الخميس، 17 مارس 2016

الدّولة الوطنية في الجزائر.. عابرون في أنظمة عابرة ..... الدكتور اسماعيل مهنانة

منذ شوشناق (13 ق.م)، لم ينجح أي نظام، تقريباً، في تخليد دولته في المغرب الأوسط (الجزائر).
وربّما تكون الدّولة الأطول عُمرًا هي دولة النّظام الكولنيالي الفرنسي (132 سنة) باعتبار أن العثمانيين قبلهم لم يؤسسوا أية دولة مركزية، بل مجرّد حاميات جهوية تقوم على تحالف


القبَلية ونظامِ جبائي قاهر.
كما أن الدّويلات الإسلامية المتعاقبة على المنطقة لم تعمّر أطولها أزيد من قرنِ، وهكذا كان حال الروّمان قبلهم وما تخلّل حكمهم من دولّ أمازيغية باستقلال ذاتي أو كليّ.
يدعونا كلّ ذلك إلى التّفكير جدّيا في معنى السيّاسي داخل هذا الإقليم الواسع، القريب من الغرب وأوروبّا جغرافياً، البعيد عنه ثقافياً، وطرْح الكثير من الأسئلة حول مصير الدّولة الوطنية الحالية، وحول حدود «الأمّة الجزائرية»، حول مسألة الهويّة ومصيرها، وحول هذه التّوليفة الرّاسخة من العسكري والجغرافي، التي ظلّت شرطاً أساسياً لقيام أيّة دولة، وستبقى العنصر البنيوي للسّياسي لقرون أخرى.
ولكي لا نسقط في إعادة إنتاج طروحات عبد الله العروي (1933-) في المسألة بقدر بما يجدر بنا اختبارها وتفكير التّاريخ المتقطّع لصيرورة السّياسي داخل هذا الفضاء الجغرافي الذي سمّاه العروي بالمغرب الأوسط، ووصمه بالفراغ الحضاري، وبوصفه تاريخياً فضاءً «للعبور»، العبور بين مركزين وحاضرتين (تونس والمغرب) ومحلّ تجاذب وتقاطب حضاري لهذين القطبين.
الجهوية واقع أنثروبولوجي وسياسي لا يؤدّي إنكاره إلا إلى المزيد من التعنّت والديماغوجيا السياسوية والتّعالي على الواقع، وهذا هو الخطأ الذي ارتكبته الدّولة الوطنية الفتية فور ظهورها، خطأ في التّفسير، نتج عنه خطأ في الممارسة.
فقد اعتبرت دولة الاستقلال أن الجهوية من صنع الاستعمار الفرنسي وأنّ النّظام الكولنيالي تعمّد ترسيخ هذه الجهوية بإدارة جهوية، ضمن سياسة «فرّق تسُد»، وهو ما ينمّ عن قصر نظر تاريخي وسياسي فادح، ولهذا ارتأت أن الحلّ يكمن في فرض الوحدة الوطنية بفرض نظام تعليمي واحد، ولغة رسمية واحدة، وسياسة اجتماعية وثقافية واحدة، وهو أيضا ما كان خطأً سياسيا فادحاً ستكشف الأحداث هشاشته في ظرف قصير بعد الاستقلال (أحداث الرّبيع الأمازيغي في أفريل 1980 دليل على ذلك).
إنّ ما يدعو لقيام دولة مركزية في جغرافيا متنوّعة هو نفسه ما يعوقها: «المنطلق هو التنوّع والاختلاف بشتّى أشكاله وصوّره. ينجم عنه نوع من الصّمم. ثمّة خطاب وثمّة تواصل، لكن في مدار ضيّق، نسمع من المحاور ما نودّ أو نستطيع أن نسمع وقد نختزل ما نسمع إلى ما هو تافه نافل. مكوّنات السياسة عندنا هي في الوقت نفسه موانع السياسة» (عبد الله العروي، من ديوان السّياسة، 2009).
لهذا فقد سقط نظام الاستقلال في الشمولية دون وعي منه، الشموليات تتناسل تاريخياً عن بعضها، «خمرٌ جديد في كأس قديمة» كما يقول الإنجيل، فالمسيحية هي ستالينية العصور الوسطى، والنّازية وريثة القومية، والفاشية ورثت الشمولية الكنسية القديمة، كما أن الإسلام السّياسي وريث القومية العروبية المهزومة، والوطنية وريثة النّظام الاستعماري.
يكمن الفرق الجوهري بين النّظام الكولنيالي ونظام الدّولة الوطنية في كون الأول بنى سياساته الاجتماعية والثقافية على معطيات أنثروبولوجية علميّة بينما الثّاني يلقي بسياسته ارتجالاً وحسب أهواء ومزاج الزّعامات العابرة. ولهذا فقد انتهج النّظام الكولنيالي سياسة جهوية متعددة، بحيث قسّم الجزائر إلى خمسة أقاليم كبرى، فرض على كلّ إقليم سياسة تلائم خصوصياته (منطقة متّيجة، منطقة الشّرق، منطقة الغرب، الصّحراء، القبائل الكبرى، والمدن الكبرى)، بينما فرض نظام الاستقلال سياسة واحدة على كلّ المناطق، متجاهلاً منطق الاختلاف وضارباً حقوق الأقليات عرض الحائط. والنتيجة الأولى، هو أن التعدّد الذي انتهجه المعمّر أتاح له الاستمرار في الزّمن والتّاريخ، بينما الأحادية التي فرضها نظام الاستقلال تجبره على تغيير سياسته كلّ عشر سنوات، وهو منطق مفهوم جدّا.

 يعلّمنا التّاريخ أن كلّ ضعف إنما هو ارتخاء يصيب الدّولة المركزية يعود بالمجتمع إلى تشكّل سياسي سابق على الدّولة، فالمجتمعات لها قانون خاصّ في الانتظام الذّاتي، يرتقي وينحسر، يتقدّم ويرتكس حسب الظّروف.
قد تقود الردّة عن الدّولة الوطنية إلى وضع القبيلة، أو وضع الطّائفة الدينية، أو العرقية. وهذا ما حدث في العشرية الحمراء، من سنوات الحرب الأهلية(سنوات التسعينيات من القرن الماضي)، فقد ارتكس المجتمع إلى التشكّلات السابقة للدّولة، وهو السّلوك الذي سيتكرّر إثر أيّ انحسار للدولة المركزية، لهذا يكون صعود الإسلاميين إلى السّلطة نتيجة حتمية لأية انتخابات ديمقراطية في الجزائر، فالمجتمع في معظمه متديّن وغير مسيّس، والأميّة السياسية هي الديانة الأولى في البلد. السّلطة تعرف ذلك تماماً، ودوائر التفكير الاستراتيجية أيضاً تعرف ذلك، إنها لحتمية مفزعة وحزينة، أن يكون الخيار محصوراً بين حكم العسكر أو الكهنوت الديني.
والنتيجة، هي أنّ النّظام القائم صار مضطرّا إلى أن يلعب لعبة مزدوجة: فهو يصدّر للخارج صورة الدّولة التي تحترم حرية الاعتقاد والضّمير والفكر كما ينصّ على ذلك الدستور (المادة 36) وفي الوقت ذاته يسوّق للدّاخل صورة النظام الحامي للعقيدة والدّين كما تنصّ المادة الثانية من الدستور.
من هذه اللعبة تتفرّع لعبة سياسوية أخطر فالسّلطة في الجزائر تحاول احتكار كل عناصر الهوية (العروبة والإسلام والأمازيغية) والمعارضة بقطبيها الأساسيين (الإسلاموية والبربرية) تنازعها في احتكار أحد هذين المكوّنين، وهنا لجأت السلطة إلى إشاعة تهديد مُضمر لأنصار الطرفين بأن انسحابها وغياب هيمنتها يؤدّي إما إلى هيمنة طرف على طرف وإمّا إلى التّناحر العنيف بينهما، أي أنها تحرّك في كلّ مرّة أحد الطرفين لتعضيد شرعيتها بوصفها الوسط الضامن للتّعايش. كأن تحرّك الجيل الثالث من الإسلاميين للتخويف بالشمولية أو تشرعن الحركة البربرة الانفصالية (الماك) للتخويف بالانقسام، لعبة خطيرة خاصة حين ترهن مستقبل أي تعايش ببقائها.
إن هذا التّلاعب يشهدُ على عدم نضج فاضح في الأداء السّياسي للسّلطة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...