى رد رافضا الوزارة، بل لم يمهلني حتى الوقت للجلوس وأنهى القضية في 5 ثوان، فانفجر الرئيس بومدين ضاحكا وحيَّا العقيد بن شريف وقطع الخط.
يتبع. عند الباب فلم أستطع العودة لمكتبك حتى لا يشك في الأمر، تماما كما طلبت، وها أنا أقولها لك، لم أكد أكمل كلامي حتى رد رافضا الوزارة، بل لم يمهلني حتى الوقت للجلوس وأنهى القضية في 5 ثوان، فانفجر الرئيس بومدين ضاحكا وحيَّا العقيد بن شريف وقطع الخط.
يتبع.


الأحد، 9 فبراير 2025

اطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة ..براء عبد الله

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة

الجزء الأول
تغيير لابد منه

كلهم يريدون أن يصبحوا وزراء إلا عميمور وهوفمان.
قاصدي مرباح للرئيس بومدين مارس 1977.

لم تسمح الظروف للرئيس بومدين أن يتولى رئاسة الجزائر بالطريقة التي أرادها لنفسه، فمساره العسكري والسياسي على حد سواء، ارتبط بصراعات واختلافات سياسية دفعته نحو السلطة دفعا، بدون أن يكون له أحيانا أي يد فيها، فمن نائب لقائد الولاية الخامسة، لقائد لنفس الولاية، فرئيس لأركان جيش التحرير الوطني، ثم وزيرا للدفاع ونائبا لرئيس مجلس الوزراء، لينتهي به الأمر رئيسا لمجلس الثورة الذي تشكل إثر انقلاب عسكري أطاح بالرئيس أحمد بن بلة، ليجمع بومدين مع رئاسة هذا المجلس (مجلس الثورة) كلا من رئاسة مجلس الوزراء، ورئاسة الحكومة، ووزارة الدفاع الوطني، فأصبح أقوى رجل في النظام الحاكم بدون منازع.
ومع ذلك، وبالرغم من السلطات الواسعة التي كان يمارسها، من خلال رئاسته للمجالس سابقة الذكر واحتفاظه لنفسه بحقيبة الدفاع الوطني، عانى الرئيس بومدين من عزلة كبيرة على المستوى الداخلي والخارجي، لم تبدأ في التلاشي إلا بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات من بداية حكمه.
فعلى المستوى الخارجي، تحفظت الكثير من دول العالم على التغيير الذي وقع عنوة في هرم السلطة، ومن بين الدول التي تصدعت معها العلاقات لدرجة خطيرة، الجمهورية العربية المتحدة (مصر) فالرئيس جمال عبد الناصر، كانت تجمعه علاقة صداقة قوية جدا بالرئيس بن بلة، ولم يغفر عبد الناصر يوما للرئيس بومدين أنه أطاح بصديقه (بن بلة)، وكان يتعمد السؤال عن أحوال بن بلة، كلما زاره مبعوث من الحكومة الجزائرية.
كانت العلاقات مع الاتحاد السوفيتي بدورها باردة برودة شتاء سيبيريا لنفس السبب، فالقادة السوفييت كانت تجمعهم علاقة صداقة قوية جدا بالرئيس بن بلة، وهم أيضا لم يهضموا ولم يستسيغوا انقلاب بومدين على صديقهم، الذي قلدوه أعلى وسام في الاتحاد السوفيتي (وسام لينين).
على المستوى الداخلي، لم تكن صورة بومدين عند استلامه الحكم بالقوة في 19 جوان 1965 حسنة، بل بالعكس كانت شعبيته ضعيفة، وأغلبية الشعب الجزائري كانت مع بن بلة، ولم يتقبل عامة الشعب، الانقلاب إلا على مضض، وحتى ما صدر من بيانات تأييد من أعضاء الحكومة والحزب، لم تكن في الحقيقة سوى اعتراف بأمر واقع، وقبول لانتقال السلطة من قائد إلى قائد جديد، فالصورة في الداخل والخارج كانت سيئة للغاية، وعاش الرئيس بومدين عزلة قاتلة لمدة سنتين، قبل أن تفتح له حرب الستة أيام المجال ليظهر بمظهر الرئيس الوطني والقومي الذي يضاهي في مواقفه، مواقف الرئيس أحمد بن بلة في دفاعه عن الوطنية والقومية العربية.
رغبة منه في تخطي حاجز اللاشرعية، التي كانت لصيقة بنظامه، أجرى الرئيس بومدين انتخابات بلدية وولائية عام 1969، نتج عنها انتخاب مجالس شعبية محلية، أوكل إليها مهمة تسيير الشؤون المباشرة والعامة للشعب الجزائري، كما أصدر قبل الانتخابات قانونا للبلدية والولاية، تمت مناقشته وإثراؤه على مستوى القاعدة النضالية لحزب جبهة التحرير الوطني، الذي حوله الرئيس بومدين لمجرد جهاز إداري وسياسي، مهمته تعبئة الجماهير حول سياسته.  ثم قاد الرئيس بومدين بنفسه، سلسلة من قرارات تأميم، استعاد بها جزءا كبير جدا من الثروات الباطنية الوطنية، لتبدأ شعبيته في الارتفاع على المستوى الداخلي والخارجي، كما نشط على المستوى الدولي، من خلال منظمة دول عدم الانحياز، وشارك في تأسيس منظمة الأوبيب، وتقرب من أصدقاء بن بلة مثل كاسترو وتيتو، ليصل إلى قمة مجده عام 1974، حين شارك في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقام بزيارة مجاملة للرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في البيت الأبيض.
رغم تحسن صورة الرئيس بومدين داخليا وخارجيا، كان لا يزال يعاني من نفس العائق الذي رافقه منذ 1965، حيث لم يكن رئيسا منتخبا، تولى السلطة نتيجة لانتخابات وتزكية شعبية (حتى ولو صورية)، خصوصا وأن مجلس الثورة، الذي كان الرئيس بومدين يمارس سلطات واسعة بصفته رئيسا له، تفكك واضمحل، وبحلول عام 1975، لم يبق منه إلا الاسم، فأغلبية أعضائه إما استقالوا على شاكلة (محمدي السعيد، علي منجلي، يوسف الخطيب، محمد الصالح بوبنيدر) أو تركوا البلاد والتحقوا بالمعارضة في الخارج، مثل (أحمد محساس، بشير بومعزة، الطاهر الزبيري، القائد أحمد والشريف بلقاسم)، ولم يبق منه إلا 8 أعضاء عند وفاة الرئيس بومدين.
ولتجاوز كل تلك المشاكل، وإضفاء شرعية حقيقية تمكنه من تسيير البلاد بصفة قانونية لا غبار عليها، انطلق الرئيس بومدين ابتداء من عام 1976 في بناء مؤسسات الدولة، فشكل لجنة قدمت مشروع ميثاق وطني، تمت المصادقة عليه عن طريق استفتاء شعبي، تعمد الرئيس بومدين أن يكون في 19 جوان 1976، كرسالة واضحة المعالم، مفادها أن الشرعية بدأت في 19 جوان 1965، وأن ما حدث تصحيح لمسار ثورة، وليس انقلابا. ثم قدم مشروع دستور للإثراء على مستوى القاعدة النضالية للحزب، وتمت المصادقة على الصيغة النهائية للدستور، من خلال استفتاء شعبي ثان جرى في نفس السنة بتاريخ 19 نوفمبر 1976، ثم قدم نفسه كمرشح لرئاسة الجمهورية وتمت تزكيته رئيسا للجمهورية بتاريخ 10 ديسمبر 1976، ليتمكن الرئيس بومدين من انتزاع الشرعية، التي كان يبحث عنها منذ 1965 حتى ذلك اليوم.
بعد تزكيته رئيسا للجمهورية، بقي أمام الرئيس بومدين ثلاث خطوات فقط، لينهي بناء السرح المؤسساتي، الذي يُمكنه من الاتجاه بالجزائر نحو الأمام، ويصبح أمامه مؤسسات دستورية شرعية، يمكن التعامل معها في إطار قانوني، الحكم فيها للدستور الذي حدد بدقة متناهية، صلاحيات كل مؤسسة من مؤسسات الدولة، فأخذ الرئيس بومدين يفكر بعمق في الثلاث خطوات لينتهي به الأمر على ترتيبها كما يلي:
1- انتخاب مجلس شعبي وطني لاستكمال تشكيلة المؤسسات الدستورية.
2- تشكيل حكومة جديدة كنتيجة طبيعية للانتخابات البرلمانية.
3- إعادة ترتيب قيادات الحزب، للتوجه نحو مؤتمر ينهي فيه جميع المشاكل التي كانت تعاني منها منظومة الحكم ككل.
لم تكن مهمة التحضير لانتخابات تشريعية قضية سهلة، فالبرلمان حُل عام 1965 مباشرة بعد حركة 19 جوان، ليتولى الرئيس بومدين السلطة تشريعية بنفسه من خلال مجلس الثورة، فكان يُشَرّع من خلال أوامر تدرس على مستوى لجان مختصة، ويوقعها بعد مراجعتها بنفسه مع الوزير المكلف بالقطاع، فمسألة التشريع غاية في الحساسية، لذلك عمل الرئيس بومدين على أن يختار "نخبة النخبة" الوطنية، ليسلمهم مهمة دراسة القوانين والمصادقة عليها.
تجسيدا لما كان يدور في فكره، شكل الرئيس بومدين في بداية شهر يناير 1977، على مستوى رئاسة الجمهورية خلية عمل مصغرة ضمت كلا من:
1- مدير التشريفات عبد المجيد علاهم.
2- المدير المركزي لأمن الجيش المقدم قاصدي مرباح
كلفهما بإعداد قائمة للإطارات التي يمكن ترشيحها لتلتحق بالمجلس الشعبي الوطني، مع إبقاء ذلك الأمر غاية في السرية، ومن خلال لقاءاته المتكررة مع علاهم ومرباح جاءت فكرة تطعيم المجلس بعناصر من الحكومة تتولى مهمة رئاسة اللجان، نظرا لما لديها من خبرة في مجال التشريع، لتكون قيمة مضافة لبرلمان ينتظر منه الرئيس بومدين أن يكون قوة سياسية تساعده في تسيير شؤون البلاد، ولا تكون عائقا أمام العمل الحكومي، فالصلة بين الجهاز التنفيذي والتشريعي يجب أن يكون تكاملية وليس تنافسية.
ضبط الرئيس بومدين سرا قائمة من 5 وزراء سيلتحقون بالمجلس الشعبي الوطني، ليكونوا إضافة إيجابية توكل لها مهمة إضفاء عمل نيابي فعال ومحترف للبرلمان المنتخب ويتعلق الأمر بكل من:
1- وزير التجارة العياشي ياكر.
2- وزير الأشغال العمومية والبناء عبد القادر زيبق.
3- وزير المجاهدين محمود ڨنز.
4- وزير الشباب والرياضة عبد الله فاضل.
5- وزير المالية عبد المالك تمام.
بقي للرئيس بومدين أن يختار بنفسه، شخصية سياسية تتولى مهمة رئاسة المجلس الشعبي الوطني، خصوصا وأن رئيس هذا المجلس، سيكون، دستوريا، الرجل الثاني في الدولة بعد رئيس الجمهورية، فقضية بهذه الأهمية لا يمكن تركها للصدفة، خصوصا وأن هذا المنصب كان محل أطماع عدد كبير من الإطارات، وهده الأطماع قد تتسبب في حدوث خلافات وشروخ قد تقضي على تماسك المجلس منذ أيامه الأولى، بينما الأوضاع السياسية المحيطة بالجزائر، كانت تتطلب التلاحم على مستوى قيادة الحزب والدولة، لذلك قرر الرئيس بومدين أن يحدد بنفسه من هو أصلح إطار سامي يمكنه تولي مهمة تسيير السلطة التشريعية، ومهمة وضع ملامح لحياة برلمانية سليمة، يكون فيها البرلمان، سلطة مكملة ومساهمة في بناء الجزائر ودفعها نحو الأمام.
فكر الرئيس بومدين لعدة أيام في من يمكنه شغل هذا المنصب الحساس، ويكون شخصية سياسية لها وزن قوي جدا، فاستشار مدير تشريفاته عبد المجيد علاهم في الأمر، لكن علاهم امتنع عن تقديم أي اقتراح، واكتفى بالقول إن منصب بهذه الأهمية، يجب التفكير بجدية فيمن سيسند له. أما قاصدي مرباح فقال إن عامل السن يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، فكلما كان سن رئيس البرلمان متقدما كان أفضل، لأن السلطة التشريعية سلطة تفكير وتخمين وتمييز.
في الأخير، جمع الرئيس بومدين أمره، واستدعى وزير الدولة وزير النقل رابح بيطاط، واقترح عليه ترك الحكومة لتولي منصب رئيس المجلس الشعبي الوطني، وحثه على قبول المنصب، لأن رئيس البرلمان سيكون ثاني أكبر مسئول في الدولة، وبصفته واحدا من الستة الذين فجروا ثورة التحرير، سيكون ذلك نوعا من الربط بين ثورة التحرير، والجزائر الحديثة التي كان الرئيس بومدين يسعى لبنائها، ولم يخف على رابح بيطاط أنه فكر في القضية لمدة طويلة، ولم يجد أمامه من هو أصلح لهذا المنصب منه.
 سكت رابح بيطاط قليلا ثم فاجئ الرئيس بومدين قائلا: وماذا لو سقطت في الانتخابات؟؟؟ فكان رد الرئيس بومدين: هل أنت تمزحḷḷḷ واحد من الستة الذين فجروا ثورة التحرير، وواحد من الستة الذين كانوا لهم شرف تأسيس جبهة التحرير الوطني، لا يسقط في الانتخابات، تقدم للانتخابات أينما تريد وسترى أن الشعب سينتخبك.
بعد تفكير لدقائق فقط، قبل رابح بيطاط عرض الرئيس بومدين، شريطة أن قدم نفسه مرشحا خارج ولاية مسقط رأسه، ولإضفاء مزيد من الشرعية والديمقراطية، اقترح ترشيح ثلاثة مترشحين لكل مقعد في البرلمان، حتى يكون أمام المنتخبين فرصة للاختيار، فقبل الرئيس بومدين ذلك في حينه.
حدد الرئيس بومدين الـ 25 فبراير 1977، موعدا لإجراء الانتخابات التشريعية، وأصدر تعليمات صارمة بضرورة ترك الشعب يختار بنفسه، نوابه في المجلس الشعبي الوطني، من بين المرشحين الثلاثة الذي سيقدمهم الحزب.
جرت الانتخابات التشريعية في موعدها المحدد، وبلغت نسبة المشاركة فيها 78.50 بالمئة، نتج عنها انتخاب مجلس شعبي وطني، متكون من 262 عضوا، من بينهم ستة وزراء وثمانية نساء.
في الـ 03 مارس 1977، وبحضور الرئيس هواري بومدين وأعضاء مجلس الثورة والحكومة، انعقدت الجلسة الأولى للمجلس الشعبي الوطني، تحت رئاسة أكبر النواب سنا السيد يازوران محمد، الذي بعد إلقاء كلمة الافتتاح أحال الكلمة للنائب أحمد مطاطلة الذي تلى لائحة ترشيح السيد رابح بيطاط لرئاسة المجلس الشعبي الوطني، وتمت التزكية بتصفيقات حارة رجت لها أركان قاعة جلسات المجلس، ليزكى رابح بيطاط رئيسا للمجلس الشعبي الوطني بالإجماع. 
بخروج ستة وزراء من التشكيلة الحكومية، أصبح واضحا أن تعديلا وزاريا سيكون الخطوة المقبلة للرئيس بومدين، الذي استدعى في اليوم الموالي لتنصيب المجلس الشعبي الوطني وانتخاب رابح بيطاط رئيسا له، المقدم قاصدي مرباح وحضر هذا اللقاء مدير التشريفات عبد المجيد علاهم.
بدأ الرئيس بومدين الجلسة بطرح سؤال: برأيكم كيف ستكون الحكومة الجديدة؟؟ فرد عليه قاصدي مرباح بدون تحفظ: كلهم يريدون أن يصبحوا وزراء إلا عميمور وهوفمان.

يتبع
 
 الملاحق :

لائحة ترشيح السيد رابح بيطاط لرئاسة المجلس الشعبي الوطني.

الأخ رئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية والوفد المرافق له وجميع الحاضرين هنا في القاعة.
وفقا للمادة 142 من الدستور فان المجلس الشعبي الوطني ينتخب رئيسه ونظرا لأهمية رئاسة المجلس الشعبي الوطني وللمسؤولية التسييرية للمجلس ومهامه التشريعية التي تتطلب الكفاءة والحزم والسهر على اعطاء أعمال المجلس فعاليتها الثورية ولكي يضطلع المجلس بمهامه الاساسية التي منها كما نص الدستور تحقيق الاشتراكية وتطبيق مبادئ الميثاق الوطني فان اختيار رئيس المجلس يشكل ضرورة من ضرورات الالتزام باستمرارية الثورة والتصحيح الثوري للتاسع عشر جوان 1965 الذى يعد المجلس من احدى منجزاته الكبرى والذي يؤكد على بناء دولة لا تزول بزوال الرجال، وتقديرا للدور الهام المنوط برئيس المجلس في اقامة دعائم المؤسسة التشريعية في البلاد فان الاخوة النواب الآتي ذكرهم :
يزوران محمد (المدعو سي السعيد) ، حموش حسين السعيد جودی ،عمر مصلى فضيلة أخموخ حاج موسى بعلوج محمد الصغير، قصرى أحمد نواورية عبد الله سويسى عبد الكریم نمیش جلول بختی، لزرق حسن منتوری بشیر، لاليام مصطفى، أو شارف محمد بلعياط عبد الرحمن، أو شريف ميلود، شرشالی موسی، زیتونی مسعودی جلول ملائكة هلايلي محمد الصغير العايدي عبد الله مغازی عمر بزيت محمد ترکی عبد الله علیان احمیمی بن اعقيلة محمد عمر مطاطلة أحمد .
يرشحون لرئاسة المجلس الشعبي الوطني للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية واحدا من جنود ثورة نوفمبر الخالدة ومناضلا في صفوف الحركة الوطنية منذ شبابه والذي كان من الرعيل الاول الذي تحمل المسؤولية في الكفاح المسلح البليدة كما كان عضوا مؤسسا للجنة الثورية للوحدة والعمل من أجل التحرير الوطني اذ كان على رأس الولاية الرابعة سابقا وقاد يوم أول نوفمبر سنة 1954 الهجوم المسلح على ثكنة وعضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية كما تقلد مهاما في الحكومة منذ الاستقلال هذا المناضل الذي تعرض للحكم عليه بالأشغال الشاقة من طرف المحاكم الاستعمارية وتحمل عذاب السجن حتى الاستقلال هو الذي يشغل حاليا منصب وزير الدولة المكلف بالنقل وهو الاخ رابح بيطاط .
شكرا على حسن انتباهكم.

عرائس الحروب ..

عرائس الحرب أو "War Brides : لماذا تتخلى النساء عن شركائهن بسرعة ويتكيفن مع الجدد بسهولة؟ الحقيقة المدهشة وراء التكيف الأنثوي!" عر...