السبت، 13 فبراير 2016

معرفة الله بين العقلانية والربانية

العباد كلهم لهم معرفة بربهم على قدر مراتبهم؛ وبسبب هذه المعرفة ينشأ الاختلاف بينهم في الحق. والاختلاف لا يمكن رفعه في الدنيا، لأنه لا يتمكن العبد أن يخرج عن عقيدته إلى عقيدة غيرها؛ إلا إذا كان من أهل الإطلاق. وأغلب الناس ليسوا منهم.
       والسبب في كون العقيدة مقيدة أو مطلقة، هو أن العقيدة المقيدة تكون عقلية؛ والعقل في اللغة هو القيد نفسه. فكيف يخرج مقيد عن قيده؟! هذا لا يكون أبدا! أما العقيدة المطلقة، فهي بالله؛ بمعنى أنها غير مقيدة بالعقل، ولا كانت نتيجة له. وهذا المعنى لا يعلمه إلا من ذاقه، لأن العقل لا يتصور ما هو خارج عنه.
       والاختلاف الذي يكون بين العقائد المختلفة، يكون سببه اختلاف العقول المدرِكة. فلو مثّلنا العقول أواني، ومثلنا المدرَك سائلا، فإن السائل يتخذ شكل الإناء الذي يُصبّ فيه؛ فإن كان مستديرا يظهر مستديرا، وإن كان مستطيلا يظهر مستطيلا، وهكذا... من هنا لما سئل الجنيد عن العارف قال: لون الماء لون إنائه. نعني أن هذا المعنى مما يحتمله قول الجنيد؛ وإلا فله محامل أخرى أعلى من هذا.
       ولنضرب مثلا آخر مفترضا في العقائد المختلفة، ولنقُل: خذ نملة مع فيل. واطلب من النملة أن تنظر إلى الفيل وتصفه لك. والنظر هنا إدراك يشبه إدراك العقل للمعقولات. فهل تستطيع النملة أن تحيط بالفيل من حيث الإبصار حتى تصفه لك؟ كلا! ثم أحضر عدة نملات، وضع كل واحدة منها على جزء من الفيل، وأعلمهن أنه الفيل، واسألهن أن يصفن ما يرين. فستجد كل نملة تنعت الفيل بما تدرك من الجزء التي هي عليه. فقد تصادف أخدودا من أخاديد جلد الفيل، فتقول لك: الفيل وادٍ طويل منعرج؛ وقد تكون على الخرطوم، فتقول لك: الفيل جبل شديد الانحدار؛ وقد تكون على ظهره، فتقول: الفيل أرض واسعة قاحلة يتوسطها جبل طويل. وهكذا...
       ثم اجمع النملات، واسألهن عن الفيل، وانظر ما سيحدث. ستجدهن يدخلن في خصومات فيما بينهن من أجل إثبات عقائدهن في الفيل. وجميعهن صادقات فيما يخبرن به مما يخصهن؛ لكنهن جميعا جاهلات بالفيل الذي تعرف أنت.
       هذا المثل، يوضح لنا اختلاف العقائد الجزئية بين مختلف المذاهب؛ بل بين مختلف الأشخاص لو دققت. وانظر بعد ذلك، إن كان إدراك مخلوق لمخلوق ينتج عنه هذا الاختلاف، فكيف يكون اختلاف المخلوقين في الحق الذي لا يحيط به عقل سبحانه؟!
       أما معرفة العارفين التي نتكلم عنها، فهي معرفةٌ للحق بالحق؛ لذلك هي مطلقة. ولذلك هم يعلمون الحق الذي مع كل طائفة من أهل العقائد، ويعلمون القصور الذي عندهم. بسبب هذا تجد العارفين يسعون كل العقائد، وتجد أهل العقائد منكرين على العارفين.
       فإن قلت: هذا يكون مع العقل المجرد، لا مع العقل السامع من الوحي!قلنا: لنعد إلى المثل المضروب، وضع النملات حيث كانت على الفيل، ثم أخبر كل واحدة عن مكانها؛ فتقول للتي على الخرطوم أنت على خرطوم الفيل، وتقول للتي على الظهر أنت على ظهره، وهكذا... فهذا نظير السمع من الناس لما يأتي به الرسل من عند الله. ولنفترض أن النملات قد حدث عندها إيمان بما أُخبرت، حتى أنك إن سألت التي على الخرطوم تقول لك: أنا على الخرطوم، وإن سألت التي على الظهر قالت: أنا على ظهر الفيل. فهذا نظير الإيمان الذي يحدث عند العباد بصفات الله وأسمائه من الوحي. لكن، هل ترى أنت أن النملات عرفت الفيل كما ينبغي؟! كلا!
       لذلك نقول إن العقل يقيد السمع أيضا (النص)، فلا يفهمه إلا ضمن قيده؛ وهذا عينه سبب اختلاف الفهوم في النص الواحد، رغم الإجماع على التصديق به أنه من عند الله.
       أما العارفون فهم يسمعون من الله بالله، لذلك يعلمون من النصوص ما لا يعلمه غيرهم. وهم أيضا متفاوتون في هذا بين عارف وأعرف. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

المصدر   http://www.alomariya.org/chobahmonkirin_suite.php?id=8

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...