الخميس، 2 يوليو 2015

“تطبيق الشريعة” هل يختلف تصوره عن تطبيقات داعش؟! بقلم منصور بن تركي الهجلة


تطبيق الشريعة كما هو مشاهد في الأدبيات الإسلامية بل وفي الواقع الراديكالي المتطرف المتمثلة في داعش والتنظيمات الجهادية في سوريا، يؤكد تلقي الإسلاميين لفكرة الدولة المستبدة من بقايا الأنظمة العربية وتحت تقبل لمفهوم الدولة الحديثة ذي الفكرة الغربية، مع تغول مبالغ فيه بل ومع قدسية تسبغ بها أحكام قضاتها وولاتها من باب أنها لا تخرج إلا من فم الشرع ومن التوقيع الحقيقي نيابة عن رب العالمين (كما هي بدعة التعبير الخاطئ لابن القيم رحمه الله)، ومفهوم الدولة خضع في الغرب لتحولات وتطورات حسب تاريخ كل بلد وثقافته وصراع قواه المجتمعية؛ إلا أن قومنا أخذوا منهم أسوأ ما عندهم من تصلّب وتعصب وعدم فتح آفاق للتدافع والتحاور والمراجعة، أي حياة العرب لم تنعم بحرية تفكير وبحث علمي وصراع تدافعي حر بين قواه المجتمعية بل حكم بالحديد والنار والاستبداد.
التحديث القسري تحت ظل الدول العربية القومية والبعثية وغيرها كان نابعًا عن مشكلة ثقافية عميقة في هذه النخب؛ بل كانت نخبًا عسكرية تنازع السلطة مع قلة ثقافية وبضاعة علمية كما اعترف طارق عزيز في لقاء سابق عن مستوى ضحالة القيادات العسكرية في العراق وسوريا وغيرها.
ثم التصلب الإسلامي أمام إعادة النظر في الاجتهادات الفقهية التقليدية أمام تصورالدولة كمفهوم حديث لم يسبق للفقهاء معالجته تفصيليًا في ضوء الطرح الحديث، باعتبار أن الإسلامي يعتبر كل ما هو مكتوب في الفقه السياسي أو ما يسمى السياسة الشرعية معاني مكتملة لا يجوز الخروج عنها؛ بل لا يجوز غياب أي معنى حديث أن يكيف في ضوء المعاني القديمة المكتملة، وهذا فساد في الفقه السياسي الإسلامي باعتبار أن الحقوق معانٍ لا تزال مفتوحة للفقه والفهم والنظر والاجتهاد، من خلال النظر في النصوص المقدسة أعني كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أعني المعاني الكلية التي لا تخضع للتحديد بزمان ومكان؛ لأن من المفاهيم الشرعية ما تخضع للزمانية والمكانية، من باب المصالح في وقت التشريع، وهذا مربوط الخلاف المعروف في تصنيف بعض أقوال وأفعال النبي، وهل هي من باب السياسة الشرعية المصلحية كحاكم، وعليه فالحكم يتغير بتغير الزمان والمكان حسب المصلحة، ويكون الحكم من قبل الحاكم، أو هو من باب الفتوى الشرعية التي تقبل أن تكون غير خاضعة للزمان والمكان، وقد تكون أحيانًا خاضعة لذمة الناس المخاطبين وليس للدولة علاقة بها وأحيانًا تكون خاضعة للدولة حسب محددات كثيرة، ومنها أن ما يرتبط بالدولة ما ورد فيه عقوبات محددة من الأوامر والنواهي الشرعية المتعدية.
في ظل مفهوم “الدولة” الحديثة المشوهة المأخوذة من أنظمة الاستبداد العربية ذات الأصل الغربي مع إضافة كلمة “الإسلامية” عليها، تشكلت تحفة فنية من الاستبداد الديني الحديث؛ حيث لا يقتصر الاستبداد على الشأن السياسي حيث الحاكم غير محددة مدة ولايته الذي لا يعترف بالانتخاب الديمقراطي -كما هي أدبيات السلفية- مع اختلاف مع بعض الإسلاميين في حركات الإسلام السياسي؛ بل يمتد الاستبداد ليصل للشؤون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والعلمية، ليتضمن مزاعم لا يطيقونها الإسلاميون بسبب ضحالة قدراتهم بل ومؤسساتهم، هذه المزاعم تتضمن: أسلمة العلوم وأسلمة القوانين، ثم إنشاء نظام حسبة على كل شيء يقبل أن يدخل في مسمى التعزير على العقوبة، ولك أن تتخيل أنواع العقوبات التي قد يتفننون فيها، فداعش مثلًا قد تقوم بتعزير شخص بتكسير عظام ساق وفخذ؛ لأنه قام ببيع حشيش أو تهريبه كما في تسجيل مصور، دون مراعاة لحقوق الإنسان في احترام جسده وعدم تعذيبه بعاهات مستديمة! وقد يتفننون في البتر والجلد والحبس والتعذيب، كله تحت مسمى التعزير! وتحت وكالة القاضي الموقع عن رب العالمين الذي يعاقب على كل المحظورات وبشكل أدق على كل الأمور التي يرونها محظورة، أي جعل الدولة الإسلامية نائبة عن الرب، وهذا وحده كاف لخلق النفاق في الأخلاق؛ فالناس لا يتحلون بأخلاق مستقيمة بناء على رغبة فيها بل يتحلون بأخلاق ترضي القوة السياسية التي تحكمهم باسم الله أو باسم التوقيع عن الرب.
وهناك مشاكل تصاحب فهمنا للشريعة:
(١) تعبدية الشريعة
مشكلة أخرى تعتور مفهوم الشريعة قبل تطبيقها، وهي أن الشريعة غايتها أن تكون رحمة للعالمين، وليست عذابًا للعالمين، كما إنها رحمة ليست في الآخرة؛ بل هي رحمة في الدنيا، والجهاديون يعتبرون الشريعة تعبدًا محضًا يرضي الله فقط بدون التفكير في أن تكون رحمة للناس، ومعنى كونها رحمة أنها معقولة المعنى، وهي معقولية يتناسب انتظامها مع الوضع الإنساني بشكل عام، بمعنى أن المسلم بما هو إنسان فإن انتظام المعقولية للأحكام المرتبة بالمعاملات (سياسية أو اقتصادية أواجتماعية) هي من المشترك الإنساني القابل للدراسة العلمية، وفقًا للعلوم الإنسانية كل موضوع له تخصصه العلمي ومنهجه العلمي.
(٢) سيادة الشريعة بسيادة الفقهاء
وهذا الكلام لا يعجب الدارسين للشريعة؛ لأنهم يظنون أن دراسة النصوص هي التي تجعلهم سادة على الناس، فهم سادة المصدر الوحيد للتشريع، فلا يريدون مزاحمة المسلم العالم بعلوم أخرى من شؤون الحياة في أن يقرر المصلحة والخير والعدل في أي أمر يخص الاقتصاد أو الاجتماع أو التعليم أو السياسة، والمدخل الأصولي الذي يقرره جميع الإسلاميين في هذا هو كما في هذه المقدمات:
المقدمة الأولى: لا يوجد واقعة أو حادثة تخلو من حكم الله، في جميع شؤون الحياة.
المقدمة الثانية: لا مصدر للحكم على الواقعة إلا من  الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
المقدمة الثالثة: ليس لأحد أن يطلق الحكم على الواقعة استمدادًا من الأدلة الشرعية أو المصادر الشرعية إلا إذا كان من أهل الذكر.
طبعًا تفكيك هذه السياجات من الصعوبة بمكان، فهي توضع أولًا ثم تصاغ الأدلة عليها؛ بل قد يكره البعض بعض الأدلة التي تعاندهم، فمثلًا حديث “وما سكت عنه فهو عفو” يشكل إشكالًا عند أصحاب هذه المقدمات السياجية، فالعفو لا يعني الإباحة فقط بل يعني أنه معفي عنه متروك للناس وحينها يخضع لأحكامهم.
نقد المقدمة الأولى: كون الوقائع لا تخلو من حكم الله، فيها لبس، ويتضح المفهوم الصحيح من خلال معالجتنا لأمرين:
أ. مفهوم الواقعة وأنه لا يخص الأمر الواقع الفعلي بل قد تكون الواقعة تعني الواقع بالقوة أو المتوقع، هذا أمر؛ والأمر الثاني هو أن تصور الواقعة قد يكون تصورًا ليس له سابق عهد حتى من حيث جنسها أو في أفرادها بمعنى أن جنسها وقع في الماضي ولم يقع بعض أفرادها أو لم يقع جنسها أبدًا، وعليه؛ فهناك إمكانية لوجود وقائع لم يقع جنسها في الماضي ولم يتم تخيلها من قبل الفقهاء أبدًا؛ مما يستوجب حكمًا جديدًا.
ب. مفهوم “حكم الله” الذي يعتقد أنه لا يخلو من وجوده مع كل واقعة، حيث ينسب الاجتهاد البشري لحكم الله، وهذا باطل بنص الحديث، حتى ولو تساهلنا ووسعنا مفهوم حكم الله، فإن هذا يعارض النص الصحيح الصريح في السنة النبوية مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “وإذا حاصرت أهل حصنٍ فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكم أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا”، وهذا الكلام لو قلته أمام داعشي لكفرك!
فالتماهي بين حكم الله وحكم البشر القائم على الفهم والاستنباط يعد مشكلة المشاكل، وقد نقدت هذا القضية في مقالتي “السلفية بين الابتلائية والنقدية” في موضوع تقسيم الشرع إلى: شرع منزل، وشرع مؤول، وشرع مبدل! فمعظم اجتهادات المجتهدين هي من باب الشرع المؤول وليست من المنزل، واعتبار الشريعة كلها من المنزل غلط ظاهر؛ لذا فالقول بأن الوقائع لا تخلو من حكم الله، ليس على إطلاقه.
نقد المقدمة الثانية: هي أن مصادر التشريع الأربعة سبقت قبل تحديدات الشافعي في أول رسالة صنعت في أصول الفقه وهي “الرسالة”، من خلال ما ذكره الجاحظ عن واصل بن عطاء من أنه هو أول من قال: “يعرف الحق من وجوه أربعة: كتاب ناطق، وخبر مجمع عليه، وحجة عقل، وإجماع الأمة”، وعلى نقدي لواصل بن عطاء في طريقة استفادة الأحكام بشكل جزمي؛ لأن حقيقة الأحكام أنها ظنية، فإن واصل قد أبدع في توسيع حجة العقل التي ضيقها الشافعي قاصرًا على قياس التمثيل الذي يجمع النظير بنظيره في علة جامعة، على أن يكون الأصل ثابتًا بالنص والعلة مستنبطة منه، وهذا فيه تضييق ظاهر على موارد الاستدلال، في الحقوق والواجبات والأنظمة المستحدثة في كل مجالات الحياة؛ فتطلب قياس التمثيل للحوادث تمحُّل بل وتحايل في كثير من الأحيان، وهو ما جعل العقل الفقهي عقلًا تبريريًا اتكاليًا، فهو يبرر ما يراه نافعًا بالبحث عن قياسات تمثيلية في النصوص أو حتى في نصوص الفقهاء، وهو اتكالي لا يقوم بخلق فضاءات تقنينية حديثة؛ لأنه يعجز عن الخروج عن عقلية التمثيل بمثال سابق، وهو في النهاية ممارسة القياس التمثيلي ممارسة وضعية من الفقهاء، يجب أن تنسب للتأويل الاجتهادي لا للتنزيل.
نقد المقدمة الثالثة: الزعم بأن إطلاق الأحكام خاص بالعلماء خطأ ظاهر؛ لأن المسلم مأمور بتحقيق أوامر عامة مثل العدل، فلو حكم المسلم على أمر ما بأنه عدل وأنه واجب هل يحتاج أن يرجع للفقيه؟ الجواب: لا، فالعامي له أن ينشئ حكمًا بناء على تحقيق مناط حكم شرعي عام، ومفهوم العامي مفهوم حادث ليس في الشريعة؛ بل اصطلح أنه من ليس من أهل الذكر، والواقع أن هذا المصطلح يشبه ما نشأ في أوروبا في العصور الوسطى، حيث كان يطلق على الرجل من غير أهل الدين “لاييك” يعني عامي، فالفصل الحاد بين أن يشارك العامة -وقد يكونون علماء خير من علماء الدين- في شؤون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبين العلماء الشرعيين بجعلهم مرجعية عامة في كل الشؤون يفتون فيها، يؤدي في النهاية لا محالة لعلمنة لائكية شاملة تكسر هذه الحدية الفاصلة.
أهل الذكر في القرآن يرجع إليهم في حالة الجهل لا حالة إمكان العلم “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”، ويرجع إليهم للسؤال لا للاتباع، فهم مستشارون يُنيرون للسائل ما يجهله.
فالمسلم أو المسلمون لما يضعون ويقررون مصلحة أمر أو شأن فإنه من الشريعة ولا يحتاج لتوقيع علماء دين ولا غيرهم، وهم يعتبرون من الربانيين كما وصفهم القرآن، فالمسلم الذي يستطيع قراءة القرآن وفهمه ويعرف حدوده يعتبر”ربانيًا”: “ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون”، وتزيد ربانيته بمشاركته بما يصلح شأن مجتمعه فهو متواص بالخير ومتواص بالصبر.
وهذا تقرير مهم في فهم معنى الشريعة بمعناها العام الشامل لتقنينات البشر الوضعية المصلحية.
(٣) شيطنة الوضع الإنساني
يجعل الإسلاميون -وهذا له أصوله الأشعرية- كل الوضع البشري مشيطنًا؛ فالقوانين الوضعية كفر حتى يثبت إسلامها، بينما ما أراه هو أن كل القوانين الوضعية تعتبر إسلامًا ومصلحة وخيرًا حتى يثبت كفرها ومخالفتها للنصوص الشريعة، فمعظم القوانين الحديثة في الدول الحديثة هي هادفة لمصلحة الإنسان وحفظ كرامته، فهي بالأصح تهدف لأن تكون رحمة للناس، كما نزعم كمسلمين أن شريعتنا رحمة للعالمين، وكما سبق فإن تفسير الرحمة عند الاتجاهات الراديكالية المتشددة هي رحمة تعبدية يقصد بها الآخرة لا الدنيا كما هي تطبيقاتهم وإن لم تنطق ألسنتهم، فالتعبد المحض غير المتعقل للمعنى هو الرحمة!
من داعش كأبشع صورة متطرفة عرفها التاريخ الإسلامي إلى الإسلاميين المعتدلين، يعانون من عدم تحرير أصول فقهية أساسية تعالج التصورات الإسلامية المحرفة التي تخلق تصورات متطرفة، خصوصًا عندما تجد لها الحرية في دولة تنتسب إليها، الحديث يطول وضرب الأمثلة لا يفيه المقام؛ لذا أكتفي بالنقاط الماضية.     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...