أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة
الجزء الثاني
التغيير صعب جدا
"مهما كان إنه بوتفليقة وأنا أعتبره أخي الأصغر،
أغضب عليه، وأحيانا أقسو عليه،
لكن لا يمكنني التخلي عنه".
الرئيس هواري بومدين لعبد المجيد علاهم - مارس 1977.
بتنصيبه للمجلس الشعبي الوطني، وتزكية السيد رابح بيطاط رئيسا لذات المجلس، توجهت أنظار القاصي والداني نحو الحكومة التي غادرها 6 وزراء انتخبوا أعضاء في البرلمان، وأصبح من الضروري تعويضهم بعناصر جديدة، ومن ثمة صار تشكيل حكومة جديدة خطوة ضرورية، لاستكمال بناء الصرح المؤسساتي الذي جاء به دستور 1976.
في هذا السياق، بدأ الرئيس بومدين (اعتبارا من 05 مارس 1977)، يفكر في تشكيلة حكومته الجديدة، وكان مدركا تمام الإدراك لصعوبة هذه المهمة التي يجب - حسبه - أن تكون خطوة نحو الأمام، بحيث يزيد من صلابة النظام الحاكم، ولا يتسبب في إحداث أي شرخ في منظومة الحكم، التي كانت تعاني من تنافر كبير بين مركباتها المختلفة، وتوجهاتها المتعددة، فكان مدير تشريفاته السيد عبد المجيد علاهم، أول من فاتحه في هذا الموضوع.
أثناء الحديث الذي دار بين الرجلين (منفردين)، أبلغ الرئيس بومدين مدير تشريفاته، برغبته في تشكيل حكومة جديدة، حدد الـ 15 مارس، موعدا للإعلان عنها (أي بعد 10 أيام اعتبارا من ذلك اليوم)، وبما أنه لم يبق أمامه الكثير من الوقت، أمر علاهم أن يستدعي المقدم قاصدي مرباح مساء نفس ذلك اليوم، ليراجعه في بعض الأسماء التي ينوي تعيينها في مناصب وزارية.
خلال نفس جلسة العمل التي جمعت الرئيس بصندوق أسراره، باح الرئيس بومدين كعادته، لمساعده الوفي عبد المجيد علاهم، بما يختلج في صدره، فقال: إن بعض المسئولين قد أطالوا المكوث في مناصبهم، فلا مناص من تكليفهم بمهام أخرى، كما كشف عن نيته في إعادة هيكلة الحكومة، لتتناسب مع الوضع الجديد، الذي أنتجته حركة تنصيب المؤسسات التي نص عليها الدستور، كما أبدى عدم رضاه عن أداء وزير خارجيته الذي أمضى 14 سنة في المنصب، وأسر لعلاهم أن إعادة هيكلة الحكومة سيبدأها من وزارة الخارجية، بحيث ينوي سحب بعض الملفات من وزير الخارجية، وتكليف الدكتور أحمد طالب بإدارتها، فالمرحلة والرهانات والازمة مع فرنسا وطبول الحرب التي كانت تقرع بين الجزائر والمغرب، تجعله (أي الرئيس بومدين) في حاجة لمن يكون قربه بخطوات فقط، لأن بوتفليقة صوّال جوال، كثير الغياب، لذلك سيكلف الدكتور أحمد طالب بإدارة الشؤون العربية وبملف جبهة البوليساريو، وبالمفاوضات التي ينوي فتحها مع الملك الحسن الثاني لحل القضية الصحراوية.
كان عبد المجيد علاهم يعرف العلاقة المتينة التي تربط الرئيس بوزير خارجيته، ويعرف الحساسية التي تعكر صفو العلاقة بين الدكتور أحمد طالب وعبد العزيز بوتفليقة، فألمح للرئيس بومدين بأن قرارا كهذا يمكن أن لا يرضي بوتفليقة، فكان رد الرئيس بومدين إن ذلك لن يكون لأن الدكتور أحمد طالب يجمع بين المتناقضين (أي ينتمي للتيار العروبي والفرانكفوني)، تماما مثل بوتفليقة، لكن الدكتور أحمد طالب تجاوز بوتفليقة بحرصه الشديد على إبقاء صورته على المستوى الداخلي والخارجي فوق كل الشبهات، وأضاف أنه في أكثر من مناسبة كلف الدكتور أحمد طالب، بمهام استثنائية خارج صلاحياته كوزير للإعلام، منها تمثيل الجزائر في اجتماعات مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية، التي كان بوتفليقة لا يحضرها إلا نادرا، بالإضافة للكثير من المهام الدبلوماسية التي أجراها الدكتور أحمد طالب منذ 1965 حتى ذلك التاريخ، وطوى الرئيس بومدين هذا الجزء من حديثه بالقول: مهما كان إنه بوتفليقة، وأنا أعتبره أخي الأصغر، أغضب عليه، وأحيانا أقسو عليه، لكن لا يمكنني التخلي عنه، أما هو (أي بوتفليقة) فسيتقبل الأمر لأنه لم يسبق أن عصى لي أمرا.
كما أعرب الرئيس بومدين لمدير تشريفاته عن امتعاضه الشديد من أمرين:
أولهما: تنامي قوة العقيد أحمد بن شريف الذي قضى حتى ذلك التاريخ 15 سنة على رأس قيادة الدرك، وأحمد دراية الذي أمضى هو أيضا 12 سنة على رأس المديرية العامة للأمن الوطني.
ثانيهما: تفشي الإشاعات حول امبراطورية بلعيد عبد السلام الوزارية، التي أصبحت حسب بعض الأقاويل دولة داخل دولة.
ليخلص إلى وجوب وضع حد لكل ذلك، من خلال تكليف بن شريف ودراية بمهام جديدة، تليق بمقامهما كصديقين مخلصين منذ فترة حرب التحرير، فتغيير موقعهما ضرورة تمليها الظروف، وليس انتقاصا منهما أو شكا فيهما، فقد كانا نعم المساعدين، ولم أرى منهما إلا الإخلاص والتفاني في العمل، بقي لي فقط أن أجد الطريقة المثلى لإزاحتهما من مكانهما، دون أن يتسبب ذلك في أي مشاكل، خصوصا وأنهما على رأس جهازين حساسين.
تكلم الرئيس بومدين أيضا وبإسهاب، عن الطاقم المحيط به في رئاسة الجمهورية، وكيف أملت الظروف اختيار كل واحد منهم، وتكلم أيضا عن العلاقة الفاترة بين الكاتب العام لرئاسة مجلس الوزراء، ومستشاره الإعلامي، وأشار عَرَضَا إلى الكتلة التي كونها الكاتب العام حول شخصه، كما تكلم عن الخلل الموجود داخل منظومة الحكم، المتمثل خصوصا في صراع بين التيار العروبي ونظيره الفرانكفوني، وأنهى كلامه بالحديث عن دور الحكومة الجديدة، التي اعتبرها حكومة لا غبار على شرعيتها، لأنها ستشكل بعد سلسلة طويلة من الاستفتاءات، وانتخابات (رئاسية وتشريعية)، فكان يرجو أن تكون هذه الحكومة، دفعة جديدة للجزائر على المستويين الداخلي والخارجي.
شعر عبد المجيد علاهم (حسب قوله) بجسامة ما يخفيه الرئيس بومدين في نفسه، كأنه كان في حاجة ليخرج كل ما في داخله دفعة واحدة، فيتخلص من كل شيء، قصد طيّـه للأبد، ويتمكن من فتح صفحة جديدة، فنبهه علاهم: أنه إن كان لابد من التغيير، فعليه أن يبدأ من رئاسة الجمهورية، فهي رأس السلطة وقلبها النابض، كما أن الانتخابات التشريعية خلقت وضعا جديدا، فأحد المستشارين (السيد عبد القادر بن قدادرة) التحق بالمجلس الشعبي الوطني، ولا يمكنه الجمع بين المنصبين (مستشار لرئيس الجمهورية، ونائب في البرلمان)، كما أن بعض المستشارين لم يخفوا رغبتهم في الالتحاق بالحكومة كوزراء إذا كلفهم الرئيس بذلك، مثلما هو الحال بالنسبة لمحمد يعلى وبلقاسم نابي وحتى أحمد حوحات، أما الدكتور عميمور وهوفمان فلم يظهرا أي رغبة في تولي مناصب وزارية، بل بالعكس تهربا من ذلك صراحة حين حاولتُ جس نبضهما من خلال مزحة، وأضاف عبد المجيد علاهم جملة لم يمررها الرئيس بومدين مرور الكرام حين قال: الدكتور يريد إبعاد الدكتور (قالها بالفرنسية)، ففهم الرئيس بومدين أن الدكتور أمير يريد التخلص من الدكتور عميمور، ولما سأله الرئيس عن السبب؟ رد علاهم: أن عميمور شخصية صلبة، لم يتمكن الكاتب العام من ضمّها لمجموعته، مثلها هو الحال بالنسبة لإدريس الجزائري، كما أن عميمور كان حساسا جدا بالنسبة لاستقلاليته، حيث لا يسمح لأي شخص بتجاوز حدود معينة، أما الدكتور أمير فلا يستطيع أن يهضم بقاء قسم الإعلام خارج سلطته المباشرة، لذلك كان يختلق المشاكل لعميمور كلما سمحت الظروف، أما سليمان هوفمان، فهو عسكري لا يدنو منه حكيم ولا سليط.
بعد ظهر ذلك اليوم، وصل المقدم قاصدي مرباح لرئاسة الجمهورية، وفقا للموعد المحدد مع الرئيس، الذي استقبله فور وصوله، لأن الوقت كان يمر بسرعة، ولم يكن أمام الرئيس بومدين الكثير من الوقت ليضبط القائمة النهائية لحكومته الجديدة.
حضر عبد المجيد علاهم ذلك الاجتماع الذي افتتحه الرئيس بومدين بالسؤال عن الوضع العام داخليا وخارجيا، ثم عن ردة فعل الشعب نتيجة تزكية السيد رابح بيطاط رئيسا للمجلس الشعبي الوطني، ثم تكلم مرباح عن ملامح إضرابات عمالية بدأت بوادرها تلوح في الأفق، وفي ختام جلسة العمل توجه إليه الرئيس بومدين بسؤال مباشر قائلا: برأيك كيف ستكون الحكومة الجديدة؟ فرد مرباح: كلهم يريدون أن يصبحوا وزراء إلا عميمور وهوفمان. قلّب الرئيس بومدين النظر بين علاهم ومرباح، ثم قال: إنه نفس الاستنتاج الذي قدمه لي علاهم قبل قدومك، المهم عزوف هوفمان مفهوم، ومقبول جدا، بل منطقي للغاية، لأسباب نعرفها جميعا، لكن وزارة الثقافة والإعلام ستصبح شاغرة، بعد أن أكلف الدكتور أحمد طالب بمهمة أخرى، فأنا أفكر في من يخلفه والدكتور عميمور حتى ولو كان يتهرب من هذه المهمة، فهو أحق بوزارة الثقافة والاعلام من غيره، ولا أريد أن يكون قربه مني عائقا، لذلك سأترك له المجال ليختار بنفسه بين البقاء معي أو تولي حقيبة الاعلام.
استدعى الرئيس بومدين العقيد بن شريف ليشرب معه كأسا من الشاي (كان الرئيس بومدين إذا احتاج أحد كبار القادة الذي يحترمهم، يقول له: تعال لنشرب كأس شاي)، بعد قدومه وتبادل عبارات الترحيب بين الرجلين، قال الرئيس بومدين لبن شريف: أحتاج لمساعدتك في أمر يهمني كثيرا، الدكتور أحمد طالب سيترك وزارة الإعلام لأنني أنوي إدخال بعض التعديلات على الحكومة، سأناقشك فيها بعد يوم أو يومين، المهم أريد إسناد هذه الوزارة للدكتور عميمور، فقاطعه العقيد بن شريف قائلا (كان العقيد بن شريف قريبا من الرئيس بومدين ويسمح لنفسه بأشياء لم يكن يفعلها غيره من القادة منها الضحك والمزاح مع الرئيس ومقاطعته عند الكلام المباشر معه): هذا اختيار ممتاز فعلا إنه يستحق هذا المنصب فهو كفؤ جدا، تبسم الرئيس بومدين وقال: خليني نكمل كلامي يا سي احمد (قالها بالعامية)، أعلم أنه كفؤ ويستحق المنصب، ولم أستدعك لاستشارتك في ذلك، لأنني سأعقد معك جلسة عمل بعد يوم أو يومين للحديث في تشكيلة الحكومة الجديدة، إنما طلبتك لأنني أريدك أن تذهب إلى مكتبه وتعرض عليه وزارة الاعلام ولا تخبره أنني خلف هذا الطلب، فلا أريد أن يكون قربه مني عائقا وحاجزا أمام منصب وزاري.
غادر العقيد بن شريف مكتب الرئيس بومدين وتوجه صوب مكتب الدكتور عميمور، ليقول له بعفويته وحماسه المعروف: كنت عند الرئيس، وتحدثنا عن تشكيلة الحكومة الجديدة، وقد اقترحتُـك لتولي وزارة الثقافة والاعلام، حتى أن الرئيس هز رأسه موافقا، وقبل أن يجلس لإكمال الحديث، رد الدكتور عميمور: صراحة الوزارة لا تهمني، فوقف العقيد بن شريف ولم يجلس لأن الدكتور عميمور أنهى القضية التي جاء من أجلها في 5 ثوان، فبُهت ولم يدري ما يفعل أو حتى ما يقول، وبعد حديث قصير جدا، خرج العقيد بن شريف من مكتب الدكتور عميمور، فتبعه هذا الأخير ورافقه حتى خارج المبنى مما تسبب في حرج كبير لبن شريف، لأن الرئيس بومدين طلب منه أن يستطلع الأمر ويعود له ليخبره بالنتيجة دون أن يشعر الدكتور عميمور، ولم يكن بإمكانه العودة لمكتب الرئيس والدكتور عميمور معه، فركب سيارته وعاد إلى مقر قيادة الدرك ومنه اتصل بالرئيس بومدين، الذي بادره: طلبت منك أن تعرض على عميمور الوزارة وتعود إلى مكتبي لتبلغني بقراره فورا، فرد العقيد بن شريف: إصطحبني الرجل حتى خارج المبنى،أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة
الجزء الثاني
التغيير صعب جدا
"مهما كان إنه بوتفليقة وأنا أعتبره أخي الأصغر،
أغضب عليه، وأحيانا أقسو عليه،
لكن لا يمكنني التخلي عنه".
الرئيس هواري بومدين لعبد المجيد علاهم - مارس 1977.
بتنصيبه للمجلس الشعبي الوطني، وتزكية السيد رابح بيطاط رئيسا لذات المجلس، توجهت أنظار القاصي والداني نحو الحكومة التي غادرها 6 وزراء انتخبوا أعضاء في البرلمان، وأصبح من الضروري تعويضهم بعناصر جديدة، ومن ثمة صار تشكيل حكومة جديدة خطوة ضرورية، لاستكمال بناء الصرح المؤسساتي الذي جاء به دستور 1976.
في هذا السياق، بدأ الرئيس بومدين (اعتبارا من 05 مارس 1977)، يفكر في تشكيلة حكومته الجديدة، وكان مدركا تمام الإدراك لصعوبة هذه المهمة التي يجب - حسبه - أن تكون خطوة نحو الأمام، بحيث يزيد من صلابة النظام الحاكم، ولا يتسبب في إحداث أي شرخ في منظومة الحكم، التي كانت تعاني من تنافر كبير بين مركباتها المختلفة، وتوجهاتها المتعددة، فكان مدير تشريفاته السيد عبد المجيد علاهم، أول من فاتحه في هذا الموضوع.
أثناء الحديث الذي دار بين الرجلين (منفردين)، أبلغ الرئيس بومدين مدير تشريفاته، برغبته في تشكيل حكومة جديدة، حدد الـ 15 مارس، موعدا للإعلان عنها (أي بعد 10 أيام اعتبارا من ذلك اليوم)، وبما أنه لم يبق أمامه الكثير من الوقت، أمر علاهم أن يستدعي المقدم قاصدي مرباح مساء نفس ذلك اليوم، ليراجعه في بعض الأسماء التي ينوي تعيينها في مناصب وزارية.
خلال نفس جلسة العمل التي جمعت الرئيس بصندوق أسراره، باح الرئيس بومدين كعادته، لمساعده الوفي عبد المجيد علاهم، بما يختلج في صدره، فقال: إن بعض المسئولين قد أطالوا المكوث في مناصبهم، فلا مناص من تكليفهم بمهام أخرى، كما كشف عن نيته في إعادة هيكلة الحكومة، لتتناسب مع الوضع الجديد، الذي أنتجته حركة تنصيب المؤسسات التي نص عليها الدستور، كما أبدى عدم رضاه عن أداء وزير خارجيته الذي أمضى 14 سنة في المنصب، وأسر لعلاهم أن إعادة هيكلة الحكومة سيبدأها من وزارة الخارجية، بحيث ينوي سحب بعض الملفات من وزير الخارجية، وتكليف الدكتور أحمد طالب بإدارتها، فالمرحلة والرهانات والازمة مع فرنسا وطبول الحرب التي كانت تقرع بين الجزائر والمغرب، تجعله (أي الرئيس بومدين) في حاجة لمن يكون قربه بخطوات فقط، لأن بوتفليقة صوّال جوال، كثير الغياب، لذلك سيكلف الدكتور أحمد طالب بإدارة الشؤون العربية وبملف جبهة البوليساريو، وبالمفاوضات التي ينوي فتحها مع الملك الحسن الثاني لحل القضية الصحراوية.
كان عبد المجيد علاهم يعرف العلاقة المتينة التي تربط الرئيس بوزير خارجيته، ويعرف الحساسية التي تعكر صفو العلاقة بين الدكتور أحمد طالب وعبد العزيز بوتفليقة، فألمح للرئيس بومدين بأن قرارا كهذا يمكن أن لا يرضي بوتفليقة، فكان رد الرئيس بومدين إن ذلك لن يكون لأن الدكتور أحمد طالب يجمع بين المتناقضين (أي ينتمي للتيار العروبي والفرانكفوني)، تماما مثل بوتفليقة، لكن الدكتور أحمد طالب تجاوز بوتفليقة بحرصه الشديد على إبقاء صورته على المستوى الداخلي والخارجي فوق كل الشبهات، وأضاف أنه في أكثر من مناسبة كلف الدكتور أحمد طالب، بمهام استثنائية خارج صلاحياته كوزير للإعلام، منها تمثيل الجزائر في اجتماعات مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية، التي كان بوتفليقة لا يحضرها إلا نادرا، بالإضافة للكثير من المهام الدبلوماسية التي أجراها الدكتور أحمد طالب منذ 1965 حتى ذلك التاريخ، وطوى الرئيس بومدين هذا الجزء من حديثه بالقول: مهما كان إنه بوتفليقة، وأنا أعتبره أخي الأصغر، أغضب عليه، وأحيانا أقسو عليه، لكن لا يمكنني التخلي عنه، أما هو (أي بوتفليقة) فسيتقبل الأمر لأنه لم يسبق أن عصى لي أمرا.
كما أعرب الرئيس بومدين لمدير تشريفاته عن امتعاضه الشديد من أمرين:
أولهما: تنامي قوة العقيد أحمد بن شريف الذي قضى حتى ذلك التاريخ 15 سنة على رأس قيادة الدرك، وأحمد دراية الذي أمضى هو أيضا 12 سنة على رأس المديرية العامة للأمن الوطني.
ثانيهما: تفشي الإشاعات حول امبراطورية بلعيد عبد السلام الوزارية، التي أصبحت حسب بعض الأقاويل دولة داخل دولة.
ليخلص إلى وجوب وضع حد لكل ذلك، من خلال تكليف بن شريف ودراية بمهام جديدة، تليق بمقامهما كصديقين مخلصين منذ فترة حرب التحرير، فتغيير موقعهما ضرورة تمليها الظروف، وليس انتقاصا منهما أو شكا فيهما، فقد كانا نعم المساعدين، ولم أرى منهما إلا الإخلاص والتفاني في العمل، بقي لي فقط أن أجد الطريقة المثلى لإزاحتهما من مكانهما، دون أن يتسبب ذلك في أي مشاكل، خصوصا وأنهما على رأس جهازين حساسين.
تكلم الرئيس بومدين أيضا وبإسهاب، عن الطاقم المحيط به في رئاسة الجمهورية، وكيف أملت الظروف اختيار كل واحد منهم، وتكلم أيضا عن العلاقة الفاترة بين الكاتب العام لرئاسة مجلس الوزراء، ومستشاره الإعلامي، وأشار عَرَضَا إلى الكتلة التي كونها الكاتب العام حول شخصه، كما تكلم عن الخلل الموجود داخل منظومة الحكم، المتمثل خصوصا في صراع بين التيار العروبي ونظيره الفرانكفوني، وأنهى كلامه بالحديث عن دور الحكومة الجديدة، التي اعتبرها حكومة لا غبار على شرعيتها، لأنها ستشكل بعد سلسلة طويلة من الاستفتاءات، وانتخابات (رئاسية وتشريعية)، فكان يرجو أن تكون هذه الحكومة، دفعة جديدة للجزائر على المستويين الداخلي والخارجي.
شعر عبد المجيد علاهم (حسب قوله) بجسامة ما يخفيه الرئيس بومدين في نفسه، كأنه كان في حاجة ليخرج كل ما في داخله دفعة واحدة، فيتخلص من كل شيء، قصد طيّـه للأبد، ويتمكن من فتح صفحة جديدة، فنبهه علاهم: أنه إن كان لابد من التغيير، فعليه أن يبدأ من رئاسة الجمهورية، فهي رأس السلطة وقلبها النابض، كما أن الانتخابات التشريعية خلقت وضعا جديدا، فأحد المستشارين (السيد عبد القادر بن قدادرة) التحق بالمجلس الشعبي الوطني، ولا يمكنه الجمع بين المنصبين (مستشار لرئيس الجمهورية، ونائب في البرلمان)، كما أن بعض المستشارين لم يخفوا رغبتهم في الالتحاق بالحكومة كوزراء إذا كلفهم الرئيس بذلك، مثلما هو الحال بالنسبة لمحمد يعلى وبلقاسم نابي وحتى أحمد حوحات، أما الدكتور عميمور وهوفمان فلم يظهرا أي رغبة في تولي مناصب وزارية، بل بالعكس تهربا من ذلك صراحة حين حاولتُ جس نبضهما من خلال مزحة، وأضاف عبد المجيد علاهم جملة لم يمررها الرئيس بومدين مرور الكرام حين قال: الدكتور يريد إبعاد الدكتور (قالها بالفرنسية)، ففهم الرئيس بومدين أن الدكتور أمير يريد التخلص من الدكتور عميمور، ولما سأله الرئيس عن السبب؟ رد علاهم: أن عميمور شخصية صلبة، لم يتمكن الكاتب العام من ضمّها لمجموعته، مثلها هو الحال بالنسبة لإدريس الجزائري، كما أن عميمور كان حساسا جدا بالنسبة لاستقلاليته، حيث لا يسمح لأي شخص بتجاوز حدود معينة، أما الدكتور أمير فلا يستطيع أن يهضم بقاء قسم الإعلام خارج سلطته المباشرة، لذلك كان يختلق المشاكل لعميمور كلما سمحت الظروف، أما سليمان هوفمان، فهو عسكري لا يدنو منه حكيم ولا سليط.
بعد ظهر ذلك اليوم، وصل المقدم قاصدي مرباح لرئاسة الجمهورية، وفقا للموعد المحدد مع الرئيس، الذي استقبله فور وصوله، لأن الوقت كان يمر بسرعة، ولم يكن أمام الرئيس بومدين الكثير من الوقت ليضبط القائمة النهائية لحكومته الجديدة.
حضر عبد المجيد علاهم ذلك الاجتماع الذي افتتحه الرئيس بومدين بالسؤال عن الوضع العام داخليا وخارجيا، ثم عن ردة فعل الشعب نتيجة تزكية السيد رابح بيطاط رئيسا للمجلس الشعبي الوطني، ثم تكلم مرباح عن ملامح إضرابات عمالية بدأت بوادرها تلوح في الأفق، وفي ختام جلسة العمل توجه إليه الرئيس بومدين بسؤال مباشر قائلا: برأيك كيف ستكون الحكومة الجديدة؟ فرد مرباح: كلهم يريدون أن يصبحوا وزراء إلا عميمور وهوفمان. قلّب الرئيس بومدين النظر بين علاهم ومرباح، ثم قال: إنه نفس الاستنتاج الذي قدمه لي علاهم قبل قدومك، المهم عزوف هوفمان مفهوم، ومقبول جدا، بل منطقي للغاية، لأسباب نعرفها جميعا، لكن وزارة الثقافة والإعلام ستصبح شاغرة، بعد أن أكلف الدكتور أحمد طالب بمهمة أخرى، فأنا أفكر في من يخلفه والدكتور عميمور حتى ولو كان يتهرب من هذه المهمة، فهو أحق بوزارة الثقافة والاعلام من غيره، ولا أريد أن يكون قربه مني عائقا، لذلك سأترك له المجال ليختار بنفسه بين البقاء معي أو تولي حقيبة الاعلام.
استدعى الرئيس بومدين العقيد بن شريف ليشرب معه كأسا من الشاي (كان الرئيس بومدين إذا احتاج أحد كبار القادة الذي يحترمهم، يقول له: تعال لنشرب كأس شاي)، بعد قدومه وتبادل عبارات الترحيب بين الرجلين، قال الرئيس بومدين لبن شريف: أحتاج لمساعدتك في أمر يهمني كثيرا، الدكتور أحمد طالب سيترك وزارة الإعلام لأنني أنوي إدخال بعض التعديلات على الحكومة، سأناقشك فيها بعد يوم أو يومين، المهم أريد إسناد هذه الوزارة للدكتور عميمور، فقاطعه العقيد بن شريف قائلا (كان العقيد بن شريف قريبا من الرئيس بومدين ويسمح لنفسه بأشياء لم يكن يفعلها غيره من القادة منها الضحك والمزاح مع الرئيس ومقاطعته عند الكلام المباشر معه): هذا اختيار ممتاز فعلا إنه يستحق هذا المنصب فهو كفؤ جدا، تبسم الرئيس بومدين وقال: خليني نكمل كلامي يا سي احمد (قالها بالعامية)، أعلم أنه كفؤ ويستحق المنصب، ولم أستدعك لاستشارتك في ذلك، لأنني سأعقد معك جلسة عمل بعد يوم أو يومين للحديث في تشكيلة الحكومة الجديدة، إنما طلبتك لأنني أريدك أن تذهب إلى مكتبه وتعرض عليه وزارة الاعلام ولا تخبره أنني خلف هذا الطلب، فلا أريد أن يكون قربه مني عائقا وحاجزا أمام منصب وزاري.
غادر العقيد بن شريف مكتب الرئيس بومدين وتوجه صوب مكتب الدكتور عميمور، ليقول له بعفويته وحماسه المعروف: كنت عند الرئيس، وتحدثنا عن تشكيلة الحكومة الجديدة، وقد اقترحتُـك لتولي وزارة الثقافة والاعلام، حتى أن الرئيس هز رأسه موافقا، وقبل أن يجلس لإكمال الحديث، رد الدكتور عميمور: صراحة الوزارة لا تهمني، فوقف العقيد بن شريف ولم يجلس لأن الدكتور عميمور أنهى القضية التي جاء من أجلها في 5 ثوان، فبُهت ولم يدري ما يفعل أو حتى ما يقول، وبعد حديث قصير جدا، خرج العقيد بن شريف من مكتب الدكتور عميمور، فتبعه هذا الأخير ورافقه حتى خارج المبنى مما تسبب في حرج كبير لبن شريف، لأن الرئيس بومدين طلب منه أن يستطلع الأمر ويعود له ليخبره بالنتيجة دون أن يشعر الدكتور عميمور، ولم يكن بإمكانه العودة لمكتب الرئيس والدكتور عميمور معه، فركب سيارته وعاد إلى مقر قيادة الدرك ومنه اتصل بالرئيس بومدين، الذي بادره: طلبت منك أن تعرض على عميمور الوزارة وتعود إلى مكتبي لتبلغني بقراره فورا، فرد العقيد بن شريف: إصطحبني الرجل حتى خارج المبنى، وودعني عند الباب فلم أستطع العودة لمكتبك حتى لا يشك في الأمر، تماما كما طلبت، وها أنا أقولها لك، لم أكد أكمل كلامي حتى رد رافضا الوزارة، بل لم يمهلني حتى الوقت للجلوس وأنهى القضية في 5 ثوان، فانفجر الرئيس بومدين ضاحكا وحيَّا العقيد بن شريف وقطع الخط.
يتبع. عند الباب فلم أستطع العودة لمكتبك حتى لا يشك في الأمر، تماما كما طلبت، وها أنا أقولها لك، لم أكد أكمل كلامي حتى رد رافضا الوزارة، بل لم يمهلني حتى الوقت للجلوس وأنهى القضية في 5 ثوان، فانفجر الرئيس بومدين ضاحكا وحيَّا العقيد بن شريف وقطع الخط.يتبع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق