الجمعة، 28 أغسطس 2015

معنى الله الحق ...... بقلم الباحثة سندس حنون مكاري


يمكننا أن نفهم الحق بما قد يبدو ظاهرياً في منتهى البساطة وهو:
"الجواب الصحيح على أي سؤال"
و المقصود بالجواب الصحيح: الحقيقة الموضوعية غير الخاضعة لنسبية الآراء، وغير المتأثرة بالمصالح والأهواء.
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْ‌ضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِ‌هِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِ‌هِم مُّعْرِ‌ضُونَ ﴿٧١﴾ المؤمنون
مصطلح الحق هو مصطلح مرادف في مضمونه إلى حدّ بعيد لمصطلح الحقيقة الذي نستخدمه في لغتنا العربية الفصحى والعامية. وقد حاولت أن أجد مرادفاً له في اللغة الانكليزية فوجدته يعني المصطلحات التالية مجتمعة: Reality, Truth, Right
Reality وهي عكس Illusion الحقيقة عكس الوهم
Truth وهي عكس Dishonesty أو Falsity الحقيقة عكس الكذب أو الزيف
Right وهي عكس Wrong الحقيقة (الصحّ) عكس الخطأ
الحق إذاً ليس هو مجرد الحقيقة النسبية التي نتحرّاها لإشباع فضولنا حول أمر ما وليس رأياً نعطيه بما نحن معتقدين أنه الحقيقة، لتحقيق مصلحة دنيوية أو لإثبات قضية ما تنسجم مع طريقة تفكير معينة، بل هو واقع الأمر بصرف النظر عن رأينا فيه.
فالحق هو: ما كان حقيقةً وما هو كائن حقيقةً وما يجب أن يكون، وهو يشمل الطريقة الصحيحة والتوقيت الصحيح والزمان الصحيح والمكان الصحيح لتحقيق الغاية الأسمى في الوجود وهي "السلام".
لا أخفيكم بأن فهم مصطلح الحق ليس بالأمر الهيّن أبداً وتدبّر هذا المصطلح في القرآن أخذ منّي تفكيراً طويلاً ومكثفاً إلى أن أمكنني استيعابه بشكل أفضل.
ولتقريب مفهوم الحق الذي هو الله إلى أذهانكم لا أجد أفضل من مثال الصورة الأحجية أو ما يسمى بالبازل (Puzzle: الصورة التي تكون مؤلفة من قطع صغيرة نقوم بتجميعها للحصول على الصورة الصحيحة المكتملة).
في هذا المثال الصورة المكتملة هي الحق، وكل قطعة من تلك الصورة هي الحق أيضاً، ليس هذا فقط بل إن طريقة البحث عن القطع وطريقة التركيب الصحيحة هي الحق أيضاً.
هذا الفهم للحق توضحه الآيات في القرآن ولنقرأ معاً:
ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ‌ ﴿٦٢﴾ الحج
الآية تقول بشكل لا لبس فيه بأن الله هو الحق، انتبهوا لم تقل بأن الله حق بل هو الحق نفسه، فإذا قاطعنا هذه الآية مع الآيات التي تقول بأن الله بكل شيء محيط وأنه على كل شيء وكيل وأنه وسع كل شيء، أمكننا استنتاج أن الحق هو الكل الذي يحتوي كل الأجزاء، أي هو حسب مثالنا الصورة الكاملة.
ننتقل إلى الآيات:
إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا اللَّـهُ وَإِنَّ اللَّـهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٦٢﴾ آل عمران
إِنَّ اللَّـهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِ‌بَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّ‌بِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُ‌وا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَ‌ادَ اللَّـهُ بِهَـٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرً‌ا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرً‌ا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴿٢٦﴾ البقرة
قال عن القصص بانها الحق، وقال عن مثل البعوضة بأنه الحق...إلخ
فكل ما يصدر عن الحق هو الحق، فالقصص التي يخبرها الحق تصبح القصص الحق، والأمثلة التي يضربها الحق تكون هي أمثلة الحق.
ومعنى ذلك أن القول عن قصص ما أنها الحق فإن هذا يعني أنها جرت فعلاً على أرض الواقع وجرت بالشكل الذي تم سرده أيضاً فلا تزوير ولا تحريف ولا تشبيهات مجازية بل هو الواقع كما حدث، وهنا لا أطلب من القارئ أن يؤمن بكل ما يقال أنه "الحق"، ولكن يكفيني الآن أن يكون القارئ مدركاً لمعنى الحق ومقدّراً لأهميته، وسيكون لنا حديث حول منهج التعامل مع الحق.
إذاً هذه القصص والاحداث والأمثال هذه هي القطع التي تتألف منها الصورة الشاملة، فالحق يحتوي الحق في كل أجزائه.
اقرؤوا الآن بكلّ انتباه:
تِلْكَ آيَاتُ اللَّـهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْ‌سَلِينَ ﴿٢٥٢﴾ البقرة
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴿٣٨﴾ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ‌هُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٩﴾ الدخان
هنا يظهر لنا الحق أيضاً في مجال جديد وهو مجال ال"كيف"، الطريقة أو الوسيلة هي أيضاً الحق، فالآيات تُليت بالحق والسماوات والأرض خلقت بالحق.
إنها تقابل في مثالنا طريقة التجميع والتركيب لقطع الصورة.
فالوجود إذاً هو الصورة الكاملة وهو الحق الذي يظهر في كل أجزائه بصمة الحق والتي قد وضعت أيضاً بالطريقة الحق.
مما تقدّم نفهم الحق بأنه الكلّ وأنه في نفس الوقت كل جزء من هذا الكل، ولأننا لا نستطيع أن نحيط بالكل "لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"، فمهمتنا هي التعامل مع الأجزاء الحق التي تتجلّى في مظاهر لا حصر لها، وهذه المظاهر التي تدلّ على وجود الله الحق هي التي تسمى في القرآن ب " الآيات"، وهي موجودة في كلّ مكان وفي كلّ شيء، في أنفسنا وفي كل ما حولنا " سَنُرِ‌يهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَ‌بِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴿٥٣﴾ " فصلت، لذا فكل بحث علمي أو تاريخي أو بيولوجي أو ديني...إلخ يتّسم بالصدق والموضوعية ويهدف إلى اكتشاف حقيقة أو إثبات حقيقة، هو بحث عن الحق وفيه. فمثلاً يعتبر البحث عن الأحداث التاريخية الصحيحة كما جرت فعلاً لا كما أراد ان يراها المؤرخ هو بحث في الحق وعن الحق، نقوم به بالطريقة الصحيحة أي بالحق، فإن توصلنا إليه واقتنعنا بأن ما وصلنا إليه هو الحق علينا أن نذيعه وندافع عنه، فلا نكتمه ولا نحرّفه ولا نساوم عليه وينسحب هذا المثال على كل شيء آخر بما في ذلك ما يحتويه القرآن نفسه فما يظهر لنا من القرآن أنّه الحق علينا أن نتّبعه وندعو إليه، وما لم يثبت لنا علينا أن نتحقّق منه ونحقّق فيه بالحق لنهتدي إلى فهم الحق.




صورة المرحومة سندس حنون مكاري رحمها الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...