الأحد، 19 يوليو 2015

القديس Salvien وقرطاج

هل جمعت قرطاج شر العالم كله بين جدرانها مثلما قال سالفيان الذي أظن أنه زارها في القرن الخامس حسب وصفه لها ؟

بقطع النظر عن حقده الدفين تجاه قرطاج وشمال افريقيا أراه من زاويتي وثيقة تاريخية تستحق الدراسة لأنه يقلب لنا رأسا على عقب ما كتبه الغرب لنا كتاريخ رسمي للمنطقة ، وما يقوله عن أهل المنطقة لا يسوى ثمن بضعة حبات من الملح .

ص 115 : في كل المدن الإفريقية وخاصة بين جدران قرطاج ، شعب بائس ومسكين أكثر من كافر ، لا يمكن له أن يرى راهبا بمعطفه دون احتقار وكراهية كبيرة تجاهه.... ان خادم الرب من صومعة بمصر أو الأماكن المقدسة بالقدس يدخل قرطاج للقيام بمهمة مقدسة ، فور ظهوره أمام العامة ، يستقبلونه بالغضب والتجديف والشتيمة .... ومن يشاهد ذلك المشهد يظن انهم يطاردون وحشا مرعبا ......

ص 61 الى 65 : ... لن أركض قط من مكان إلى آخر ، لن أفحص قط المدن المدينة تلو الأخرى ، خوفا من ان يتهموني بأني أقوم بفحص دقيق لأجد ما أريد ان أقوله ، سأكتفي بهذه المدينة ملكة وأم كل المدن الإفريقية ، هذه المدينة العدوة الأبدية لروما ، أولا بأسلحتها وشجاعتها ، ثم بعدها بعظمتها ومجدها وإشعاعها ، إني أتكلم عن قرطاج . هذه العدوة الكبيرة لروما ، روما الثانية للأرض الإفريقية ، وحدها كافية لتكون لي كمثال وشاهدة ؛ لأنه كل ما هو بالكون صالح لتأسيس جمهورية تملكه بثدييها . بها نجد كل ما هو يعزز الوظيفة المدنية ؛ هنا ، نجد الأكاديميات للفنون الحرة ، مدارس للفلسفة ، معاهد اللغات والمبادئ الأخلاقية ، قوات عسكرية وجنرالات لقيادتهم ، .... نجد حاكم روماني .... قضاة يحكمون في كل شوارع المدينة .... بهذه المدينة أرى فيضا للجرائم ، أرى مدينة يهزها الظلم والجور ، مدينة مليئة بالبشر والنذالة والعار ، مليئة بالثروة وكذلك بالرذيلة ، يتزاحمون حول الشراهة والفساد والسكر ، وهاذم على رؤوسهم تيجان من الورود والآخرون تغطيهم رائحة العطرات ، .... ليسوا كلهم دائخين بالخمر لكن كلهم سكارى بالجرائم .

تقولون شعب فقد عقله ، لا يعرف نهائيا نفسه ، عقله مريض ، خطواته غامضة ، يزدحمون على ان يرموا بأنفسهم في الفسق والفجور .

والجرائم التي سأتكلم عنها كم هي غريبة وشنيعة ، أريد ان أشير على إبعاد اليتامى ، اضطهاد الأرامل ، صلب الفقراء . كل هذه الجرائم تئن يوميا أمام الرب . ...... طبقة غنية جدا وطبقة مسحوقة .

في الواقع ، أي جهة بقرطاج ليست بمسرح للخلاعة والفجور ؟ أي طريق وأي شارع نجده خال من الدعارة ؟ تقريبا كل الطرق والشوارع فخ كشبكة للفجور ، العفة تجد صعوبة لتؤكد صحتها .

نمرة ( فخ للحيوان ) عددهم لا يحصى ولا يعد في كل الأزقة والانعطافات والمسالك ترى بها لصوصا وضعوهم لرصد المسافرين لسلبهم ، يضايقون الناس في الشوارع في كل خطوة ، إلى درجة ولا أحد نهائيا ، مهما كان حذرا ، لا يحصل في فخهم رغم أنه تجنبهم عدة مرات قبلها .
ص 67 : بالنسبة لجميع الناس من منهم عفيف ؟ وأقول عفيف ! من منهم لا يمارس في حياته الزنا والفسق ، وهذا ، بدون توقف ونهاية .

حتى في كنائسهم من الصعب جدا ان نجد انسانا عفيفا .


بالصفحة 69 أرى ان سالفيان على غلط حيث يقول ان الرسل نشروا النور بينهم ، لم يمر أي رسول بقرطاج .

الرجال المخنثين صاروا نساء دون غشاء الحشمة ، ماداموا يمارسون مهنتهم علنا فهذا يجعل كل المدينة مذنبة وشريرة . القضاة يروا ذلك لكنهم لا يحركون ساكنا ، والشعب يرى ذلك ويصفق لهم ، خطأ يرتكبه بعض البشر فقط بطبيعة الحال هكذا يصير عاما على الجميع .
من يصدق هذا ؟ ومن يريد ان يسمع هذا ؟ رجال يستسلمون لطبيعة المرأة ويتركون طبيعتهم الأصلية ، وجوههم ، مشيتهم ، ما هو ظاهر منهم ، وكل ما هو له علاقة بالجنس الرجولي فقدوه .


أذكر القارئ بان سالفيان رجل دين سقطت أمامه الإمبراطورية التي ينتمي لها ، ما يقوله دليل على انه لا علاقة له بالحب الإلاهي الذي يتشدق به .




الخاتمة :

سالفيان لا يعترف نهائيا بكنيسة أغسطين ويراها مرتشية وكانت سببا لاستعمار الوندال لشمال إفريقيا ، وأكرر ما قلته سابقا الاستعمار الوندالي للمنطقة لا علاقة له بالحركة الوطنية الدوناتية ولن ننس ان صديق أغسطين الحاكم الروماني العسكري Boniface تزوج أخت القائد العسكري الوندالي قبل دخولهم بعدة سنوات . فما يقال حاليا وقيل في القرون الأخيرة عن تاريخ المنطقة الديني بعد صعود الغرب واستعماره للمنطقة أراه مجرد خرافات صنعتها الكنيسة لرجال السياسة الغربيين .

نرى مثلا الفاتيكان حاليا يحاول ان يصعد على الساحة آري الليبي ومفهومه الديني القريب حسب ما يدعون من الإسلام لكن ما يقوله الفاتيكان لا علاقة له ب " الحقائق " التاريخية حول سبب انشقاقه عن الكنيسة ، آري قاد الصراع الدنيوي ضد رجال الدين المرتشين وحبهم للمال ، وأظن أن سالفيان كتب الكثير عن الرشوة في الكنائس ويرى ان سبب خراب الكنيسة هو حب زعمائها للثروة . ونرى مثلا أغسطين رغم حربه ضد الآريون في كتابه ( des heresies الطائفة رقم 49 ) نجده يتكلم عن Epiphane وكيف يدافع عن الآريين ويقول انهم تركونا لأن الثروة التي جمعها رجال الدين صدمتهم . فسالفيان يستحق الاهتمام ودراسة عميقة .


سالفيان كبقية الأكثرية الساحقة من رجال الدين ، نظر لقرطاج من زاوية دينية بحتة ، ومن وجهة نظر الكنيسة الغربية ، وغربي يبكي من أجل سقوط روما .


لكن من سنصدق من الذين تكلموا عن قرطاج وشمال إفريقيا ؟

أ
لنا قديس آخر وهو أغسطين عاش في عهد سالفيان تقريبا يعطينا نظرة أخرى " كاذبة " عن الوضع الديني بشمال إفريقيا في أواخر القرن الرابع وبداية القرن الخامس ، ووجهة نظر أغسطين هي الرسمية الآن عند الكنيسة وبدول إفريقية .


الملل والنحل بقرطاج وشمال إفريقيا في عهد الاستعمار الروماني:

أظن حسب ما فهمت يحاول أغسطين ان يعطينا انطباعا على ان الصراع بشمال إفريقيا حول تطهير أرواح البشر كان قائما بين الدوناتيون الوطنيون وبين الكنيسة الكاثوليكية الغربية أو الإفريقية كما يقول المختصين في الأديان والتي كان يترأسها ، والوثنيون كان عددهم محدود جدا ، وحسب تأويل واحد وآخر في زمننا هذا ، وكم كثر عددهم ، سكان شمال إفريقيا قبل دخول الإسلام للمنطقة كانوا إما مسيحيين أو يهود ....

وأظن ان أي كان يلاحظ ان أغسطين يقلل من شأن الطوائف الأخرى بكلمات مثل كانوا ومزرعة صغيرة وزالوا وعددهم ضئيل ... الخ ليعطي للقارئ انطباعا بان الكنيسة هي المسيطرة على الجميع بشمال إفريقيا . ويرى أغسطين ان كنيسته هي التي تملك الحقيقة .
لنرجع للقرن الثاني وننظر إلى ما يقوله فيلسوف قرطاج ترتول حول البدعيون في عهده (1) :

تكلم ترتول عن سيمون الساحر ، وعن Ophites الذي يسبح للأفعى ، ويضعوه فوق المسيح ويقولون أن موسى يعرف مقام الأفعى ... ، وهناك جماعة قابيل الذين يروا هابيل أقل مقاما منه ويعتبرون " الخائن " يهوذا بطلا وأنقذ الإنسانية من شر المسيح الذي يريد تحطيم الحقيقة ، وهناك الساتيون Setthoites الذين يقولون ان الملائكة خلقت كائنان وهما هابيل وقابيل وقامت صراعات حولهما بينهم ، إذا الحكمة السامية عندما سمعت بموت هابيل بعثت مكانه المرأة Seth ، جماعة Corpocrate يقولون ان المسيح ولد من منيّ يوسف ، والسيرنتيون Cirinthe يقولون ان المسيح بشر كالبقية ، والفلنتيون Valintin .... الخ
ولننظر الآن إلى ما يقوله أغسطين حول البدعيين في عهده (2)

ملاحظة فقط : لاحظ كيف أغسطين يقلل من شأن هذه الطوائف بكلمات مثل كانوا ومزرعة صغيرة وزالوا وعددهم ضئيل ... الخ ليعطي للقارئ انطباعا بان الكنيسة هي المسيطرة على الجميع .

ذكر لنا أغسطين في كتابه 88 فرقة ويقول حرفيا انه أول من جمع كل هذه الطوائف العديدة .
أظن حسب ما فهمت يذكر لنا أغسطين فرقة واحدة من قرطاج وهم الترتولين ( الطائفة رقم 86 ) الذين ينتمون للفيلسوف القرطاجي ترتول ، ويقول أغسطين ان فرقتهم صارت ضعيفة وبقرطاج فقط نجد ما حافظوا عليه من بقاياهم وكانوا هناك عندما كنت مقيما بقرطاج منذ بضعة سنوات ، وفرقتهم زالت نهائيا ، وما بقي منهم من مؤيدين انظموا للكنيسة الكاثوليكية ....

ويتكلم كذلك أغسطين عن فرقة أخرى بالمدينة التي كان يسكن بها وهي Hippone أي عنابة بالجزائر ويقول ( الطائفة 87 ) :

لنا ، أو بالأحرى كـــــــــانــــت لنا طائفة بمنطقتنا عنابة تتكون من الفلاحين ، بشكل غير محسوس نقص عددهم . وجدوا ملجأ لهم في مزرعة صغيرة . باللغة البونيقية التي حرفت اسمهم يلقبونهم بالأبولينيون Abeloniens ، غير مسموح لأي كان بهذه الطائفة ان يعيش أعزب ، لكن غير مسموح لهم نهائيا بممارسة الجنس ...

وبالطائفة 69 يتكلم كعادته كثيرا عن الدوناتيون

وبالطائفة 88 تكلم عن البيلاجيون Pelagiens وكانوا موجودين بقرطاج
ويتكلم عن الآريون والنصف آريون وسبب ثورتهم ضد الكنيسة الكاثوليكية .... الخ .



1- Tertullien
Contre les heretiques

2 – Augustin
Des herisies

3 – Oeuvres de Salvien
Traduction
Gregoire et Collombet
Tome second
Paris 1833
__________________
[

.


Abdesslem Zayane
Tunisie

هناك تعليق واحد:

  1. شكرا جزيلا على إهتمامك بما نشرته وتحياتي سيدي

    ردحذف

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...