السبت، 11 يوليو 2015

الدولة الصلدة والدولة المرنة...... حسين درويش العادلي


لكل دولة فلسفة/ سياسة تشكل بنيتها بالعمق، وعلى أساس من هذه البنية يمكن الحديث عن تطور أو وركود أو فشل هذه الدولة أو تلك، فالبنية الذاتية للدولة والتي تشكل جوهرها هي التي تقبل أو ترفض الإصلاح أو التكيف أو التطور استناداً الى أسس ومعايير الدولة فلسفياً وقيمياً والتي تتبلور بدورها كنظام سياسي يتشكل على وفق من هذه القيم والمعايير والأسس ثم يترجم كسياسات وأداء واستجابة لاشتراطات وتحديات البقاء والتطور لنظام الدولة.
النظام السياسي بنية
النظام السياسي للدولة إنما هو بنية تقوم على فلسفة تنتج عنها سياسة، وهو أيضاً جملة أسس ينتج عنها أداء، والبنية والأسس متلازمتان لا انفصام بينهما في أصل نشوء الدولة وفي حركتها تطوراً أو ركوداً وفشلا، فمثلاً يمكن للنظام السياسي الديمقراطي التكيف والتطور والاستجابة للتحديات بحكم بنيته المرنة القادرة على تصحيح الأخطاء واحتواء التناقضات وأسسه القادرة على مجاراة التطور التاريخي للمجتمعات، في حين ترفض بنية النظام الدكتاتوري وأسسه أية امكانية للإصلاح أو التطور بحكم الطبيعة الصلدة المتكلسة للنظام، ولا يمكن تحقيق التطور لفعل الدولة المأسورة دكتاتورياً إلاّ بتغيير بنية النظام ذاتها والأسس التي قام عليها. والحال ذاته ينطبق على النظام السياسي التوافقي القائم على أساس من فكرة المكونات العرقطائفية فهو لا يشذ عن هذه القاعدة،.. من هنا أرى أنَّ أي حديث عن اصلاح النظام التوافقي العرقطائفي هو حديث لا حظ له من التطبيق دون تغيير جوهري في بنية النظام السياسي القائم وأسسه المعتمدة.
جوهر صلد
كما أنَّ الأنظمة الثيوقراطية والأبوية والدكتاتورية والشمولية أنظمة صلدة متصلبة بطبيعتها فإنَّ الأنظمة السياسية التوافقية العرقطائفية أنظمة صلدة بطبعها أيضاً،.. إنها أنظمة ذات جوهر راكد وقوى سياسية سكونية تفتقد شروط التطور الذاتي المستوعب للتحولات في مسيرة الدولة وتصد من القدرة الاستيعابية التي تتطلبها الدولة ككيان حيوي ينفعل ويتفاعل على طول التاريخ.
الدولة كيان حيوي
الدولة هي امبراطورية قوانين ومملكة مؤسسات وهرم سياقات تعبر عن الإرادة العامة لمجموع المواطنين، وهي مظهر صيرورتهم التاريخية التي تتناسب ووعيهم ودرجة تطورهم ونموذج حاجاتهم المتحوّلة والمتنوعة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتنموياً. على هذا الأساس فالدولة المؤسسة القانونية الضابطة والمعبرة عن جمهورها هي كيان شرعي حيوي وفعّال ويجب ألاّ تعرف الخلل في شرعيتها أو السكون في حركتها أو الثبات في تطورها، ومتى ما فقدت الدولة الشرعية أو شهدت الركود فالنتيجة الحتمية هي الإنفصام والجمود ثم الفشل فالفناء، فالتسلط يحتاج الى الشرعية على طول الخط، والتطور التاريخي يلزم الدولة بتطوير قدراتها وإدارتها وسياساتها، والتحولات الجوهرية بمستوى مجتمعات الدولة يحتم على نظام الدولة مجاراته والتعبير عنه كأداء مؤسسي.
حيوية الدولة هنا لا تنتج إلاّ على أساس من الشرعية ومدى تعبير هذه الشرعية عن جمهورها، فالدولة الفاقدة للشرعية لا يمكن أن تعبر أو أن تتلاءم مع إرادة مواطنيها فتكون فاقدة لعناصر الانتماء والولاء والتفاعل وبالتالي فاقدة لشرعية التمثيل فتكون مخالفة لإرادة المواطنين فمعزولة فراكدة فساكنة
فسلبية.
أيضاً، حيوية الدولة تتجسد بقدرة نظام الدولة السياسي الشرعي على التكيف واستيعاب التطورات والتحديات، والتكيف لا ينتج إلا إذا كانت بنية الدولة بنية مرنة ذات جوهر حي ومتفاعل وحرك قادر بذاته على تصحيح الأخطاء واستيعاب التحولات والتكيف مع التطور التاريخي للوعي الشعبي وحاجاته ولفعل الدولة في تجلياته وتطبيقاته المتنوعة.
الدولة كيان حيوي ينمو ويتطور في علاقة تبادلية تضامنية تكاملية مع جمهورها على أساس من بُعد الشرعية وبُعد الوظيفة وبُعد المرونة ووفق فلسفة المواطنة الفعالة والديمقراطية التمثيلية والمدنية المتطورة، وهي ككائن حيوي مؤسسي يزدهر بالحركة والتفاعل والديناميكية الذي تنتجه التعددية المضمونة بسيادة القانون والحريات العامة والمدعوم بالتنمية المستدامة،.. فالدولة على هذا الأساس مشروع استجابة دائم لتحديات دائمة لا تعرف السكون كما تعرفه الأنظمة السكونية الصلدة.
الأنظمة الصلدة
الذي يصيب تطور الدولة بمقتل هو بنيتها الصلدة، فالدولة التي تتلبس الشرعية زوراً وتتكلس على جوهر يعارض أي تطور تعكسه إرادة المواطنين أو حاجات الدولة المتنوعة أو تجدد التحولات أو الاستجابة المباشرة للتحديات. مثل هذه الدولة لا يمكنها البقاء فضلاً امكانية التطور.
الأنظمة السياسية الصلدة هي بنية وكتلة، فهي تعبير عن كل بنية تقليدية فاقدة لشرعية السلطة وممارسة الحكم، وهي تعبير عن كل كتلة سياسية من حزب أو مؤسسة أو نخبة متحجرة وقفية ترفض التطور انطلاقاً من فلسفتها الآيديولوجية الرافضة للتعددية أو استناداً الى احتكارها للتمثيل الشرعي أو انطلاقاً من الحفاظ على مصالحها التي تتهدد بالتغيير. على ذلك فالأنظمة السياسية الصلدة هي أنظمة سكونية تحافظ على الواقع ساكناً راكداً كما هو، وقبال كل تحدٍ تناور وتلتف وتدور في ذات المربع دون المغامرة بالتغيير الذي تطلبه الجماهير أو تتطلبه مسيرة الدولة أو تبتغيه حركة التطور التاريخي، مثال ذلك الأنظمة الثيوقراطية والأبوية والدكتاتورية والشمولية المتلبسة للشرعية بفعل التوارث أو الإدعاء الثوري أو الآيديولوجي للحكم، إنها أنظمة سياسية سكونية ذات بنية صلدة متمحورة على فلسفة الاحتكار للدولة وعلى حملها أمة الدولة ودولة الأمة على رؤية ونسق وسكة محددة لا تغيير لها، وكل تغيير هو تهديد لكيانها ووجودها ومصالحها، لذا هي تعارضه وتقمعه، وإذا ما شعرت بقوة التهديد فإنها ستناور لهدف إفراغ التغيير من محتواه أو لكسب الوقت بغية تفكيكه.
أنظمة فاسدة
غالباً ما تكون الأنظمة الصلدة المتكلسة أنظمة فاسدة، فكما هي فاسدة على مستوى التمثيل والشرعية فهي فاسدة أيضاً على مستوى الأداء ومستوى النزاهة الطهورية، هي أقرب الى مقاطعات عائلية أو حزبية أو نخبوية تملك وتتحكم وتدير السلطة والثروة بعقلية الامتياز لا بعقلية المسؤولية، فالدولة ضيعتها والجمهور عبيدها والثروات
خاصتها.
الأنظمة السكونية الصلدة وإن تمظهرت بسلطات ومؤسسات وأحزاب ونخب وآيديولوجيات وادعاءات.. إلاّ أنها ككل كتلة تعمل خارج إطار التاريخ التطوري للأمة السياسية التي هي الدولة، وهي كتلة منفعة تجهد لبقاء المُلك بيدها وتسعى لبقاء الواقع كما هو ساكناً لضمان بقاء الامتياز، امتياز السلطة والثروة.
أنظمة كهذه لا يمكنها التطور، طبيعتها تأبى ذلك، وإذا ما حاولت التطور فإنها ستنهار، لذا فالحل يتحقق بإزالتها كفلسفة ونظام وثقافة ونهج، بدليل أننا لم نشهد نظاماً أبوياً أو ثيوقراطياً أو شمولياً أو آيديولوجياً ثورياً يتطور من داخله بما يتناسب وحركة التطور التاريخي للمجتمعات والدول، بل رأيناه ينهار، والسبب يكمن في بنيته وطبيعته. إنَّ الأنظمة السكونية الصلدة أنظمة متكلسة وفاسدة بالنتيجة، وهي تُزال ولا تصلح.
النظام التوافقي
النظام السياسي التوافقي نظام سكوني صلد بطبيعته يأبى التطور وعاجز عن الاستجابة للتحديات وراكد يرفض التغيير وهو فاسد بالضرورة، أقصد بالتوافق هنا التوافق العرقطائفي المحاصصي الذي يقوم على وفق مبدأ سياسي يتمحور حول تقاسم الثروة والسلطة والسيادة بين مكونات الدولة العرقية الطائفية الإثنية، ولا أريد به التوافق السياسي، فالتوافق السياسي طبيعي ومشروع في عرف الدولة.
سكونية النظام التوافقي العرقطائفي وركوده ينتج عن أمرين يخلق أحدهما الآخر ويحرسه، وهما: الانقسام والتوازن، انقسام أمة الدولة الى مكونات والتوازن بين سلطات المكونات ذات الهوية السياسية الفرعية الناجزة، فحين يقيم النظام التوافقي العرقطائفي بنيته على أساس من مبدأ المكوّن – على حساب المواطنة – في الاعتراف والحماية والمصلحة والسيادة فإنه يؤسس لانقسام أمة الدولة الوطنية ويبقيها أمماً عرقطائفية متمحورة حول هوياتها الفرعية وقواها العرقطائفية وسلطاتها المعبرة عن مصالحها، فتنتج لدينا صيغة توازن الأمم الفرعية داخل أمة الدولة، فلكل أمة عرقية أو طائفية أو إثنية فرعية هويتها ومصالحها وسلطاتها وقواها السياسية التي تعبر عنها، وهو ما ينتج التوازن السلبي في سلطات الأمم الفرعية التي يسلّحها النظام التوافقي بالفيتو الخفي أو المعلن لتحقيق الشراكة والتوازن، الشراكة التي تتجسد من خلال نظام المحاصصة العرقطائفي الحزبي الذي يبتلع الدولة، والتوازن الذي يصادر مبدأ الحسم لإدارة فعل
الدولة.
النظام السياسي التوافقي العرقطائفي نظام طوائف سياسية متساوية الاعتراف والقوة تشل إحداها الأخرى لتحقيق التوازن وهذا ما ينتج السكونية السياسية العقيمة، وهو أيضاً نظام التماهي بين السلطة والطائفة والحزب وهذا ما يخلق الإقطاعيات السياسية المنتفعة من النظام (سلطة وثروة) فتحارب التغيير. إنه نظام دويلات مقنّع لا يمكن المراهنة على تطوره كدولة، ونظام أمم متقوقعة لا يمكن المراهنة على تطورها كأمة وطنية، وهو نظام تتجسده وتتقمصه قوى سياسية عرقطائفية لا يمكن المراهنة على تطورها كقوى وطنية مدنية،.. والسبب كل السبب يكمن في بنية النظام العرقطائفي القائم على أساس من فكرة المكوّن السيادي على حساب المواطنة الديمقراطية،.. لذا فهو نظام سكوني صلد يأبى التطور
ذاتياً.
الدولة عبارة عن مؤسسة سياسية جامعة وسلطات مدنية محايدة، ومتى ما افترستها الهويات والسلطات لأممها الفرعية فستموت، وموتها هنا هو موت مشروعها الكلي الجامع، عندها ستنوء بنفسها فتركد مسيرتها ويتوقف تطورها وتشهد السكون المميت،.. فلا هي دولة متماسكة تستند الى أمة سياسية واحدة وسلطات تضامنية تدير فعل الدولة، ولا هي مقسمة ناجزة التقسيم على وفق أقيسة هوياتها العرقية الطائفية الإثنية فتريح وتستريح.
لا يمكن للدولة البقاء فضلاً عن التطور إلاّ إذا كانت ذات طبيعة مرنة تستجيب لتطور المجتمعات الذي تفرضه حركة التاريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...