السبت، 28 يونيو 2025

فلسفة الهجرة ، بقلم الدكتور خالص جلبي


 المشكلة في الذين تركوا الوطن ليست واحدة بل ثلاث: فالذين ذهبوا إلى الغرب أصبحت حياتهم لا تعرف الهدوء فقد دخلت الزوبعة إلى حياتهم إلى أجل غير مسمى. ولعلها ستبقى ترافقهم مثل الحمى المالطية حتى نزع الروح. ويقول المثل الشركسي: من يخسر وطنه يخسر كل شيء. حتى يجد وطنا جديدا لن يكون وطنا. وعندما عرض على (فيرنر هايزنبرغ) الدماغ الفيزيائي صاحب نظرية الارتياب في ميكانيكا الكم الهجرة إلى أمريكا كان جوابه: إنه قرار يجب أن يحسم في عمر مبكر. فمن نشأ في ثقافة بعينها حتى عمر معين تصبح تلك البيئة له أكثر الأوساط تأثرا منها وتأثيرا فيها. كان جوابه: سأرجع إلى ألمانيا حتى إذا انهدمت المدن الألمانية قمت بتربية جيل ما بعد الكارثة. وهو الذي حصل عندما دشن معهد ماكس بلانك في فروع لا نهاية لها من العلوم.     
والمشكلة الثانية أن من هاجر واحتك بالحضارات الأخرى يصل إلى وضع لا يحسد عليه، فلم يعد الشرق يعجبه ولا الغرب يسعده فهو نفسياً في الأرض التي لا اسم لها. ومن أجمل ما قرأت نقلا عن مهاجر ألماني ما معناه أن الذي يرى وطنه جميلا فهو لا يفهم الحياة، ومن شعر بالغربة في الهجرة فهو غير ناضج، ولكن من شعر بالغربة في كل العالم فهو المواطن الصالح. يقصد بهذا إن وجودنا في الأرض كله يقوم على التوقيت والإعارة وأننا البشر من التراب وإليه نعود. وهذا يقرب إلى وعينا صدى تلك الجملة العميقة التي نطقها المسيح عليه السلام: مملكتي ليست من هذا العالم. 
ويعتبر قرار الهجرة ثالثاً من أصعب وأخطر القرارات في حياة الإنسان ولعله يكون طريق باتجاه واحد. ومشكلة الغرباء أنهم يبقون غرباء لفترة طويلة وقد تدوم هذه الغربة مدى الحياة. وعلى من يتخذ قرار الهجرة أن يتذكر ثلاث أمور: أنه قرار لا يتعلق به وحده بل ذريته من بعده. ثانياً أنه قد يكون هجرة بغير عودة. وثالثا ليتذكر قول الفيلسوف ديكارت أن من يكثر التنقل يصبح غريبا في بلده.  
الهجرة ظاهرة كونية مثل الوحي فكما أوحى الله إلى أنبياءه روحاً من أمره، كذلك أوحى إلى (النحل) أن اتخذي من الجبال بيوتا. وأوحى إلى (أم موسى) أن أرضعيه. كل بطريقته الخاصة. ولا يهاجر الإنسان فقط بل سمك السلمون والنحل والطيور والفراشات. ويهاجر الرجل والمرأة إلى عش جديد لتوليد عائلة جديدة. فهذا قانون وجودي. 
الطيور تهاجر تبحث عن الحب. وسمك السلمون يهاجر في ملحمة رائعة من نهر فرايزر في كندا ليقطع رحلة عشرة آلاف كيلومتر حتى المحيط. وتغادر الفراشات (الملكة) شمال أمريكا لتصل إلى أمريكا الجنوبية فتتبدل خلقا من بعد خلق. ولكن هجرة الإنسان غير هجرة السمك والطيور فهي حركة ثقافية. 
وحسب فيلسوف التنوير الألماني (كانط) فقد كانت الهجرات تأريخاً للاضطهاد السياسي، من خلال الانشقاق المتتابع في الجماعات الإنسانية، وبذلك زحف الإنسان في الأرض من شرق أفريقيا حتى جنوب أمريكا في رحلة امتدت على مدار 200 ألف سنة. فكان الاضطهاد في طرف منه خيرا في انتشار الإنسان في الأرض. ونعرف اليوم أن هجرات الجنس البشري عبرت مضيق بهرنجر قبل 12 ألف سنة وتابعت زحفها حتى مضيق ماجلان وأرض النار.  
وحسب المؤرخ البريطاني (توينبي) في كتابه (مختصر دراسة التاريخ) فالهجرة صيروة تنطبق أيضاً على الأنبياء من خلال قانون (الاعتزال والعودة). وبذلك هاجرت البوذية من نيبال في الهند واستقرت في الصين. وتركت المسيحية فلسطين وزحفت إلى روما.
وفي مسيرة (ماوتسي تونج) مشى معه مائة ألف من أتباعه إلى شمال الصين ما عرف بـ (المسيرة الكبرى). بعد أن اجتاز عشرات الأنهار وسبع سلاسل من قمم الجبال لينشيء جمهوريته الأولى في ينان بأربعة آلاف إنسان. بعد أن قتل أكثرهم على يد الكومنتانغ. 
والسؤال ما الذي يدفع الإنسان إلى الهجرة فيترك مراتع الطفولة وأحب الأماكن إلى قلبه كما وصف ذلك الرسول ص وهو يجبر على مغادرة مكة عندما ائتمروا على قتله وتفريق دمه بين القبائل؟ 
إن شعور الفراق الأبدي الذي استولى على (هرقل) كان حزينا وهو يغادر دمشق بعد الفتح الإسلامي ويقول: "وداعا يا دمشق .. وداعاً لا لقاء بعده" وهي نفس الجملة التي كررها فارين اللجوء السياسي من بلاد الشام إلى الأرجنتين والدومينيكان والسويد. قد يحمل نعش أحدهم إلى الوطن كما حصل مع نزار قباني فيدفن فيه. ولكنه لم يعد وطنا للحياة بحال. فهو وطن الأحياء الأموات. والموتى فيه يدفنون. 
يعتبر إبراهيم عليه السلام المهاجر الأكبر فهو الذي ترك بلاد الرافدين ووفرة المياه وخضرة النيل ليأوي إلى أرض غير ذي زرع عند بيته المحرم. فالصحاري مع الحرية أطيب من الاستبداد مع الجنان. وهناك أقام القواعد من البيت في بيئة صعبة هو وإسماعيل ربنا تقبل منا. وهناك دعا أن لا يجعل في ذريته من يعبد الأوثان. كان هذا بعد النقاش المرير مع النمرود في العراق الذي زعم أنه يحيي ويميت، وبعد نجاته من النار فكانت بردا وسلاماً عليه. ترك كل ذلك خلف ظهره ليأمن على ذريته في أرض غير ذي زرع، لأن أعظم زرع هو الإنسان في مناخ الحرية. ومع الديكتاتورية لا أمان ولا ضمان لأي شيء. وفي جو الاستبداد تقتل الحياة قتلا. 
وهاجر فتية أهل الكهف فرارا من الاضطهاد السياسي ومعهم كلبهم، فبيئة مدمرة من هذا النوع لا تطيقها الكلاب. وفر موسى عليه السلام بدوره من جو الحضارة الفرعونية المقيت التي اعتاد أهلها أكل البصل والثوم مع الإهانة والإذلال إلى صحراء مدين ليتزوج هناك ويعيش، ولم يرجع إلى مصر إلا برسالة، ولم يكن له أن يعيش قط في بلد يرفع القبور لأشخاص فانين على هيئة أهرامات تناطح السحاب في مناخ ميت مميت من الديكتاتورية. 
قد يكون موسى نجح قديما في الهجرة بشعب كامل يشق بعصاه البحر فكان كل فرق كالطود العظيم. ولكن مشكلة الهجرة اليوم أنها تتحول إلى قضية دولية ولكن من يهاجر في العادة رغبة هم زبدة القوم وأكثرهم فعالية. وجرت العادة أن أكبر الهجرات جاءت بأفضل النتائج فمع طوفان نوح تطهرت الأرض. ومع هجرة كولمبس تقرر مصير الغرب وانقلبت محاور التاريخ وانتقلت الحضارة من المتوسط إلى الأطلنطي.
الدكتور خالص جلبي

السبت، 21 يونيو 2025

الارتباط المرضي بالأم في المجتمع الجزائري:.. بقلم بلال قهلوز

٧ في المجتمع الجزائري: حين يتحوّل الحب إلى عبء واستعراض
في المشهد الاجتماعي الجزائري، لا شيء يجلب التعاطف والتمجيد أكثر من شاب يقول: "ربي يخليلي ميمتي (ma mère)". عبارة جاهزة، محفوظة، تُستخدم بكثرة في مواقع التواصل الاجتماعي وحتى في الجلسات العائلية، لتُظهر نموذجًا مثاليًا للابن البارّ، لكنها في كثير من الأحيان ليست سوى قناع اجتماعي (masque social) يخفي وراءه علاقة مختلّة، لا تقوم على العناية والرعاية بل على الاستغلال والاتكالية (dépendance infantile).
العديد من هؤلاء الشباب الذين يتغنون بـ"حب الأم" هم أنفسهم من يسهرون حتى ساعات متأخرة، ثم يعودون للبيت يوقظون الأم لتحضير العشاء أو طهي "الكسرة"، وكأن الأم آلة خدمية (machine domestique) لا تتعب ولا تشتكي. وهو لا يتردد في أن يقول: "لا توجد امرأة في العالم تتحملني مثل أمي". وهذا صحيح بشكل مأساوي، لأنه فعلاً لا توجد امرأة تقبل بحماقاته اليومية، ولا بهذا المستوى من الأنانية والطفولية (immaturité affective).
هذا "الحب" لا يظهر في الواقع العملي: فكم من أم تشتكي من أمراض مزمنة، لكنه لا يصحبها إلى الطبيب، لا يكلّف نفسه بعلاج أسنانها أو حتى بنزهة تُخفف عنها وحدة البيت وثقل السنين. إن ما يسميه البعض "حبًا للأم" ليس سوى نوع من الرأسمال الرمزي (capital symbolique) يوظفه الشاب أمام مجتمعه لتلميع صورته، وليس تعبيرًا حقيقيًا عن علاقة إنسانية متوازنة.
في حفلات الزواج مثلًا، نراه يركع أمام أمه، يقبّل رجليها أمام زوجته المستقبلية، ويقول: "أمي هي الأصل"، في مشهد استعراضي أشبه بمسرحية رومانسية رخيصة (drame sentimental). لكنه في اليوم التالي قد يتركها وحيدة، لا يسأل عنها، ولا يفتح لها باب العيادة، لأنه ببساطة يحب أن يُرى وهو يبرّ بها، لا أن يعيش فعل البرّ.
المشكل الحقيقي أعمق: الشاب الجزائري لا يريد أن ينفصل عن أسرته، لأنه يجد فيها ملاذًا من المسؤولية، وامتدادًا لحياة دون نضج. فبيت الأم هو الفندق (hôtel maternel) الذي يعود إليه محمّلًا بالتعب والأنانية، دون أي مقابل فعلي. وبهذا المعنى، تتحول الأم إلى "حاضنة للطفولة الدائمة" وليس إلى رمز للحنان فقط.
الحب الحقيقي للأم ليس في الأقوال ولا في الصور التي تُنشر على "فيسبوك" يوم عيدها، بل في احترام جسدها، صحتها، حريتها، وفي أن يعي هذا الابن أن الأم ليست امتدادًا له، بل كائن .

الاثنين، 2 يونيو 2025

عرائس الحروب ..

عرائس الحرب أو "War Brides : لماذا تتخلى النساء عن شركائهن بسرعة ويتكيفن مع الجدد بسهولة؟ الحقيقة المدهشة وراء التكيف الأنثوي!"

عرائس الحرب أو "War Brides" هي ظاهرة اجتماعية تاريخية تعود إلى العصور القديمة وحتى الحروب الحديثة، حيث كانت النساء يؤخذن كزوجات أو سبايا من قِبَل القوات الغازية. هذه الظاهرة كانت نتيجة مباشرة لظروف الحروب، حيث يتم القضاء على الرجال المحاربين من القبيلة أو المجتمع المهزوم بينما تُحتفظ النساء بسبب قيمتهن في الإنجاب وتربية الأطفال.
في العديد من الثقافات التاريخية، عندما كانت قوة غازية تهزم قوة أخرى، كانت تقتل الرجال وتأسر النساء. هؤلاء النساء كن يُستخدمن كوسيلة لدمج الثقافات أو كجوائز حرب، وغالبًا ما يُجبرن على الزواج من محاربي القبيلة الغازية، مما يساهم في استمرارية وتوسعة سلالة تلك القبيلة.

الطبيعة البشرية، وخاصةً النسائية منها، تُملي على النساء البحث عن الأمان والاستقرار. في ظروف الحروب، كان الارتباط بالغزاة يُعتبر أحيانًا وسيلة للبقاء على قيد الحياة، حيث يُنظر إلى الرجال المهزومين كأفراد غير قادرين على الحماية وتقديم الأمان.

النساء يمكنهن التأقلم بسرعة بعد الانتقال من الرجال المهزومين إلى الرجال المنتصرين. هذا التأقلم يُفسر جزئيًا بظاهرة "الحب الجنسي المتبادل"، حيث تبحث المرأة بشكل لا واعٍ عن الأمان والموارد من الشريك الجديد القوي.

الظاهرة تمتد أيضًا لفهم أعمق للطبيعة الأنثوية، خاصةً من منظور علم النفس التطوري. ففي حين أن الرجال كانوا يُعتبرون الدرع الذي يحمي القبيلة أو الأسرة، كانت المرأة تُعتبر الجائزة التي يجب الحفاظ عليها. هذا هو أحد الأسباب التي تجعل النساء اليوم أكثر قدرة على التكيف مع تغييرات الشركاء مقارنة بالرجال.

عرائس الحرب ليست مجرد حدث تاريخي بل هي ظاهرة لها آثارها في العلاقات المعاصرة. يمكن للرجال اليوم أن يتعلموا من هذه الديناميكيات، حيث تكشف عن الطبيعة التكيفية للنساء وعن أهمية الأمان والموارد في اختيار الشريك. المرأة تميل دائمًا للارتباط بالشريك الذي يوفر لها الأمان، وهذا يتضح من كيفية اختيارها لشركائها في الحياة اليومية سواء في سياقات الحروب أو غيرها.

ظاهرة عرائس الحرب تُبرز جوانب مهمة من الطبيعة الأنثوية، خصوصًا فيما يتعلق بالاختيار الجنسي والتأقلم السريع مع الظروف المتغيرة. وهذا التأقلم ليس مقتصرًا على السياقات الحربية فقط، بل يمتد إلى العلاقات الحديثة أيضًا. النساء يبحثن بشكل طبيعي عن الشريك الأكثر قدرة على توفير الأمان والحماية والاستقرار، سواء كان ذلك في العصور القديمة أو في العالم المعاصر.

في العلاقات الحديثة، النساء يميلن إلى تغيير الشركاء بسرعة عندما يشعرن بأن الشريك الحالي لم يعد قادرًا على تقديم الأمان والحماية أو الموارد الكافية. هذه الظاهرة تُعرف باسم "تقافز القردة"، حيث تترك المرأة شريكها الحالي إذا وجدت شخصًا آخر يلبي احتياجاتها بشكل أفضل، هذه طبيعة غريزية لدى المرأة البحث عن أفضل الخيارات لضمان مستقبلها ومستقبل أبنائها.

الهيبرجامي او التزاوج الفوقي هي ميل المرأة للارتباط بشريك أفضل من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية. في سياق عرائس الحرب، كانت النساء دائمًا يبحثن عن المحاربين الأقوى والأكثر قدرة على حمايتهن وتوفير الموارد لهن. هذا المبدأ لا يزال قائمًا اليوم، حيث تسعى المرأة إلى الارتباط بشريك يوفر لها أمانًا ماليًا واجتماعيًا، ويُعتبر هذا جزءًا من التكيف الطبيعي لضمان بقاء العائلة.

حتى في العلاقات الحديثة، يُتم ملاحظة هذا النمط في كيفية اختيار النساء لشركائهن بناءً على المكانة الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يعكس ديناميكيات عرائس الحرب بشكل عصري. فالنساء يمِلن إلى الارتباط بالرجال الذين يتمتعون بوضع مالي جيد، مكانة اجتماعية مرموقة، أو يتمتعون بصفات القوة والقيادة.

المرأة عبر التاريخ أظهرت قدرة عالية على التكيف مع التغيرات الاجتماعية، الاقتصادية، والحربية التي تؤثر على وضعها ومكانتها. من ظاهرة عرائس الحرب إلى تكيّف النساء في المجتمعات الحديثة، نرى أن النساء يتمتعن بمرونة نفسية وسلوكية تمكنهن من التأقلم مع الشركاء والظروف المتغيرة بسرعة وفعالية.

‏هذا التكيف ينبع من الحاجة البيولوجية والاجتماعية للبقاء وضمان استمرارية النسل، ما يجعل المرأة أكثر قدرة على تغيير الشركاء، وتبني أدوار جديدة عندما تتغير الظروف المحيطة. فهي تسعى دائمًا للحصول على أفضل الشروط التي تضمن لها الأمان والاستقرار، سواء كان ذلك من خلال الارتباط بالغزاة كمثال تاريخي أو اختيار الشريك الأنسب في العصر الحديث.

التكيف الأنثوي يتجلى أيضًا في سرعة المرأة في التعافي من الصدمات العاطفية وإعادة بناء حياتها، بعكس الرجل الذي قد يحتاج لوقت أطول للتأقلم مع الفقدان أو التغيير. هذه القدرة على التكيف تفسر لماذا المرأة أكثر مرونة وقدرة على تغيير الشركاء، وتبني أدوار جديدة على مر العصور.
منقووول

الثلاثاء، 27 مايو 2025

اطول تعديل حكومي في تاربخ الجزائر المستقلة .. بقلم براءة عبد الله

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة

الجزء الثامن
محمد الصالح يحياوي أول من يكسر حاجز التحفظ

"سي بومدين، هل تظن أن تعيين لشرف على رأس وزارة التربية، قرار صائب ولن يتسبب في أي مجزرة على مستوى قطاع التعليم"؟ 
محمد الصالح يحياوي للرئيس بومدين أبريل 1977.

خلال الفترة الممتدة بين 28 أبريل 1977 (تاريخ الإعلان الرسمي عن التشكيلة النهائية للحكومة)، و03 مايو 1977 (تاريخ أول اجتماع للحكومة الجديدة)، أمر الرئيس بومدين الأجهزة السياسية والأمنية أن تجس نبض وردود الأفعال الداخلية والخارجية، فيما يخص تشكيلة حكومته الجديدة، التي اختلفت وجهات النظر وتعددت الآراء فيها، فبعض الجهات الرسمية (جهاز الحزب على وجه الخصوص وبعض قيادات الجيش) تحفظت على بعض الأسماء التي تولت مناصب وزارية، كما استهجن الكثير من المتابعين تعيين بوعلام بن حمودة وزيرا للأشغال العمومية، بينما كان قبلها وزيرا للعدل حافظا للأختام، فأين الصلة بين العدل والأشغال العمومية؟ 
كما اعتبر الكثير من إطارات جهاز الحزب، تعيين مصطفى لشرف على رأس وزارة التربية الوطنية، نوعا من التراجع عن سياسة التعريب، التي خطت خطوات كبرى منذ الاستقلال إلى ذلك التاريخ، وكثير من قيادات الحزب ألمحت إلى أن عبد الحميد مهري، الذي كان حينها أمينا عام لوزارة التعليم الابتدائي والثانوي، أحق بالوزارة من لشرف (1)، بينما اعتبرت جهات خارجية (2) أن بومدين شكل حكومة مسيرين لا غير (3)، وتضاربت الآراء، وكثر القيل والقال، ولم يتجرأ أحد على مواجه الرئيس بومدين بالحقيقة، باستثناء المقدم قاصدي مرباح الذي اقتصرت مهمته على تقديم تقارير كتابية عن قراءة أجهزته لردود الأفعال الداخلية والخارجية فقط، حتى كسر العقيد محمد الصالح يحياوي (4)، جدار الصمت والتحفظ حين اتصل بعبد المجيد علاهم، ليطلب لقاء الرئيس بومدين لأمر مهم دون أن يحدد طبيعته، فما كان من بومدين إلا أن ضرب له موعدا صبيحة اليوم الموالي.
استقبل الرئيس بومدين، العقيد يحياوي في الموعد الذي حدده له، وبعد تبادل عبارات المجاملة والترحيب، تفاجأ الرئيس بومدين أن القضية التي جاء من أجلها العقيد يحياوي لا علاقة لها بشؤون الجيش.
فيحياوي المعروف بصرامته، وانضباطه الشديد، دخل مباشرة في صلب الموضوع الذي جاء من أجله ليقول: سي بومدين ليس من عادة العسكريين، التدخل في العمل الحكومي، لكنني كعضو في مجلس الثورة، أظن أنه من حقي طرح سؤال، لم تسمح لي الظروف بطرحه قبل اليوم، راجيا أن يتسع صدرك له.
 فأشار إليه الرئيس بومدين برأسه بـ (نعم)؛ ليطرح يحياوي سؤالا ثقيلا نزل على الرئيس بومدين ثقل جبال الأوراس فقال: سي بومدين، هل تظن أن تعيين لشرف على رأس وزارة التربية، قرار صائب ولن يتسبب في أي مجزرة على مستوى قطاع التعليم؟ (5). نظر الرئيس بومدين بتمعن ليحياوي بضع ثوان قبل أن يرد قائلا: لقد سبق وأن قلت لبلعيد عبد السلام إنني أعتبر من دواعي الفخر أن يكون إلى جانبي شخصية مثقفة، وصاحب رأي سديد، على شاكلة مصطفى لشرف (6). 
ثم أضاف: اسمح لي أنا أيضا أن أطرح سؤالا مباشرا، أرجو أن تجيب عليه بدون تحفظ: 
على أي أساس استنتجت أن قرار تعيين لشرف وزيرا للتربية غير صائب؟ 
وعلى أي أساس استنتجت أنه سيرتكب مجازر في القطاع الذي هو مسؤول عنه؟
حاول العقيد يحياوي تلطيف الجو بينه وبين الرئيس بومدين فرد مازحا: قلت إنك ستطرح سؤالا واحدا، لكنك طرحت اثنين، فتبسم الرئيس بومدين.
ثم أردف يحياوي قائلا: لا خلاف في أن لشرف شخصية على قدر عال من الثقافة، لكن أغلبية الإطارات الذين عرفوه وعملوا معه قبل اليوم، يؤكدون أنه لن يتوانى في إعادة النظر في سياسة التعليم المنتهجة منذ 1962، وقد يعيد النظر في كل شيء، فيرجعنا للخلف بدلا من أن يقدمنا للأمام؛ أعلم أنه قد فات الأوان على مثل هذا الكلام، لكن كان من الأفضل الاحتفاظ بعبد الكريم بن محمود على رأس وزارة التربية، أو تكليف مهري بدلا منه، فهو أحق بوزارة التربية من لشرف، أما الآن وقد صرنا جميعا أمام أمر واقع، فالمطلوب إقناع لشرف بإكمال المسيرة التي بدأت عام 1965، وليس تكسيرها وإعادة النظر فيها، وأذكرك سيدي الرئيس أن لشرف خلال كتابته للشق المتعلق بالتربية والتعليم في الميثاق الوطني، لم يُخف ازدراءه للسياسة المنتهجة في مجال التربية والتعليم، ومن هذا المنطلق يمكن الاستنتاج أنه سيأتي بعكس السياسة المتبناة في الميثاق (7)، وعلى ضوء ذلك استنتجت أنه سيرتكب مجازر في القطاع الذي هو مسئول عنه. 
سكت الرئيس بومدين قليلا ثم قال ليحياوي: إن لكل مقام مقال، وإنه من السابق لأوانه الحكم على الرجل قبل أن يباشر مهامه، فحتى هذه اللحظة لم يرتكب لشرف أي شيء يلام عليه، وقد اخترته لتولي حقيبة التربية لسببين رئيسيين: 
أولهما: أنه بحر من المعرفة، يمكنها أن يكون قيمة مضافة في ترقية التعليم، فالمطلوب منا الآن الرفع من مستوى التعليم في البلاد، ولشرف أحسن خيار يمكنه إكمال المسيرة وتحقيق الهدف المنشود.
ثانيهما: لقد أشرف مصطفى لشرف بنفسه، على اللجنة الفرعية التي كتبت الميثاق الوطني، في شقه المتعلق بالتربية والتعليم، فهو أفضل من يمكنه أن يحقق الأهداف المسطرة في الميثاق لأنها من صلب أفكاره.
لينتهي اللقاء بين الرجلين، بوعد قطعه الرئيس بومدين لضيفه، مفاده أنه سيحرص شخصيا على إعطاء التوجيهات اللازمة، لوزير التربية، حتى يكمل المسيرة التي بدأت عام 1962 (8)، وألا يقوم بأي عمل قد يمس سياسة التعريب المنتهجة منذ الاستقلال.
بعد ذلك اللقاء مباشرة، طلب الرئيس بومدين من الأمين العام الجديد لرئاسة الجمهورية عبد المجيد علاهم، أن يعلم جميع الوزراء بأنهم مدعوون لأول اجتماع لمجلس الحكومة يوم الثلاثاء 03 مايو 1977 (9).
صبيحة اليوم المحدد، اجتمعت الحكومة الجديدة لأول مرة، تحت رئاسة الرئيس هواري بومدين، الذي أبدى صرامة تجاوزت المعهود، فلم يُخف امتعاضه من التأخير الذي رافق تشكيل الحكومة، لكنه أغلق الباب أمام أي نقاش حين قال إنه بعد أن أفرغ ما في قلبه، يطوي صفحة ويفتح صفحة جديدة، كما حدد بدقة المطلوب من الوزراء في مهامهم الجديدة، وحث الجميع على ضرورة التكاتف وتنسيق عملهم، بحيث تكون الحكومة جسدا واحدا، يسير بنفس الإيقاع، وأكد أن الثورة الزراعية مشروع وطني غاية في الحساسية، كان وسيبقى أحد المحاور الكبرى لسياسة التنمية الوطنية، فكما يعيش أبناء المدن في نوع من الرفاهية ومستوى معيشي متطور، علينا كحكومة أن نضع أبناء الريف في نفس المستوى، إذ لا فرق بين سكان المدن وسكان الأرياف، ويجب أن يشمل ذلك تحسين ظروف معيشة الفلاحين.
خلال نفس الاجتماع، تكلم الرئيس بومدين بإسهاب، عن وجوب إعادة بعث دور جهاز الحزب، تمهيدا لانعقاد مؤتمره الذي سيكون فرصة جديدة، لإعادة صياغة الأرضيات السياسية والاقتصادية للدولة الجزائرية، وأنهى كلمته بأنه قرر فتح تحقيق معمق حول ممتلكات وأسلوب معيشة جميع الموظفين السامين بدون أي استثناء، وأن هذا التحقيق سيشمل عائلات كبار المسؤولين وزوجاتهم وأبناءهم بل وحتى والديهم والإخوة والأصهار، ليؤكد للمرة الثانية أنه لا مجال للجمع بين الثورة والثروة، فقد سبق أن تكلم في الموضوع أثناء خطاب قسنطينة في جوان عام 1974 (10).
عند اختتام اجتماع مجلس الحكومة، طلب الرئيس بومدين من الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي البقاء رفقة وزير الثقافة والاعلام رضا ملك لصياغة البيان الختامي لاجتماع مجلس الحكومة، ثم طلب من الدكتور محيي الدين عميمور الاشراف على نشر البلاغ بدلا من وزارة الاعلام، مما أوحى وكأن الرئيس لا يثق في وزير إعلامه، أو عن الأقل لا يريده أن يرتكب أي خطأ في انتظار إلمامه بمهامه الجديدة.
باشر جميع الوزراء مهامهم، باستثناء وزير التربية مصطفى لشرف، الذي غادر الجزائر نحو العاصمة المكسيكية، ليقوم بتصفية أعماله والقيام بإجراءات توديع السلطات الحكومية المكسيكية كما هو التقليد في العرف الدبلوماسي، إلا أن لشرف أطال الإقامة في جمهورية المكسيك، مما أثار حفيظة الرئيس بومدين الذي طلب من عبد المجيد علاهم، الاستفسار في الموضوع، لأنه من غير المعقول أن يقبع سفير منتهية مهامه في منصبه، بينما منصبه الجديد قد تولاه فعليا بتاريخ 12 أبريل 1977، حين جرى حفل استلام المهام بينه وبين الوزير السابق للتعليم عبد الكريم بن محمود (11).
تطبيقا لأمر الرئيس بومدين، اتصل عبد المجيد علاهم هاتفيا بمصطفى لشرف، ليبلغه أن الرئيس بومدين غير راض تماما عن بقائه في العاصمة مكسيكو، بينما منصبه كوزير للتربية بقي شاغرا في غيابه، فكان رد مصطفى لشرف أن السنة الدراسية قد أشرفت على نهايتها، وأنه منشغل بتحضير برنامج عمل وزارته، لذلك يريد البقاء بعيدا عن الضوضاء ليقوم بعمله على أكمل وجه، كما أن الأمين العام للوزارة عبد الحميد مهري، يمكنه القيام باللازم في غيابه. 
حين أبلغ عبد المجيد علاهم الرئيس بومدين بالخبر، استبشر الرئيس خيرا، لأن جميع مصادره كانت تقول إن مكوث العروبي عبد الحميد مهري، لن يطول إلى جانب وزير التربية الجديد، بسبب الاختلاف الجوهري في التوجهات الفكرية بين الرجلين.
يتبع 

الهوامش:
1- مصدر خاص.
2- المقصود فرنسا.
3- راجع جريدة لوموند الفرنسية الصادرة بتاريخ 29 أبريل 1977.
4- كان العقيد محمد الصالح يحياوي حينها عضوا في مجلس الثورة، ومديرا للأكاديمية العسكرية بشرشال منذ 1969.
5- مجموعة حوارات خاصة وحصرية مع عبد المجيد علاهم.
6- راجع جريدة الشعب العدد الصادر بتاريخ 09 جويلية 1990 (حوار مع بلعيد عبد السلام).
7- نفس المرجع الثالث.
8- نفس المرجع السابق.
9- راجع الجرائد الوطنية الصادرة بتاريخ 04 مايو 1977. 
10- راجع خطاب الرئيس بومدين في قسنطينة بتاريخ 06 جوان 1974.
11- راجع الصورة المرفقة رقم .....

الصور والوثائق المرفقة: 
1- نسخة من مقال جريدة لوموند الفرنسية متعلق بتشكيلة حكومة 1977.
2- مقال من جريدة الشعب الصادرة بتاريخ 03 مايو 1977 متعلق بأول اجتماع للحكومة الجديدة.
3- صورة رقم 01 استقبال الوزراء من طرف عبد المجيد علاهم لحظة دخولهم لقاعة الاجتماعات دخول وزير المجاهدين محمد السعيد معزوزي.
4- صورة رقم 02 استقبال الوزراء من طرف عبد المجيد علاهم لحظة دخولهم لقاعة الاجتماعات دخول وزير السكن و البناء عبد المجيد اوشيش.
5- صورة رقم 03 منظر لقاعة اجتماعات مجلس الوزراء اول اجتماع لحكومة 1977.
6- صورة رقم 03 منظر لقاعة اجتماعات مجلس الوزراء اول اجتماع لحكومة 1977.
7- صورة استلام المهام بين عبد الكريم بن محمود ومصطفى لشرف 12 ابريل 1977.

المراجع والكتب:
1- كتاب "أنا وهو وهم" للدكتور محيي الدين عميمور.
2- كتاب "الفرص الضائعة" للدكتور محيي الدين عميمور.
3- "التاريخ السياسي للجزائر من 1962 إلى يومنا هذا" للدكتور عمار بوحوش.
4- كتاب "مذكرات جزائري" للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي - الجزء الثاني والثالث.
5- كتاب "حقائق حول الثورة الجزائرية" لمحمد لبجاوي.
6- كتاب "الجزائر وفرنسا 50 سنة من التاريخ" الجزء الأول.
7- كتاب "الجزائر.. فرنسا والولايات المتحدة من الخطب للعمل".
8- كتاب "المسبح جهاز المخابرات الفرنسية من 1944 الى 1988".
9- كتاب "السياسة الخارجية الجزائرية من 1962 إلى 1978". 
10- كتاب "الصدفة والتاريخ" - الجزء الثاني.

التقارير والوثائق:
1- مراسلات دبلوماسية فرنسية 1962 إلى 1979. (مرفوع عنها طابع السرية).
2- مراسلات دبلوماسية أمريكية 1962 إلى 1977. (مرفوع عنها طابع السرية).
3- مراسلات دبلوماسية سوفييتية 1962 إلى 1977. (مرفوع عنها طابع السرية).

السبت، 29 مارس 2025

بقلم .. الاستاذ المشرفي محمد امين

سوء تقدير قوة الخصم كما يتقول البعض ضد قوات المقاومة في غزة وفلسطين عموما، ينتهي بالمرء إلى نموذج عباس العبوس مع أهله والمبتسم مع أعدائه، أو لنقل الوزير الص ه يوني ولست أبالغ هنا، فحماس تعلم والجميع يعلم والعالم يعلم أن الكيان هو كتيبة عسكرية أمريكية، والدخول في مواجهة معه ستعني طرديا الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغ الأمر بها إلى جلب حاملات طائرات مرعبة إلى المنطقة، وفي كل الأحوال الكيان لديه خارطة توسعية ومشروع يشمل المنطقة برمتها وليس فلسطين فقط، وسواءً إرتكنت المقاومة إلى التريث أو إعلان الجهاد على المستعمر، فإن الكيان سيقصف ويتوسع ويدمر ويذبح ويسيل دماءً كثيرة، وبالتالي الموت بكرامة وشهادة أفضل من الموت بنذالة وعباسة (محمود عباس) وإستسلام شامل، ومن لم يقرأ التاريخ جيدا ويعود إليه سيقع في مغالطات كبيرة وكثيرة، فالحروب في كثير من الأحيان تعتمد على الهزيمة النفسية لا العسكرية، وإلا ما خرجت فرنسا من الجزائر وما خرجت أمريكا من فييتنام والعراق وافغانستان وما خرجت اليابان من الصين وما خرج الإتحاد السوفياتي من أفغانستان وما خرجت بريطانيا من الهند والكثير الكثير على مر التاريخ البعيد والقريب والواقع الحديث..

وبما أنني جزائري ومسلم أبا عن جد، وأفتخر بأجدادي المسلمين الذين استشهدوا ورفعوا راية المقاومة والقتال ضد المستعمرين والأعداء (جدي عبد القادر المشرفي الذي كان ضمن القادة الذين حرروا مدينة وهران رفقة طلبة العلم من الإستعمار الإسباني ذات يوم، عليه رحمه الله)، وبما أنني من أشد المحبين والمفتخرين برموز الثورة التحررية وخاصة العربي بن مهيدي رحمه الله، أقول:

تخيل مجموعة من الجزائريين جالسين الآن على مائدة الطعام بأحد الأرياف الشهيرة بمنطقة الأوراس بمناسبة فرح عائلي يجمع كل أفراد العائلة الكبيرة التي يطلق عليها في الدوار مسمى "عائلة الحاج عمر" من إخوة وأخوات وأجداد وأعمام وعمات ووو بــــتاريخ 31 أكتوبر من سنة 1954 ميلادية، ولم تبقى سوى سويعات فقط على الساعة 12 ليلا وتبدأ ثواني ودقائق وساعات 1 نوفمبر المجيد من تاريخ 1954م، والجميع منهمك في أجواء الفرحة العائلية يتبادلون أطراف الحديث عن واقعهم اليومي وأحوالهم المعيشية تحت ظل الإستعمار الفرنسي الغاشم المجرم الذي منذ سنوات فقط قد قتل رهط من أفراد العائلة الذين شاركوا في أحداث ماي 1945 الدموية، أحدهم لم يتمالك نفسه وبدأ بالبكاء عندما تذكر أن إبنه الشاب الذي خرج تلك الأيام لم ولن يعود أبدا، فقد تبخرت أجواء الفرحة عندما أدرك هذا الأخير أن الواقعة مرت عليها 9 سنوات ولم ينتقم لإبنه ولم تدفع فرنسا الثمن، بل ولا تزال تمارس القمع وأفراد الشرطة الفرنسية لا يفارقون بيته بحثا عن ثائر جديد أو مشروع إحتجاجات واااسعة لوأدها في بدايتها...
ثم يقاطعه أحد أفراد العائلة المسمى "قادة" وهو يربت على كتفيه قائلا:
"يجي النهار وتخرج فرنسا يا الحاج عمر، وربي معانا.."
يصرخ الرجل في وجهه غاضبا وهو يردد: 
"مريض أنت؟ فرنسا تخرج؟ شكون يخرجها؟ فرنسا راهي مسيطرة على كل شيء، على التعليم والإدارة والبلدية والجيش والشرطة والعاصمة والأرياف وشرات الجزاير كامل، وعلامها يرفرف فوق الجغرافيا تاع بلادنا كامل، وعندها جيش قوي ومعاها القور (Les Européens) وسكت علينا يرحم والديك، تخاف الجنود تاع فرنسا يكون مارين الآن ويسمعوك، يدخلوا يقتلونا، باش تحارب فرنسا أنت؟ شا عندك؟ فرنسا راهي دولة عندها الطائرات وعندها الصناعة وعندها وعندها؟ راك تحوس أنت تخرجها، خلاص، فرنسا رانا عايشين حنا عندها كالخدامة والعبيد، ومستحيل تخرج.."
يصمت المسمى "قادة" طويلا وباقي الحضور من أفراد العائلة ينتظرون ردة فعله، ثم يقول:
"عندك الحق الحاج عمر، فرنسا شكون يقدر عليها، أنا برك حبيت نواسيك ونصبرك، ولكن أنا نأمن بلي الباطل زاهق ولو طال والحق منتصر ولو بعد حين، هاذي قناعتي مع الله سبحانو..."
يصمت الجميع، ثم ينصرف الحضور بصغيرهم وكبيرهم إلى النوم.
.........
سويعات بعدها، لا أحد يدري ماذا يخطط مجموعة من الشباب (29-37 سنة فقط) الذين يحملون عقيدة رجولية وتحررية وإيمانية أوصلتهم لقناعة راسخة أن علاج الإستعمار هو الكفاح المسلح والضجيج مهما كلف ذلك الجزائريين من دماء وأرواح، ومهما بدت أدوات التحرر بدائية وتقليدية جدا أمام جيش فرنسي جرار مدجج بأعتى الأسلحة العسكرية آنذاك، دقت ساعة الصفر، لابد أن تحيا الجزائر، تصرخ جبال الأوراس برصاصة الحق بعد سنوات من التخطيط ونسج العلاقات وإستغلال الظروف الجيوسياسية الدولية وأحداث مركبة ومتداخلة وكأنها عناية إلهية بــ01 نوفمبر المجيد، عمر يسمع صوت النار والرصاص فينهض مسرعا من فراشه والهلع يقطع قلبه وهو يردد: 
''واش كاين ها جماعة، واش راهو صاري؟ نوضوا الولاد والنساء وهربوا بيهم لكاش مكان آمن، هاذي غي فرنسا طاحت الليلة على الدوار تاعنا وحابة تقتلنا كامل"
يلقي أحدهم نظرة من النافذة ويقول: ''ماني نشوف في والو، بصح يا جماعة راهو حس كبير ومراهوش بعيد، اقعدوا في الدار واحد ما يخرجش"
دقائق وساعات بعدها، يرتفع صوت الإنفجارات والرصاص بشكل عنيف، ثم يصرخ أحدهم بالخارج:
"الله أكبر، تحيا الجزاير" ثم تتبعها طلقات رصاص تبدوا أنها قريبة جدا من البيت، إنه أحد الجنود الأشاوس قام بعملية وقد أصيبت بنيران العدو، وهو يبحث الآن عن مكان يلجأ إليه ويسترجع فيه أنفاسه، فيظهر له منزل عائلة الحاج عمر، يدق على الباب بقوة، فيطلب عمر من أفراد العائلة عدم فتح الباب خوفا من أن يكون جندي فرنسي، فيتدخل أحدهم ويلح على فتح الباب وهو يقول: "مراكمش تسمعو فيه واش راه يقول؟ راه يقول افتحوا يا خاوتي، أنا رايح نحل وكي جات جات"، يفتح الرجل الباب، فيدخل المجاهد الجزائري مسرعا بزي عسكري غريب على أفراد العائلة حاملا السلاح والعلم الجزائري بيمينه والجميع مندهش من هول المشهد وماذا يحدث يا ترى، وهو يردد: "راني مضروب في كتفي، اعطوني حاجة نزير بيها على الجرح، وغلقوا الباب.."، الحاج عمر يتدخل: "واش كاين ها وليدي، واش بيك وشكون ضربك وشكون أنت ومين راك جايب هذا السلاح؟"، يرد عليه الجندي: "أنا من أفراد جيش التحرير تاع جبهة التحرير الوطني، ورانا اليوم شعلنا في فرنسا النار وفي شحال من مكان في الجزائر، ومستحيل نتوقفوا حتى نخرجوا فرنسا ونحروا الجزائر، وجدوا رواحكم، أنتوما هوما الوقود تاع الثورة"، الجميع يصمت، ثم ينظر الحاج عمر إلى قادة الذي صرخ في وجهه منذ سويعات فقط، وهو يقول: "راك تخزر فيا قادة؟ خف روحك أنت والجماعة وقوموا بوليدي هذا، ثم تنهمر الدموع وهو يردد: تحيا الجزائر، تحيا الجزائر، الدموع التي تعبر عن القهر والفرحة والإيمان وشعور الحاج عمر أن ذلك الشاب المصاب هو حقا أمله وأمل العائلة والشهداء والجزائر برمتها..
08 سنوات بعدها فقط، تختلط معها الظروف الإقليمية والدولية والوقائع وأمور كثيرة معقدة لم يكن في الحسبان أصلا تلاقيها وحدوثها لدعم القضية، وتستقل الجزائر في سنة 1962 وترفع راية الشهداء وتعود الجغرافيا الجزائرية إلى أهلها
من كان يعتقد يا ترى في تلك الليلة على مائدة الطعام وفي منزل الحاج عمر وغيره من المنازل الجزائرية آنذاك أنه بعد سويعات فقط تلد الجزائر من جديد وتنفجر واحدة من أعنف وأكبر الثورات في التاريخ الحديث، وما هي إلا 8 سنوات فقط حتى رفرف علم الجزائر والشهداء على يد أولئك الشباب الجزائريين الذين كانوا وقود ثائر متشبع بحب الجزائر وكره الظلم والذل وروح الإنتقام والموت في سبيل الكرامة مهما كلف الثمن ويفجرون ثورة تحرير كبرى؟
حتما كان هناك العديد من أمثال الحاج عمر الذين كانوا يرون انه من المستحيل تماما ان يصبح للجزائريين دولتهم الخاصة، ثم يرد عليهم أمثال قادة بقولهم وهم كلهم يقين أن الجزائر ستستقل وفرنسا ستطرد من هذه الارض، ضحك عليهم الآخرين من باب العقلانية البحتة ولغة الواقع المادية، ولكن سنوات بعدها تستقل الجزائر وتتحقق اليقينية الإيمانية للرجال الذين ضحكوا عليهم، وهم يعيشون بفلسفة الحق صاحب اليد العليا والكلمة الاخيرة مهما طال الزمن والباطل زاهق مهما اشتدت شوكته وطال امده من باب اليقين الإيماني بالله وسننه الغالبة......
هذا المثال البسيط هو الفرق بين العقلانية والإيمان، أي العقلانية وتضادها، بل قمة العقلانية هي اللاعقلانية وهذا هو صريح الإيمان، ان يفقد الناس الأمل في شيء ما ولكن شيء بداخلهم زودهم الله به وهو الايمان يقول لهم العكس، ولهذا لا ايمان حقيقي ولا لذة له الا بتضاده مع العقلانية المادية البحتة "الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"، وهذا يتجلى بشكل كبير اليوم لدى أهلنا في غزة
فاللهم اجعل طوفان أكتوبر كطوفان نوفمبر..
والسلام عليكم ورحمة الله، وصح سحوركم يا إخوة.

الأربعاء، 19 مارس 2025

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة .. براءة عبد الله

أطول تعديل حكومي في تاريخ الجزائر المستقلة

الجزء السابع
ميلاد حكومة بعد مخاض عسير

"حشيتلي ركايبي يا سي احمد"
الرئيس بومدين للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي - أبريل 1977.

بعد أن ضبط الرئيس بومدين أموره مع وزير خارجيته، قال لعبد المجيد علاهم وللدكتور أمير، اللذين كانا حاضرين في اللقاء الذي جمع الرئيس بوزير الخارجية: "نحن الآن في ورطة، بوتفليقة رفض التنازل عن الخارجية، ورفض تعيين كاتب دولة للشؤون العربية والإفريقية، واتفقت معه على تعيين رضا مالك وزيرا للإعلام والثقافة، فكيف سأعمل مع الدكتور أحمد طالب الذي مازلت في أمسّ الحاجة إليه، لا يمكنني تعيينه وزيرا للخارجية، ولا كاتب دولة لدى رئيس الجمهورية مكلف بالشؤون العربية والإفريقية، كما لا يمكن إبقاءه في منصبه، بعد أن اخترت رضا مالك لهذا المنصب، فما هو الحل؟". 
اقترح الدكتور أمير على الرئيس بومدين، أن يختار له وزارة تليق به، من ضمن الوزارات التي لا تزال شاغرة، فاستثنى الرئيس بومدين وزارة البناء والسكن، لأنها وزارة جديدة وتحتاج لمختص في هذا المجال، وقد اختار لها المدير العام للمديرية الوطنية للبناء (DNC/ANP) عبد المجيد أوشيش (1)، كما استثنى وزارة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية التي قرر إسنادها لمحمد زرقيني (2)، واستثنى أيضا وزارة المالية لأنها لا تليق بالدكتور أحمد طالب الميّال للعمل الثقافي والإعلامي والتربوي والعلاقات الخارجية، فبقيت أمامه وزارتان فقط هما العدل والسياحة، بينما ذكره عبد المجيد علاهم أن محمد الصديق بن يحيى لا يزال في قائمة الانتظار، ولم يفصل الرئيس في الوزارة التي سيسندها إليه.
فكر الرئيس بومدين قليلا ثم قال: سأقترح على أحمد طالب وزارة العدل، فإن لم قبلها أسندت وزارة السياحة، فأردف علاهم قائلا: وماذا لو رفض العدل والسياحة؟ فقال بومدين: إذا رفض الوزارتين فنحن فعلا أمام مشكلة حقيقية (قالها بالفرنسية: Alors là nous sommes vraiment devant un vrai problème).
في الأسبوع الأول من شهر أبريل 1977، استقبل الرئيس بومدين العقيد محمد زرقيني الذي كان يشغل منصب مفتش عام للجيش الوطني الشعبي، وأبلغه أنه قرر تعيينه وزيرا للبريد والمواصلات، وشكره على تفانيه في عمله خلال المدة التي قضاها ضمن صفوف الجيش الوطني الشعبي من 1962 إلى 1977، فما كان من زرقيني إلا أن قبل عرض الرئيس بومدين، الذي أنهى النقاش سريعا، ولم يعطي لمحاوره أي فرصة لمناقشة مسألة تعيينه في المنصب الجديد، وإخراجه من الخدمة العسكرية (3).
بعد محمد زرقيني، استقبل الرئيس بومدين عبد المجيد أوشيش المدير العام للمديرية الوطنية للبناء (DNC/ANP)، وهي مصلحة ضخمة تابعة للجيش الوطني الشعبي، استطاع أوشيش بفضل قوة شخصيته وتفانيه في العمل، أن يجعل منها شركة عملاقة تضم 50 ألف عامل، وتنشط في ميدان البناء والتعمير والأشغال العمومية، ومن بين أكبر إنجازات هذه الشركة، شق طريق الوحدة الإفريقية الممتد من الجزائر العاصمة إلى تمنراست ثم مالي والنيجر (4)، وقد اختاره الرئيس بومدين لتولي حقيبة البناء والسكن، لسببين:
أولهما: تزايد الطلب على السكن الاجتماعي، نتيجة جملة من الأسباب لعل أهمها الارتفاع الكبير لعدد سكان الجزائر، فخلال 15 سنة من الاستقلال ارتفع عدد السكان من 9 ملايين عام 1962 إلى 16 مليون عام 1977، مما تسبب في ارتفاع حجم الطلب على السكن، ومنها ظهور أزمة سكن لم تحسب الحكومة لها أي حساب (5).
ثانيهما: أن أوشيش كان لديه من الخبرة وقوة العزيمة ما يجعله أفضل اختيار للإشراف على مخطط عمل الحكومة الخاص بتدارك النقص الفادح في مجال السكن من جهة، مع استكمال بناء المرافق الاقتصادية والاجتماعية التي كانت الحكومة تعطيها أولوية خاصة في برامج التنمية، منها بناء المدارس والجامعات والمستشفيات والسدود، وتعبيد وشق الطرقات، التي كان يشرف عليها فعليا من خلال منصبه كمدير عام للشركة المذكورة (6). 
في 07 أبريل 1977، لم يبق أمام الرئيس إلا تعيين كاتبيْ دولة لدى وزير الفلاحة والثورة الزراعية (7)، ثم أن يجد حلا يرضي الدكتور أحمد طالب، لتكون الحكومة قد تشكلت فعليا، ويمكن إعلان ذلك على الملأ.
استقبل الرئيس بومدين وزيره للفلاحة والثورة الزراعية للمرة الثانية على التوالي، وكرر طلبه له بأن يقدم له مرشحين من محيطه المقرب، لتولي كتابة الدولة للإنتاج الحيواني، وكتابة الدولة للإنتاج النباتي، إلا أن الطيبي العربي أصر على موقفه الرافض لتعيين كتاب دولة حتى ولو كانوا من مقربيه، فقد تعرضت الوزارة - حسبه - لعملية ذبح وتقطيع لا نظير له، فملف السد الخضر سحب منه، واستصلاح الأراضي والبيئة سُحبا أيضا من وزارته، والمراد الآن تحطيم ما بقي من وزارة الفلاحة بتعيين كاتبيْ دولة، حيث لا يبقى له كوزير إلا أن يتجول بين القرى الاشتراكية للاطلاع على أحوال الفلاحين، الذين هم أصلا تابعون للاتحاد العام للفلاحين الجزائريين، وكرر على بومدين أنه إن كان يريد التخلص منه، فما عليه إلا أن يقيله من منصبه، وهو مستعد للذهاب إلى بيته، فقد تعب من تعدد المشاكل وكثرة القيل والقال، وغادر الطيبي العربي مكتب الرئيس دون أن يتفقا على حل يرضي الطرفين (8).
بعد أن انفض اللقاء الساخن بين بومدين والطيبي العربي، طلب الرئيس استدعاء الدكتور أحمد طالب لجسّ نبضه واقتراح وزارة العدل عليه، فاتصل عبد المجيد علاهم بوزير الاعلام والثقافة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، ليبلغه أن الرئيس بومدين في انتظاره يوم السبت 9 أبريل 1977 على الساعة الواحدة ظهرا (9).
في اليوم والساعة المحددين، استقبل الرئيس بومدين، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في مكتبه برئاسة مجلس الوزراء (رئاسة الجمهورية حاليا)، وأبلغه أنه ينوي القيام بتعديل وزاري وشيك، واقترح عليه حقيبة العدل. 
أخفى الدكتور أحمد طالب خيبة أمله لأن الجزائر كلها كانت تتحدث عن التعديل الحكومي الذي يقوم به الرئيس بومدين سرا، وسط تسريبات كثيرة جدا، متعمدة أحيانا وغير متعمدة أحيانا أخرى، واعتبر تصرف الرئيس معه نوعا من الإستغباء، حين حاول الرئيس أن يوهمه أنه قد بدأ المشاورات قبل 24 ساعة (10). 
رد الدكتور الابراهيمي عرض الرئيس بأدب، واعتذر عن قبول منصب وزير العدل بحجة أنه لا يستطيع أن ينام قرير العين إذا ما سجن مواطن بغير حق، أو إذا حكم بالإعدام ظلما على شخص ما؟ واختصر المسافة حين قال للرئيس بومدين: أظن أن الوقت قد حان بعد 12 سنة من العمل الوزاري أن انسحب من العمل الرسمي، وأتفرغ للكتابة والمحاضرات التي ألقيها في المدرسة الوطنية للإدارة (11). بعدها، غادر الدكتور أحمد طالب مكتب الرئيس، الذي طلب منه أن يفكر مليا في العرض الخاص بوزارة العدل.
الحقيقة التي لا غبار عليها، أن الدكتور أحمد طالب كان ينتظر تعيينه وزيرا للخارجية، أو كاتب دولة لدى رئيس الجمهورية مكلف بالشؤون العربية والإفريقية، وفقا للتسريبات التي ملأت الشارع الجزائري حينها، لذلك رفض وزارة العدل، ووضع الرئيس بومدين أمام الأمر الواقع (12).
في 16 أبريل 1977، أجرى الرئيس بومدين التعديل الحكومي الذي كان مقررا أن يعلن عنه بتاريخ 10 مارس 1977، فالحكومة الرابعة للرئيس كانت مستعصية جدا، وولدت بعد مخاض عسير، والغريب الذي لم أجد له جوابا شافيا، هو أن حفل استلام المهام بين الوزراء تم في 17 أبريل 1977، دون أن يتم الإعلان عن ذلك في وسائل الاعلام (13).
في 17 أبريل 1977، بمقر وزارة الاعلام والثقافة، استلم رضا مالك مهامه من الدكتور أحمد طالب، الذي طلبه الرئيس بومدين مباشرة بعد حفل استلام المهام بين الوزيرين، وألح عليه أن يقبل وزارة العدل التي أصر الدكتور أحمد طالب على رفضها، وغادر مكتب الرئيس متجها لمنزله، وأغلق بابه على نفسه ولم يغادر بيته لعدة أيام (14).
من كوارث ذلك التعديل الوزاري، أن مصطفى لشرف لم يستلم مهامه، لأنه فضل الذهاب للمكسيك قصد القيام بإجراءات إنهاء مهامه كسفير هناك، إلا أن غيابه طال أكثر من اللازم، التصرف الذي أغضب بومدين، ليتصل الأمين العام الجديد لرئاسة الجمهورية عبد المجيد علاهم بلشرف قصد حثه على العودة فورا لاستلام مهامه كوزير، لكن لشرف بقي في الميكسيك، ولم يعد للجزائر إلا في 02 مايو 1977، ليشارك في أول اجتماع للحكومة الجديدة، ثم يعود للمكسيك في اليوم الموالي، ولا يرجع للجزائر إلا في بداية شهر جوان 1977؛ بوتفليقة بدوره غادر الجزائر بعد لقائه بالرئيس بومدين، ولم يرجع إلا عندما اتصل به علاهم، ليعلمه بتاريخ أول اجتماع للحكومة الجديدة (03 مايو 1977)، أما بلعيد عبد السلام فقد أُعْلن أنه تولى وزارة الفلاحة والثورة الزراعية، مما أغضب الطيبي العربي، الذي اتجه لوزارته، وقال: باق في منصبي و ليكن ما يكون (15).
بين 17 و24 أبريل 1977، عاش الرئيس بومدين أياما صعبة جدا، حاول خلالها جمع شتات حكومة مهترئة منذ يومها الأول، فوزارتا العدل والسياحة لم يفصل فيهما بعد، والطيبي العربي بقي معارضا لقرار تعيين كاتبيْ دولة تابعين له، ولشرف بقي في المكسيك ولم يستلم مهامه، وانتشرت الشائعات وكثر القيل والقال، مما دفع بالرئيس بومدين للاتصال بصفة شبه يومية بالدكتور أحمد طالب، لحثه على قبول وزارة العدل (16).
وسط ذلك الجو المكهرب والزاخم بالشائعات، كلف الرئيس بومدين مدير الاعلام برئاسة الجمهورية الدكتور محيي الدين عميمور أن يلتحق بوزارة الاعلام والثقافة، يشرف بنفسه على تحرير البيان الأول الخاص بالإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة، فحرر الدكتور عميمور رفقة وزير الإعلام والثقافة رضا مالك بيانا باسم رئاسة الجمهورية أذيع بتاريخ 23 أبريل 1977، أعلن فيه عن تعديل وزاري جزئي ضم 17 وزيرا وهم:
1 - عبد العزيز بوتفليقة وزيرا للخارجية (لم يرد اسمه في البيان).
2 - محمد بن أحمد عبد الغني وزيرا للداخلية (لم يرد اسمه في البيان).
3 - أحمد بن شريف وزيرا للري واستصلاح الأراضي وحماية البيئة.
4 - أحمد دراية وزيرا للنقل.
5 - بوعلام بن حمودة وزيرا للأشغال العمومية.
6 - بلعيد عبد السلام وزيرا للصناعات الخفيفة.
7 - محمد السعيد معزوزي وزيرا للمجاهدين.
8 - مصطفى لشرف وزيرا للتربية.
9 - عبد اللطيف رحال وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي.
10 - محمد زرقيني وزيرا للبريد والمواصلات.
11 - محمد أمير بن عيسى وزيرا للعمل والتكوين المهني.
12 - جمال حوحو وزيرا للشبيبة والرياضة.
13 - محمد الياسين وزيرا للصناعات الثقيلة.
14 - سيد احمد غزالي وزيرا للطاقة والصناعات البتروكيماوية.
15- السعيد آيت مسعودان وزيرا للصحة العمومية.
16- رضا مالك وزيرا للإعلام والثقافة.
17 – محمد الصديق بن يحي.
أثار الإعلان الجزئي عن الحكومة الجديدة جدلا واسعا، داخل دواليب السلطة، وحتى على المستوى الشعبي، لتنتشر الشائعات انتشار النار في الهشيم، مما أدخل الرئيس بومدين في حالة من الغضب الشديد، لأنه بدأ يشعر أنه فقد سلطته على أركان حكمه، كما تفطن لأول مرة منذ توليه الحكم عام 1965 لظهور لوبيات قوية جدا تستطيع التأثير في سياسته وحتى في قراراته (17) (18) (19).
من 19 إلى 23 أبريل 1977، زار الدكتور أحمد طالب في بيته كل من، بوعلام بن حمودة، ثم عبد المجيد أوشيش، ثم محمد بن احمد عبد الغني، الذي أوفده الرئيس بومدين إليه، بعد أن اوصاه بأن لا يخبر الدكتور أحمد طالب أنه مكلف من الرئيس للاتصال به، ليطلبوا منه جميعا ويلحوا عليه بقبول منصب وزير العدل، إلا أن الدكتور أحمد طالب أصر على موقفه ورفض الحقيبة المقترحة، لنفس الاسباب التي قدمها للرئيس نفسه.
في 24 أبريل، اتصل عبد المجيد علاهم، بالدكتور أحمد طالب، ليبلغه أن الرئيس في انتظاره على الساعة السادسة مساء، فما كان من الدكتور طالب إلا أن توجه لرئاسة الجمهورية، تماما كما طلب منه علاهم (19).
بمجرد دخوله لرئاسة الجمهورية، سيق الدكتور أحمد طالب على عجل، إلى مكتب الرئيس بومدين، الذي بادره قائلا: سي احمد حشيتلي ركايبي (قطعت ركبي) برفضك للوزارة، ولعلك دون شك ودون أن تدري، قد جعلت الدولة محل سخرية، ذلك أنه لم يحدث أبدا أن طال تعديل وزاري أكثر من أسبوع واحد (20). 
سكت الرئيس بومدين قليلا ثم قال: ينبغي أن تتوقف هذه المهزلة حالا واليوم، ولن تخرج من هنا قبل أن نعين وزيرا للعدل، وما دمت أنت والطيبي العربي سببا هذا التعطيل، فالمطلوب منك أن تقترح لي من يستطيع تولي هذا المنصب (21).
في البداية، اقترح الدكتور أحمد طالب أيت شعلال لكن الرئيس بومدين رفضه بشدة، ثم اقترح العقيد الهاشمي هجرس، لكن بومدين قال: إنه لا يزال في حاجة إليه ضمن صفوف الجيش الوطني الشعبي، ثم اقترح عبد المالك بن حبيلس، فقال بومدين: هل تضمن لي نزاهته؟ فكان رد الدكتور أحمد طالب: قطعا على حد علمي (22). 
لتجاوز الأزمة والمهزلة، اتصل الرئيس بومدين هاتفيا بعلاهم، وطلب منه استدعاء بن حبيلس فورا، ولما وصل بن حبيلس، طلب الرئيس بومدين من الدكتور أحمد طالب، انتظاره في مكتب علاهم، إلى غاية إنهاء حديثه مع ضيفه. وصل عبد الملك بن حبيلس، الذي استقبله الرئيس بومدين، مختصرا الكلام في بضع جمل: سي عبد المالك ستكون وزيرا للعدل في الحكومة الجديدة، ما هو رأيك؟ رد بن حبيلس أنه مستعد للخدمة في أي منصب يسند له، فصافحه الرئيس بومدين وسرحه على السريع (23). 
لم يكد الدكتور أحمد طالب يتبادل عبارات التحية والترحيب مع علاهم، حتى فُتح الباب الفاصل بين مكتب الرئيس ومكتب الأمين العام لرئاسة الجمهورية، ليظهر الرئيس بومدين ويطلب من الدكتور أحمد طالب أن يلتحق به في مكتبه للمرة الثانية على التوالي، وأخبره أنه عين بن حبيلس وزيرا للعدل، وعرض عليه هذه المرة وزارة السياحة، إلا أن الدكتور أحمد طالب اعتذر بحجة أنه تعب ويريد التفرغ للكتابة والتدريس (24) (25) (26).
هنا أنهى الرئيس بومدين المشكلة قائلا: رفضت العدل، ثم رفضت السياحة، الآن أريدك إلى جانبي سأنشئ خصيصا لك منصب وزير مستشار لرئيس الجمهورية، ولا أريد أي كلمة زائدة لأنك ستكون بالقرب مني، وستعمل بصفة مباشرة معي، خصوصا أنني أعتمد عليك في تسيير ملف الصحراء الغربية الذي سحبته من الخارجية، وصار من اختصاصك على مستوى الرئاسة، فلم يجد الدكتور أحمد طالب بدا من قبول المنصب (26).
بعد خروج الدكتور أحمد طالب الابراهيمي، دخل عبد المجيد علاهم، الذي يعود له الفضل في حل المشكلة التي كان فيها الرئيس بومدين، ففي الليلة التي سبقت استدعاء الدكتور أحمد طالب للقاء الرئيس، ناقش الرئيس وأمينه العام حالة الدكتور الابراهيمي وإصراره على رفض وزارة العدل، فقال علاهم للرئيس بومدين: إن الدكتور أحمد طالب كان يظن أنه سيتولى وزارة الخارجية، وقد تسربت له بكل تأكيد معلومات في هذا الموضوع، لكن أمله خاب بعد أن عرضت عليه وزارة العدل، ولا أظن أنه سيقبل وزارة العدل ولن يقبل وزارة السياحة، فرأيي أن تعينه في منصب سامي بالقرب منك بدرجة وزير، وهنا لن يرفض العرض، لأنك تضعه بجانبك، وتستطيع تكليفه بأي مهمة تراه ينفع فيها، كما أن تعيينه بالقرب منك سيفتح له المجال لتولي ملف الصحراء الغربية، الذي قررت سحبه من الخارجية و تكليفه به، كما يمكن تكليفه بمهام دبلوماسية شتى، دون أن يتضارب ذلك مع صلاحيات وزير الخارجية (27).
أعجب الرئيس بومدين بالفكرة، لكنه أصر على أن يعرض عليه وزارة العدل ثم السياحة، فإذا لم يرض بإحداهما، فلا مجال سوى أن يطبق اقتراح عبد المجيد علاهم، لكن: أي منصب سامي بدرجة وزير؟ فكان رد علاهم: وزير مستشار لرئيس الجمهورية، فنجحت فكرة علاهم ، ورضي بها الدكتور احمد طالب، ثم عين عبد الغني العقبي وزيرا للسياحة بناء على اقتراح من علاهم، و لم يبقى غير قضية كاتبا الدولة لدى وزير الفلاحة، الذي يصر محمد الطيبي العربي على رفضهما، هنا اقترح علاهم على الرئيس أن يدرج المنصبان في مرسوم تشكيل الحكومة، دون تعيين من يتولاهما، في انتظار استرضاء الطيبي العربي الذي سيوضع أمام الأمر الواقع، ويقترح مرشحان له لتولي المنصبان (28).
في 28 أبريل 1977، صدر البيان النهائي لتشكيل الحكومة الجديدة، التي استلم وزراؤها مهامهم منذ 17 أبريل، ليطوي الرئيس بومدين أحد أصعب المراحل التي مر بها، منذ توليه السلطة في 19 جوان 1965، وأمر علاهم باستدعاء الحكومة الجديدة للاجتماع في 03 مايو 1977، إلا أن الرئيس بومدين لم يكن يعلم أنه طوى ملف أصعب تعديل حكومي في تاريخ الجزائر، ليدخل في أزمة توازنات جديدة ستمتد لغاية نهاية سنة 1977 (28) (29).
يتبع

الهوامش:
1- عبد المجيد أوشيش: ضابط سامي في الجيش الوطني الشعبي برتبة عقيد تولى إدارة المديرية الوطنية للبناء التابعة للجيش الوطني الشعبي من 1962 إلى 1977، ثم وزير للسكن والبناء من 1979 إلى 1980 ثم سفير في الأرجنتين من 1980 إلى 1984.
2- محمد زرقيني: ضابط سامي في الجيش الوطني الشعبي برتبة عقيد، تولى مناصب كثيرة ضمن قيادات الجيش منها مفتش عام للجيش الوطني الشعبي.
3- مصدر خاص.
4- طريق الوحدة الإفريقية: مشروع ضخم يبلغ طوله حوالي 5000 كيلومتر ويمر من الجزائر العاصمة إلى تمنراست جنوبا ثم يتفرع نحو ومالي والنيجر وصولا إلى نيجيريا، وهو جزء من مشروع شبكة طرق تربط ستة بلدان أفريقية (الجزائر، مالي، النيجر، التشاد، موريتانيا، نيجيريا) ويهدف المشروع إلى تحقيق التكامل الإقليمي وتعزيز التجارة بين شمال وجنوب الصحراء.
5- كان عدد سكان الجزائر عند استقلاها عام 1962 حوالي 9 ملايين نسمة، ليلتفع هذا العدد إلى 11 مليون عام 1966، ثم 15 مليون عام 1972 فـ17 مليون عام 1977.
6- منذ استقلال الجزائر لغاية 1976، لم تبني السلطات أي شيء باستثناء المؤسسات التربوية والاقتصادية، وكان الخبراء يقولون للرئيس بومدين إن العقارات الشاغرة التي تركتها فرنسا، تغطي الحاجيات الوطنية من السكن لمدة 20 سنة، لكن ابتداء من 1975، بدأت بوادر أزمة السكن تظهر وتشتد، مما دفع بومدين لتغيير سياسته، وعين أوشيش لتدارك العجز في السكن الاجتماعي.
7- كان الرئيس بومدين ينوي تعيين اثناين من مستشاريه في منصب كاتبيْ دولة لدى وزير الفلاحة للإنتاج الحيواني وللإنتاج النباتي، إلا أن محمد الطيبي العربي عارض ذلك القرار بشراسة، مما جعل الرئيس بومدين، يعلق تعيينهما إلى أن توفاه الله.
8- معلومة مستقاة من ثلاث مصادر موثوقة، وأكدها بلعيد عبد السلام والدكتور محيي الدين عميمور.
9- معلومة مستقاة من أربعة مصادر، وأكدها الدكتور أحمد طالب الابراهيمي.
10- نفس المصدر السابق.
11- معلومة مستقاة من مصدر خاص مؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
12- معلومة مستقاة من مصدر خاص مؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
13- معلومة مستقاة من مصدر خاص.
14- معلومة مستقاة من مصدر خاص مؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
15- معلومة مستقاة من مصدر خاص ومؤكدة من طرف الدكتور علي بن محمد.
16- معلومة مستقاة من مصدر خاص.
17- معلومة مستقاة من مصدر خاص مؤكدة من طرف الدكتور محيي الدين عميمور (في شقها الخاص بإرساله من طرف الرئيس بومدين لمراجعة نص البيان الصادر عن وزارة الاعلام والثقافة).
18- معلومة مستقاة من مصدر خاص مؤكدة من طرف بلعيد عبد السلام (في شقها الخاص بظهور اللوبيات النافذة داخل دواليب السلطة).
19- راجع نص البيان الصادر في جريدة الشعب الصادرة بتاريخ 23 ابريل 1977 (وثيقة ملحقة رقم 01).
20- معلومة مستقاة من مصدر خاص ومؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
21- معلومة مستقاة من مصدر خاص ومؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
22- معلومة مستقاة من مصدر خاص ومؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
23- كان الرئيس بومدين يتحفظ كثيرا من عبد المالك بن حبيلس، لذلك تردد في تعيينه وزيرا للعدل.
24- معلومة مستقاة من مصدر خاص، وهي مخالفة لرواية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي التي قال فيها : أن ثاني منصب عرضه عليه الرئيس بومدين هو منصب وزير المالية، وذلك غير ممكن لأن بن يحي صدر اسمه كوزير للمالية بتاريخ 23 أبريل 1977، ضمن القائمة الأولى للحكومة، بينما استقبل الرئيس بومدين الدكتور أحمد طالب بتاريخ 24 أبريل أي يومان بعد صدور القائمة الأولى للوزراء، فالأصح أن الحقيبة الثانية التي عرضت عليه هي وزارة السياحة التي كانت شاغرة، وتولاها عبد العني العقبي خلال تكملة التشكيلة الحكومية بتاريخ 28 ابريل 1977.
25- وثيقة ملحقة رقم 02 (جريدة الشعب العدد 4186 الصادر بتاريخ 23 أبريل 1977).
26- وثيقة ملحقة رقم 03 (جريدة الشعب العدد 4186 الصادر بتاريخ 23 أبريل 1977).
27- معلومة مستقاة من مصدر خاص ومؤكدة من طرف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
28- صدر المرسوم المتعلق بتشكيل الحكومة الجديدة في الجريدة الرسمية رقم 37 لعام 1977، وجاء في مادتها الثالثة تنشأ كتابتان دولة الأولى للإنتاج النباتي والثانية للإنتاج الحيواني، و لم يريد من سيشغل المنصبين، ولم يتم تعيين أي أحد في هذين المنصبين بسبب رفض الطيبي العربي لذلك.
29- وثيقة ملحقة رقم 04 (جريدة الشعب العدد 4191 الصادر بتاريخ 28 أبريل 1977).
30- وثيقة ملحقة رقم 04 (جريدة الشعب العدد 4191 الصادر بتاريخ 28 أبريل 1977).

المراجع:
1- كتاب "أنا وهو وهم" للدكتور محيي الدين عميمور.
2- كتاب "الفرص الضائعة" للدكتور محيي الدين عميمور.
3- "التاريخ السياسي للجزائر من 1962 إلى يومنا هذا" للدكتور عمار بوحوش.
4- كتاب "مذكرات جزائري" للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الجزء الثالث.
5- كتاب "حقائق حول الثورة الجزائرية" لمحمد لبجاوي.
6- كتاب "الجزائر وفرنسا 50 سنة من التاريخ" الجزء الأول.
7- كتاب "الجزائر فرنسا والولايات المتحدة من الخطب للعمل".
8- كتاب "المسبح جهاز المخابرات الفرنسية من 1944 الى 1988".
9- كتاب "السياسة الخارجية الجزائرية من 1962 إلى 1978". 

التقارير والوثائق:
1- مراسلات دبلوماسية فرنسية 1962 إلى 1979. (مرفوع عنها طابع السرية).
2- مراسلات دبلوماسية أمريكية 1962 إلى 1977. (مرفوع عنها طابع السرية).
3- مراسلات دبلوماسية سوفيتية 1962 إلى 1977. (مرفوع عنها طابع السرية).

الاثنين، 17 مارس 2025

امثلة عن بعض الحدود الشرعية والأحكام في الجزائر ابان الحكم العثماني

امثلة عن بعض الحدود الشرعية والأحكام العرفية عند عدد من قبائل الشمال القسنطيني في العصر العثماني:

المجلة الإفريقية، العدد 7 (REVUE AFRICAINE 1863). من ص 73 الى 78
الحمد لله
هذا تعريف عواید قبایل زواغة و اراس واولاد حاية واولاد عيدون وبني خطاب وغيرهم وما كانوا يصنعون مع الفارط وأن لكل عرش من أعراشهم جماعة تفصل قضاياهم على حسب العادة السالفة يعينون من كل قبيلة رجلا او اثنين او اكثر يختارون العقلاء والمسنين وكل ما يفصلونه الجماعة المذكورة كمثل النكاح وقسم التريكة وقتل النفس والسرقة وحريق الديار والزرع والتبن وسريقة السلاح والهجوم على المحارم والتعدى على الحدود الفاصلة بينهم:

• الفصل الأول: 
1- ان من عادتهم يزوجون المرأة بالجِّدِي وهذا شرط على التعاقد وان تُوفى المتزوج فيردها من اقاربه أحد منهم ثم الثالث والرابع وهكذا لانهم يرثونها.

2- وان تزوج رجل وظهر به الاعتراض بانه يؤجل عامين فإن بقي على ذلك فتخرج عليه المراة وتتزوج بغيره وياخد رجل جميع ما دفع اليها.

3- وان تزوجت امراة بالجِّدِي وعجز الزوج على دفع صداقها بان اواليها يطلبونه مرة او اثنان فإن تبين عجزه فالجماعة يامرونه بتطليق المرأة ويلزموه ان يذبح كبشا ليطعم به جماعة القبيلة.

4- واذا تعدى احد على رجل من أهل القبيلة وقتله تعمدا
تنهب داره و تهدم ويذبحون له عشرة روس من البقر خطية ويدفع دية كاملة أو ان كانت له بنت او اخت يزوجها أحد من اقارب المقتول ياخدها الدم وتبقى المراة معطية على حسب زواج الجدي.

5 - واما القاتل اذا مُسك وقت القتل يقدموه لاولياء المقتول ليقتلوه في الدم واذا فلت ولم يُمسك فانهم يعاقبونه بمثل ما تقدم وينفوه من عرشه و یبقی ملکه بید اولياء المقتول يتصرفون فيه حتى يقبلوا منه الدية او المعطية والا فلا رجوع لبلاده ابدا.

6- واذا تهموا احدا بقتيلة ولم يظهر القاتل فان اوالياء
المقتول يحلفون المتهوم وخمسين رجلا معد من اقربايه واذا امتنع من الامين او امتنعوا اقرباؤه اولم يتم عدد الخمسين رجلا فيعاقبون المتهوم بمثل ما تقدم.

7 - أن السارق اذا مات بداخل الدار يدفع القاتل اربعين
دوريه، عشرون من عند القاتل وعشرون من عند الجماعة فياخدون ذلك أهل الميت وتنفصل القضية.

8- واذا تشاجرا اثنان وطلع أحدهما زناد المكحلة على
صاحبه ولم تتكلم يذبحون له خمسة روس بقر خطية اذا كان المشاجر معه من غير سلاح وأما من ضرب صاحبه بسكين وجرحه جرحا خفيفا يدفع دورة ونصف خطية.

9- ومن تشاجر في العرش وصدر منه شتم يلزمه راس بقر خطية.

10- وان كان واحد براني ليس هو من العرش وله صاحب
بالعرش فمن تعدى عليه في العرش ياخد صاحبه عشرة ريالا بسيطة واذا كان في الفرح او العرس ياخد صاحبه عشرين ريالا بسيطة.

11 - واذا تضاربا رجلان في السوق فعلى كل واحد منها
ثلاثة دورية خطية.

12 - وان حانوت الحداد الذي يخدم الة الحديد للفلاحة وغيرهم فلا يقدر احد يطلب صاحبہ فے دین له عليه بداخلها ومن تشاجر فيها يتخطى براس من البقر ولا ياخد دينه من غريمه لا اذا كان خارج الحانوت.

13 - واذا وقعت مشاجرة بين اثنين وتقدموا أقارب أحدهما بقصد الحمية وتعاونوا على ضرب الاخر وجرحه فيلزم للمتقدمين رأس بقر خطية ويدفعون أيضا قصاص المجروح.

14- واذا جُرح احد في مشاجرة فلا يقاصصون له الا بعد مضي ستة اشهر بالعادة وان انكسر احد في المشاجرة فلا يقاصصون له الا بعد سنة.

15 - واما اذا سرق احد مكحلة اناس العرش وظهرت عليه فياخد رب المكحلة خمسة دورو بشارة وقيمة المكحلة خمسة وسبعين دورو واما المكحلة الصغيرة اذا ظهر خاينها فقيمتها خمسة وعشرين دورو وبشارتها ثلاثة دورو.

16 - وأما سلاح الرجل مثل السكين والموس وغير ذلك اذا ظهر خاين احدها يدفع راس كبش خطية ويدفع ايضا فيمة الحاجة المسروقة والبشارة دورو.

17 - ومن سرف زايلة يدفع خمسة وعشرين دورية وقيمتها - ومن قص شعر زايلة او غيرها تعمدا يدفع لرب الزائلة زوج دورو.

18 - ومن سرق راسا من البقر سواء كان ذكر او انثى من القبيلة يدفع عشرين دورية قيمة الراس والبشارة.
 
19 - وإذا تسوق للسوق رجل من قبيلة أخرى وسرق سريقة وظهرت عليه فيلزمه ما يلزم لناس العرش او تشاجر مع احد في السوق فیلزمہ ما ذكر واذا احد من اناس العرش سرق أحد البرانية فيجري عليہ الحكم بحسب العادة كما ان البراني اذا ضرب احدا من اناس العرش يلزمه ايضا ما يلزمهم.

20 - واذا كان احد البرانية ظهرت عليه سريقة ولم يرجع للسوق يخاف لئلا يمسكوه فكل من ياتى للسوق من جماعته يطالبونه فيه للسوق الى ان تخلص قضيته.

21- اذا سرقت شاة او معزة وظهرت على احد فيدفع خمسة دورية والبشارة.

22 - ومن سرق قشا أو سرجا او لجاما أو بردعة أو حزاما أو شكيمة وظهرت عليه يدفع اربعة دورية لرب القش مع قيمة المسروق والبشارة.

23 - ومن سرق مطمورا وظهرت عليه يدفع خمسة عشر ريالا بسيطة خطية وفدقيمة المسروق وكذلك من سرق غلة رقعة أو جنان او بحيرة أو نادر الحبوب فمن سرق ذلك يدفع ريالا واحدا ان كان في النهار وان سرق بالليل يدفع خمسة ريالات خطية

 24 - ومن سرق سكة الحراثة وظهرت عليه يدفع زوج دورو ونصف لرب السكة 
 
25 - ومن قصد لدار خالية وسرق منها شيئًا ياخد منه رب الدار دورو ونصف وان فسد قنطاس أو ركيزة أو الباب يدفع دوريين.

 26 - ومن حرق دارا مسفقة بالقرمود يدفع ماية دوريه وأما التي بغير قرمود يدفع منها خمسين دورو واما التي مسقفة بالعود او قشر الفرنان يدفع عنها خمسة وعشرين دورية بحسب العادة وان انكر المتهوم بالحريق يحلف مع خمسة وعشرين رجلا. 
 
27 - ومن قتل كلبا لغيره في العرش ياخد منه رب الكلب خمسة دورية واذا كان قتله عند اذايته بالعض بلا يلزمه شيئ.

28- ومن ضرب نقبة على دار لناس عرشه ولم يسرق شيئا فياخد منه رب الدار دوريين ونصف.

29 - اذا سرق احد جبح نحل وظهر عليه يخسر سبعة دورية ومن سرق مطحنة يخسر دوريين عند ثبوتها.

 30 - ومن قلع غرسا من جنان يدفع دوريين ونصف خسارة ومن حرق زيتونة أو غيرها من الشجر المثمر يدفع خنسة دورية قيمتها و دورو ونصف خطية للجماعة.
 
 31 - ومن حرق نادرا يدفع عشرة ريالا لرب النادر ودورو ونصف خطية للجماعة. 
 
32 - واذا تعدى احد على باب دار لاحد ونكر تعديه رب الدار فيدفع عشرين ريالا بسيطة.

33 - ومن فسد ذيل زايلة او قرن ثور او غيرهها يدفع دورو لربها 

34 - ومن فسد عين زايلة أو ثور او ضرب فرسا لبطنها حتى اسقطت الجني يدفع على احد الفعل عشرة دورية وكذلك من سرق حمارا وظهر عليه يدفع عشرة دورية أيضا

35 - ومن اخد زوجة غيره لما ثبت عليه ذلك يذبحون له سته روس بقر اما ثلاثة ياخدها زوج المراة وثلاثة للجماعة واذا نادت امرة بأعلى صوتها عند تعدي احد عليها واراد فعل الفاحشة بها فيلزم المتعدي العقوبة على حسب العادة ولا يقبلون منه يمينا.

36 - ومن وجد مع زوجته رجلا ومسك احد أحوايج الرجل فقد تحل العقوبة بالمتعدي ولا يقبل منه يمينا واذا لم يمسك له حاجة له فلا يلزمه شي.

37 - ومن غصب امراة وتعدى عليها حسب ما ذكر يلزمه ان تذبح له الجماعة راسين من البقر ومن تعدى على بنت وغصبها تذبح له خمسة روس من البقر.

 38 - و من هرب ببنت وماتت عنده قبل ان يعقد عليها يدفع دية كاملة.
 
39 - واذا هرب احد بامراة وهي معطية لغيرة يدفع صداقها على التمام ويزيد خطية خمسة روس بقر.

40 -واذا كان احد ساكنا في العرش ليس هو من أناس العرش وهرب بامراة يدفع عليه جاره الساكن معه الواجب عليه.
 
41 - واذا هرب احد من العرش بزوجة البراني الساكن في العرش وبقيت عنده أكثر من سبعة ايام يدفع الفاعل ذلك عشرين دورية وترجع المراة لزوجها.

42 - واذا هرب أحد ببنت ولم يسبق لها الزواج فلا يمكنه تزوجها الا برضى اخوانها والا فلا يتزوج بها اصلا ويدفع خمسة ريالا دورية خطية للجماعة واذا كانو حضروا معه اصحابه في اهرابه بها كل واحد منهم يدفع نصف دورو.

43 - واذا وجد أحد رجلا مع زوجته متعانقان وقتلهما فلا يلزمه شيئ.

44 - واذا اذنت الجماعة باحضار اناس العرش


فلسفة الهجرة ، بقلم الدكتور خالص جلبي

 المشكلة في الذين تركوا الوطن ليست واحدة بل ثلاث: فالذين ذهبوا إلى الغرب أصبحت حياتهم لا تعرف الهدوء فقد دخلت الزوبعة إلى حياتهم إلى أجل غي...