الجمعة، 4 أكتوبر 2024

احداث اكتوبر 1988.. الجزء الاول .. الاستاذ براء عبد الله

أحداث أكتوبر 1988 
الجزء الأول
الطريق نحو الكارثة
.
واهم من يظن أن حربنا مع فرنسا الاستعمارية انتهت في 05 جويلية 1962 ،حين علا علم الجزائر المستقلة ليرفرف شامخا فوق الرؤوس، والحقيقة أن حربا جديدة بدأ سعيرها يشتد ليصل ذروته في فترة حكم الرئيس هواري بومدين رحمه الله، الذي لم يفوت لفرنسااي مناسبة إلا و أصابها في الصميم، فبدأ باستعادة القاعدة البحرية بالمرسى الكبير عام 1966،  مرورا بسلسلة التأميمات التي كلفت فرنسا خسائر فادحة يصعب حصرها بالتدقيق، وصولا لملف التعريب الذي أراد من خلاله أن يقطع أخر حبل بين فرنسا و الجزائر، إلا أنه أجرى خطوة واحدة للخلف عام 1977، في انتظار حل نزاع الصحراء الغربية، ليتفرغ بعدها ثانية، لملف فك الارتباط مع فرنسا، إلا أن المنية وافته فلم يكمل ما بدأه، و انتقل لجوار ربه إثر إصابته بداء خطير و غريب، قضى عليه في لمح البصر.
 بعد وفاة الرئيس هواري بومدين، استلم العقيد الشاذلي بن جديد رحمه الله، مقاليد الحكم في الجزائر حاول قدر جهده تهدئة الأجواء بين الدولتين، فقام بأول زيارة رسمية لرئيس جزائري لفرنسا، و فتح المجال للشركات الفرنسية للعودة قصد الاستثمار في الجزائر، و سعى جاهدا لبناء جسر حوار حقيقي، و فعال بين البلدين، و رغم محاولات التهدئة التي انتهجها الرئيس الشاذلي، لامتصاص الغضب الرسمي الفرنسي،  إلا أن الحرب بقيت مشتعلة في الكواليس، و انتهت باحتراق بن جديد، ثم ليصل لهب هذا الصراع الجزائر الفرنسي للجزائر نفسها، فدخلت البلاد في عشرية سوداء، أتت على الأخضر و اليابس.
لقد كان لفرنسا، دور شنيعا في كثير من الأحداث المأساوية، التي عاشتها الجزائر، فعلى سبيل المثال، حين انهارت أسعار البترول عام 1986 ، و فقدت الجزائر أكثر من ثلثي مداخيلها من العملة الصعبة، مما تسبب في أزمة مالية خانقة، جعلت حكومة عبد الحميد الإبراهيمي رحمه الله، عاجزة حتى على توفير المواد الأساسية للمواطن الجزائري، و صار لزاما على الدولة ككل، أن تتخذ إجراءات صارمة لإعادة التوازن للاقتصاد الوطني، الذي أصبح مهددا بالانهيار، اجتمع المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني، بصفته أعلى هيئة سياسية تملك صلاحية اتخاذ القرار في جميع شؤون الدولة،  خلال هذا الاجتماع الساخن، الذي وجه فيه الرئيس الشاذلي انتقادات لاذعة للوزير الأول، و لمسئول الحزب و نعت الحكومة و الحزب، بأنهما أجهزة عاجزة، و فاشلة و غير قادرة على توفير أدنى شروط المعيشة الطيبة للمواطن البسيط، تقرر مراسلة فرنسا قصد إعادة النظر، في سعر الغاز الطبيعي الذي تصدره لها الجزائر، كإجراء أولي سيرفع من مداخيل البلاد من العملة الصعبة، مما سيعطي للدولة متنفسا يمكنها من تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية،  إلا إن فرنسا رفضت الطلب و كان رد حكومتها على الطلب الجزائري، أن سعر الغاز الجزائري الموجه لفرنسا موافق تماما للسعر المعمول به عالميا، و عليه لا مجال للزيادة في الأسعار.
بعد تلقي الحكومة الجزائرية للرد الفرنسي الرافض لإعادة النظر في أسعار الغاز الجزائري، قررت الحكومة الجزائرية لرد فعل عكسي، تقليل الاستيراد من فرنسا، و وجهت الوزارة الأولى تعليمة لجميع الشركات الوطنية تأمر فيها مقاطعة تامة للمنتجات الفرنسية، فما كان من مديري الشركات الوطنية إلا تطبيق تعليمة الوزارة الأولى حرفيا، و امتنعوا كليا عن شراء المنتجات الفرنسية، و استبدلوها بمنتجات من ايطاليا و اسبانيا و ألمانيا، إلا أن الحكومة الفرنسية بقيت مصرة على موقفها، و رفضت فتح الحوار قصد إعادة النظر في سعر الغاز الطبيعي الجزائري. 
تحت وقع الديون الأجنبية، و شح العملة الصعبة، و الرفض الفرنسي بإعادة النظر في أسعر الغاز الطبيعي، قررت الحكومة الجزائرية توجيه ضربة أخرى للضغط أكثر على فرنسا، فقامت بإلغاء النشرات الإخبارية الناطقة باللغة الفرنسية، التي كانت تبثها القناة التلفزيونية الجزائرية (لاحظوا أن بوتفليقة أعادها، و صارت تبث من جديد 25 سنة بعد ذلك) كما قررت الحكومة الجزائرية تخفيض مهول لعدد ساعات دراسة اللغة الفرنسية في جميع المدارس و المتوسطات و الثانويات، كما أخرجت قانون تعميم التعريب من جديد، و بدأت تلوح بضرورة إكمال ما بدأه الرئيس هواري بومدين رحمه الله، في مجال التعريب في إشارة واضحة و جديدة، أن الهدف هو إرغام فرنسا على قبول إعادة النظر في سعر الغاز. حاولت الحكومة الجزائر هذه المرة، أن تضرب على الوتر الحساس، الذي لا تساوم عليه فرنسا، و لا تحب اللعب عليه (اللغة الفرنسية)، إلا أن الحكومة الفرنسية حافظت على خط سيرها الرافض لأي ضغط جزائري.
بعد فشل الحكومة في إرغام الجانب الفرنسي، على قبول طلب إعادة النظر في سعر الغاز، لم يبقى في يد الحكومة الجزائرية أي خيار أخر، سوى قطع التموين على فرنسا، و فسخ المعاهدة التي تربط البلدين فيما يخص تموينها بالغاز الطبيعي الجزائري، إلا أن قرار كهذا، لم يكن لتتخذه الحكومة الجزائرية، دون أن تحسب نتائجه على المدى القصير و المتوسط و البعيد، كما يجب دراسة انعكاسات هذا القرار على جميع شركاء الجزائر التي تمونهم بالغاز الطبيعي، لذلك قرر الرئيس بن جديد، تشكيل لجنة عمل تضم:
1-  الوزير الأول عبد الحميد الابراهيمي.
2- وزير الطاقة بلقاسم نابي.
3-  وزير التجارة محند أمقران شريفي.
4-  وزير الخارجية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
5- وزير النقل رشيد بن يلس.
6- و مدير ديوان الرئاسة العميد العربي بلخير 
كانت مهمة هذه اللجنة، إيجاد حل يجبر فرنسا على قبول المقترح الجزائري الخاص بإعادة النظر في سعر الغاز. 
لم تجتمع هذه اللجنة إلا مرة واحدة فقط، لم تجتمع بعدها أبدا، حيث اقترح أحد أعضائها فكرة تصيب فرنسا في مقتل حيث قال: إن فرنسا دولة تكره أن تمس لغتها و ثقافتها من أي كان،  فإذا قمنا بغلق الثانويات الفرنسية في الجزائر (وهران، الجزائر و عنابة) فإنها ستعي أن الجزائر تسير في طريق يخرجها عن دائرة الفرنكوفونية، و بالتالي ستفقد فرنسا دولة كانت للغة و للثقافة الفرنسية مكانة مرموقة فيها، دار نقاش حاد بين أعضاء اللجنة، و انتهى بهم الأمر لرفع المقترح للرئيس الشاذلي قصد البث فيه. 
و في 30 جوان 1988 (و بدون علم أغلبية أعضاء اللجنة السابقة الذكر) راسلت الخارجية الجزائرية، نظيرتها الفرنسية لتعلمها أن الجزائر قررت غلق الثانويات الفرنسية الثلاثة الموجودة في الجزائر، لقد كان لهذا القرار وقع قنبلة نووية في الأواسط الحكومة الفرنسية، التي اعتبرت القرار الجزائري انتهاك واضح و صارخ و مباشر، لكل شيء له صلة بالثقافة و الهوية الفرنكوفونية.
في نفس اليوم الذي أبلغت فيه الخارجية الجزائرية نظيرتها الفرنسية (30 جوان 1988 ) أن الدولة الجزائرية قررت غلق الثانويات الفرنسية، في كل من الجزائر العاصمة و وهران و عنابة، مع تحويل المقرات إلى صاحبها الأصلي (وزارة التربية الوطنية الجزائرية) انعقدت دورة استثنائية للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، لدراسة نقطة واحدة فقط مدرجة في جدول الأعمال هي : ملف الوحدة مع ليبيا، المشروع الذي وزع على كامل أعضاء اللجنة المركزية و الذي كان يتكون من 164 صفحة من ضمنها مشروع دستور الإتحاد بين الجزائر و ليبيا يتكون من34 صفحة و يضم 90 مادة تحدد تنظيم و سير مؤسسات الوحدة بين الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية و الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، و جاء في مداخلة الشاذلي بن جديد الأمين العام للحزب الحاكم (حزب جبهة التحرير الوطني)، أنه تم الاتفاق مع الطرف الليبي، على تنظيم استفتاء في كل من الجزائر و ليبيا بعد الدخول الاجتماعي في شهر سبتمبر 1988 دون أن يحدد تاريخ بعينه، و اكتفى بالقول أن الإخوة الليبيين مستعدون لمنح الجزائر رئاسة هذه الدولة الاتحادية، كما إنهم مستعدون ليشغل الجزائريون المناصب السيادية، في الدولة الجديدة متى جرى الاتحاد بين البلدين. 
لقد كان لهذا الخبر وقع قنبلة نووية ثانية هزت أركان فرنسا، فباريس التي كانت تمارس ضغوطات مهولة، و تتماطل في تمويل الجزائر (عن طريق نادي باريس) بالقروض الضرورية لسير اقتصادها، استشعرت أن مصالحها أصبحت مهددة، فالجماهيرية الليبية دولة تمتلك موارد مالية ضخمة لو أضيفت إليها القدرات الاقتصادية و البشرية الجزائرية فإنها ستنتج عملاقا، يمكن أن يتسبب في اختلال التوازن بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، و قد غدت المخاوف الفرنسية القروض التي قدمها العقيد معمر القذافي قبل ذلك للجزائر بقيمة 100 مليون دولار ثم تبعه بقرض ثان بنفس القيمة و قرض ثالث بنفس القيمة أيضا، دون أن يحدد تاريخ للسداد و لا أن يشترط أي شيء مقابل ما قدمه من مساعدات مالية للجزائر، كما قام العقيد القذافي بفتح ليبيا للشركات الوطنية الجزائرية الراغبة في دخول المناقصات الدولية الليبية. و ما زاد مخاوف الغرب من هذا الاتحاد بين الدولتين هو طابعا العربي الإسلامي، ففي المادة الخامسة من مشروع دستور الاتحاد بين البلدين، جاء أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في دول الاتحاد، و في المادة السادسة جاء : أن الإسلام هو دين دول الاتحاد، و هو مصدر من المصادر الأساسية للتشريع فيها، فهل كانت فرنسا و دول أوروبا المطلة على البحر الأبيض المتوسط، مستعدة لقيام دولة إسلامية في الجهة الجنوبية المقابل لها من البحر الأبيض المتوسط ؟ طبعا لا. 
جاء أيضا في المادة العاشر من مشروع الدستور : أن الاتحاد مفتوح لكل الدول العربية، و لا يشترط فيه تجانس التنظيم السياسي و الاجتماعي الداخلي لكل قطر ، بمعنى أن الاتحاد مفتوح لأي دولة عربية مهما كان موقعها الجغرافي بعيدا عن الجزائر و ليبيا و مهما كان نظامها السياسي ملكيا أو جمهوري، مما كان سيعطي بعدا استراتيجيا للاتحاد الذي كان ستنظم له بدون أدنى شك كل من تونس و موريتانيا، مما كان سيزيد من قوة تلك الدولة لو كتب لها أن ترى النور. 
لم تتوانى الصحف الفرنسية، و من خلالها الإعلام الفرنسي ككل، بمهاجمة مشروع الوحدة بين الجزائر و ليبيا، و اعتبرت الصحافة الفرنسية هذا المشروع خطرا على المصالح الأوروبية في المنطقة، بحيث سيصعب التعامل مع إتحاد سياسي و اقتصادي يجمع دول المغرب العربي الخمسة، بما لها من موارد طبيعية و بشرية تمكنها من الاستغناء كليا عن القروض البنكية الأوروبية، مما سيعطي لهذه الدول مجالا للاستقلال في اتخاذ قراراتها السياسية، دون الخوف من ردود الفعل الأوروبية اقتصاديا.
في نفس هذه الفترة أنهى مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الاقتصادية (غازي حيدوسي) تقريره الخاص بإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، الذي كلف بإعداده في بداية السنة، حيث أضاف (غازي حيدوسي) كلمة للتقرير لم يفهمها أي أحد حينها، قال غازي حيدوسي بالحرف : (إن أي إصلاح للاقتصاد الوطني غير ممكن في وجود حزب واحد، و إن أي إعادة هيكلة للاقتصاد ،لا يمكن أن تتم ما لم يفتح المجال للتعددية السياسية)، و بمجرد تقديمه للتقرير المذكور خرج غازي حيدوسي في عطلة، و لم يلتحق بمنصبه برئاسة الجمهورية حتى 06 أكتوبر 1988 أي 24 ساعة بعد الأحداث الدموية التي عاشتها الجزائر العاصمة حينها. 
ميز صائفة عام 1988 سخونة مرتفعة جدا، و خرج 90 بالمائة من كبار المسئولين في الحزب و الدولة في عطلتهم السنوية، بينما كانت الجزائر فوق فوهة بركان، لتنفجر قضية رشيد موحوش، و البنك الخارجي الجزائري و يتورط توفيق بن جديد في هذه القضية، التي هزت أركان الدولة، و أثرت سلبا على الرئيس بن جديد، الذي أخذ يستشعر الخطر المحدق به، و مع ذلك ترك الجزائر العاصمة و هي تغلي، و توجه للإقامة الرئاسية في بوسفر بوهران، لقضاء عطلته الصيفية التي استمرت حتى بداية شهر سبتمبر 1988، تاركا شؤون الرئاسة لمدير الديوان العميد العربي بلخير الذي أمسك بشؤون البلاد كاملة، خصوصا و أن الأمين العام لرئاسة الجمهورية مولود حمروش، خرج هو أيضا في عطلة صيفية، فلم يبقى في الرئاسة غير بلخير، الذي  لم يغادر منصب عمله خلال فترة الصيف كاملة.
اشتد حر الصيف و اشتد معها استياء الشعب، فقد اختفت تماما كل المواد الأساسية من المحلات و من أسواق الفلاح، كما ميز تلك الصائفة، الانقطاعات المتكررة و الطويلة للمياه الصالحة للشرب، فلا مياه متوفرة و لا زيت و لا سميد و لا بطاطا، و ما زاد الوضع تعقيدا هو الإشاعات التي انتشرت انتشار النار في الهشيم التي مفادها أن كل ما حدث و ما يحدث مقصود و مفتعل.
الرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله لم يكترث كثيرا للوضع القائم في البلاد، و بالرغم من الحالة المتردية للاقتصاد الوطني، و الإشاعات و الأزمة السياسية الخانقة مع فرنسا، أخذ انطلاقا من مقر إقامته ببوسفر بوهران يستقل سيارته الخاصة (سيارة بي أم دوبلفي) بدون سائق و بدون حراسة و لا يصطحب معه إلا ضابط التشريفات واحد، و يقوم بجولات للحدود الغربية قصد الوقوف بنفسه على مدى تقدم أشغال إعادة تهيئة مراكز العبور قصد إعادة فتح الحدود مع المملكة المغربية التي تقررت خلال مؤتمر القمة في زرالدة في 10 جوان 1988، كما كان يتوقف في الطريق ليتكلم مع الناس، و يستمع لانشغالاتهم بعيدا عن البروتوكول و الرسميات و الحرس الذين كانوا يمنعون أي شخص من الاقتراب منه. هذه العملية مكنت الرئيس بن جديد من معرفة الوضع الحقيقي للبلاد بعيدا عن التقارير الطويلة التي كان يجد عناء كبيرا في قراءتها و استيعاب كل ما فيها، لقد كان بن جديد رحمه الله، شخص عادي جدا يفضل الاستماع لمواطن بطريقة مباشرة فيفهم منه ما يشغل باله خير له من قراءة تقارير كاذبة تصور له الوضع على أن الجزائري يعيش في جنة، و إن هذه الزيارات التي قام بها الرئيس منفردا للحدود الغربية، و اختلاطه المباشر بالشعب بعيدا عن الرسميين، أعطت له صورة حقيقية للوضع، و سيكون لها وقعها خلال خطابه في 19 سبتمبر 1988.
يتبع


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

فلسفة الهجرة ، بقلم الدكتور خالص جلبي

 المشكلة في الذين تركوا الوطن ليست واحدة بل ثلاث: فالذين ذهبوا إلى الغرب أصبحت حياتهم لا تعرف الهدوء فقد دخلت الزوبعة إلى حياتهم إلى أجل غي...