الخميس، 17 مارس 2016

الوسواس الفكري

كم جميل أن تصنع للناس وسواس فكري هم في منأى عنه, فتتركهم يتخبطون في تلك الفكرة قياما وقعودا ,وعلى جنوبهم ,فلا يجدون لها حلا ولا تأويلا ,,ولا يجدون لها مفرا ولا مهربا سوى تقبلها والايمان بها وذلك على انقاض الفكرة السالفة التي عاش بها وعاشت به ,,او انكار هاته الدخيلة ومعارضتها بقوة للحفاظ على المرجع السابق من الشرخ ,,

قد يكون هذا الوسواس الفكري يحمل في كنهه حقيقة مهمة , او قد يكون مجرد خزعبلات لا أساس لها من الصحة , او قد يكون مما يصطلح عليه “الفكرة الهراء” ,, هاته الاخيرة التي قد يقدمها لك موسوس في نقاش محموم يطغى عليه التشنج ومحاولة اثبات الذات على حساب الاخر ,ومفادها ان يأتيك بفكرة ويعطيها صفة الحقيقة , ثم يطلب منك نفيها أو اثباتها , فيضعك في ورطة تجعلك مذبذب بين ذلك ,لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء , فأي جواب تتفوه به سيطالبك بالدليل , سواء أكنت نافيا او مثبتا ,, الشيء الذي يجعل ذاك الموسوس يشعر بنشوة النصر المزيف اصلا من البداية .
وكمثال على ذلك سأعطيكم نموذج شخصي , لطالما شغلني منذ طفولتي في مرحلة الصدمة الفلسفية التي يتعرض لها كل شخص عندما يبدأ بطرح الاسئلة الوجودية على الوالدين والاقربون ,, فيتلقى الجواب الجاهز الذي نعرفه جميعا ,مع توبيخ صغير يكفي لإسكات الطفل وقطع الطريق عليه من هكذا اسئلة مرة اخرى ,,, وبدوري لم أسلم من هاته الصدمة الغير غريبة والمتوقعة من الجميع ,,لكن الغريب هو التساؤل الذي ظل يراودني طيلة مدة ليست بالقصيرة والذي تخلصت منه في السنوات الاخيرة بتخلصي من اشياء اخرى .
تساؤلي دائما كان مبنيا على الشك وكثرة الظنون في حياتي والمحيطين بي ,في اهلي في اصدقائي في الغير والاخر في كل شيء اشك الا في نفسي ,ورغم اني كنت اعلم ان الشك والظن غير مرغوب بهما في ديننا ,تحت قانون الآية التي تقول “ان بعض الظن اثم ” الا انني كنت اجد مسوغا لذلك واقول ” ان بعض الظن اثم ; بعضه فقط اما البعض الاخر فمن الفطنة وحسن التدبير ” ,,
ولم يكن الشك الذي اعتمده شكا على الطريقة الديكارتية ,وان تقاطعت معه في بعض الامور لكن الشك الذي تبنيته كان اكثر تشددا ,, كنت أتساءل واقول هل يمكن لهؤلاء الاشخاص الذين اراهم من حولي ان يكونوا مجرد ممثلين من عالم اخر ,او غير موجودين اصلا , انهم هنا لكي يخفوا عني حقيقة لا يريد من يهمه الامر ان اعرفها (للإشارة لم اقتطف هذا التساؤل من الفيلم الامريكي The Truman Show للممثل الكوميدي الشهير “جيم كاري” فهناك اختلاف كبير في التصور ,ثم ان الفكرة تكونت كما اشرت في مرحلة الطفولة ,,والدليل على ذلك اني وجدت فيما بعد ان هناك من كانت له نفس الفكرة وليست حصرية في مخيلتي ,,لكن كل يسوغها ويبسطها بطريقته المختلفة عن الاخرين )
كنت اقول بوحدانيتي في هاته الارض ولا شيء يوجد من غير الارض وكل ما أراه من صور للفضاء والكواكب الاخرى , ماهي الى امور يستعملها هؤلاء الممثلون المحترفون لتضليلي ,ثم اني ذهبت ابعد من ذلك في ايام مراهقتي و شككت في وجودها (أي الارض ) وفي وجود المكان أصلا ,وحتى الزمان , فالمكان عندي هو الحيز الذي اتواجد فيه انا فقط , ولا وجود لشيء اسمه مكان اخر الا ما يقوله لي الاخر والذي هو اصلا مشكوك فيه وفي وجوده الحقيقي اللا تمثيلي ,
فمثلا ان كنت في البيت ,وأخبرني شخص ما ,قد يكون ابي او امي او اخي او صديق او أي اخر ما دون “انا” (على فكرة فحتى الابوين مشكوك في كونهما لا يشاركان في المسرحية ,فالام تتقن دورها كأم والاب كذلك , والاخوة كذلك كان اختيارهم بشكل لا يمكن التشكيك فيه وايهامي بالشبه في الخلقة حتى لا يترك لي مكان للريبة ,,
وحتى زواج الاخرين وشهور الحمل التي تمر منها المرأة ثم الولادة كانت بالنسبة لي هي اشياء مفبركة حتى اذوب فيما ارى واعايش ,ثم ابني حقيقتي على ما أرى ). فكل من يخبرني بوجود شيء اسمه الشارع المجاور للمنزل او المدرسة الفلانية او الحديقة العلانية ,او أي مكان خارج الذي اوجد فيه أنا في تلك اللحظة المشكوك فيها اصلا (أي الزمن ) فهو غير موجود , ثم عند قيامي بالمحاولة للخروج من ذاك الحيز والتنقل نحو ذاك المكان الوهمي ,, يحصل لي كما يحصل في ألعاب الفيديو , فالشخصية المحورية او البطل , لا يتحرك ,وانما يحرك رجليه فقط والمكان هو الذي يصنع في الحين لانه مبرمج مسبقا ,ثم يبدأ بالتحرك نحوه , وعند تجاوزه لمكان ما ,فانه يمحى ولا يبقى الا الحيز الذي يشغله في تلك اللحظة .هنا أتذكر قصيدة كانت بمثابة مؤشر لي اني في مسرحية كونية وهي بعنوان “الطلاسم” للشاعر” اليا ابو ماضي” وكان يستوقفني كثيرا بيت منها يدعم شكوكي حول المكان ,,يقول البيت :
“أأنا السائر في الدرب ام الدرب يسير ,,,,,, ام كلانا واقف والدهر يجري ,, لست أدري
النتيجة أني محوت جل الاشياء أوكنت على وشك محو الكل من معارفي المكتسبة وحتى الفطرية, وكنت على خطى الذهاني اسير , فأصنع عالما خاصا بي وأجعله مرجعا لي , كي أجد سبيلا للتمرد والخروج عن النص والسيناريو المحبك ضدي , فلم أعد أصدق التاريخ ,فلا وجود كما اسلفت للزمن ولا وجود لاناس قبلي ولا بعدي ولا وجود لاناس في اماكن من هذا العالم المزيف , فأنا لن ألتقي بملك اسبانيا ولا بلاعب الكرة زيدان ولا بالمغني مايكل جاكسون ولا بأي شخصية مشهورة او معروفة مثلا اشاهدها عبر التلفاز والاعلام او اسمع عنها من الناس …
وصورهم تلك وشهرتهم كاذبة , فما هم الا اشخاص وهميون او لربما لهم عدة اوجه , فقد يلعب الممثل عدة ادوار , فتجده مغني شهير , وبائع السجائر في مكان اخر ورئيس دولة في مكان مخالف , وذلك حسب المهمة المطلوبة منه لتوهيمي .
لكن كنت دائما اعتبر ما اعتبره مجرد شك ,مجرد تصور , مجرد تساؤل , هي في الاخير فكرة , فكرة تكونت صغيرة ,وبدأت تنمو وتكبر , حتى كادت تصبح حقيقة مسلمة , لا يمكن التشكيك فيها , علما اني لا أستطيع اثباتها , ولا البرهنة عليها , هي موجودة في مخيلتي أنا فقط , ولا يسعني ان اعممها على الجميع لاني أقصيهم أصلا , وحتى وإن حدث وتنازلت , وأخبرت أحدا ,فلا يمكنني أن أبرهن له وأثبت له صحة ما أفكر فيه .
ثم ماذا لو أردت التنازل عن هاته الافكار ونفيها ,هل يمكنني ذلك ؟ أقول لكم لا يمكن ما دمنا نحترم العقل فلا يمكنني أيضا نفيها , لانه لا أملك الاليات لنفي مثل هاته الافكار .
شيء لا أستطيع اثباته ولا أستطيع نفيه؟؟ فيما بعد اكتشفت عدة امور واخترعت عدة “افكار” لا يمكن اثباتها ولا يمكن نفيها ,,لذلك خلصت الى ان فكرتي الشكية , التي حرقت رأسي طوال سنين عديدة ماهي الا ما يطلق عليها باسم “الفكرة الهراء ” .
قد تستغربون من هاته الفكرة وقد تضحكون منها وقد تعتبرونني مجنونا ,لكن كونوا متأكدين أن كل واحد منكم يحمل “الفكرة الهراء ” في باله , والمؤسف انه لم يستطع التخلص منها ولربما لم يكتشفها بعد ,
اللهم القلة من الناس حتى لا أكون معمما ,
اما من اراد ان يدخل في باله وسواس فكري , فليثبت لي بطلان شكوكي

المصدر        http://3almanya.com/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B3%D9%88%D8%A7%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1%D9%8A/


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...