الخميس، 3 مارس 2016

عبادة الدين صورة من الوهم .... بقلم عباس علي العلي



من خلال فرض مساحة واضحة ومرسومة بحد حقيقي بين الدين وبين جاعل الدين وتسمية الأشياء بمسمياتها الخاصة والعمل على تجسيد التناسب بين الصورة المثالية والفهم والسلوك الحسي , ينجح الإنسان بالانتقال من ظاهرة عبادة الدين إلى حقيقة الاستجابة الفعلية لقضية الدين وهي الرحمة ,التي تتضمن عنصر الخير المطلق والأحسنية الكمالية التي هي غائية الفكرة والجوهر من علة وجود الدين ,التداخل وخلط المفاهيم ووضع مفهوم كلي بدل حقيقة المفهوم الجزئي أو عكس الحالة هذا يقودنا إلى التزييف والتحريف الذي يشوش الرؤيا ويخلط الأوراق عند الإنسان الطبيعي الغير متعمق في فهم فلسفة الدين وحالية ظاهرة التدين .



عندما يعي الإنسان أن الإيمان بفكرة الدين ليس إلا مجرد مرحلة أنتقال من حالة الاختيار الحر من عدة مفاهيم وبدائل إلى حالة تفعيل القرار كمؤدى نهائي للأخيرية والأحسنية العامة ,عند هذه النقطة سيكون العنوان الأساسي هو تطبيق رؤية الله من الدين وليس طقسنة الدين وإبعاد تجسيده كعامل إستعباد , والأنتقال إلى حقيقته الإنسانية منه (وما خلقهم إلا ليرحمهم) وليس بمفهوم ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) وإن كانت الثانية طريقا تكوينيا كما شرحناه في معنى الصلاة للمفهوم الأول .ليس الغاية من الدين أذن تعليمنا طقوس بمسميات نتناوب على أداءها برتابة وتلقائية تفقد بمرور الزمن روحية الإيمان بما فيها من علل وأهداف ,بل الأنتقال بها ومن خلالها لجوهر إنسانية هذه الطقوس والعبادات المفروضة حسيا لأول وهلة ,وليس لتعظيم من هو عظيم أو لمعرفة الرب أو الديان أو الجاعل فهذه يمكن معرفتها أيضا بطرق أخرى ,فلم تنجح هذه الطقوس والحسيات المادية في التدين أن تعلمنا ما هو الأجدر من هذه السلوكيات للوصول لفهم تام للمعاني والمفاهيم الدينية ,الله أو الرب أو الخالق برأي الدين كفكرة مجردة هو الرحمن والرحيم والرؤوف والسلام والحبيب والظاهر وغيرها من الأسماء والصفات التي يعدها النص ليكشف لنا وقبل البدء بالبحث عن المعرفة ما هو معروف بالاسم والوصف وأيضا كمجرد من الحاجة للتفسير .أما البحث عنها خارج هذه التسميات والأوصاف والنعوت على أنها حقيقة الله الذي نستدل به بالطقوس أو من خلالها أو من طريق متصل بها أو يعتمد عليها هو محض هراء ,فمن يعرفك بنفسه صادقا وهو الأعلم بها لا يمكن إلا أن تعرفه بأكثر من ذلك ,لأن ذلك مجرد تخمينات أنت افترضتها على أنه هو لا يعلمها ولا يدركها أو لا يريد أن يفصح عنها .هنا العلم بها إن كان صحيحا فإنك تعديت على ما لا يجب لك ولا مطلوب منك ذلك ولا منها فائدة ,في قضية أنسنة الدين كمحصلة نهائية أو كما في قضية الزهد مثلا التي وصلت إلى مفهوم الرهبنة والصوفية السلبية كتعبد , ممارسة حسية لا ينتج منها فائدة عامية تثري وتنضج الفكرة الأساسية , وإنما هي أفتراضات شخصية لمن يعتمدها طريقا للوصول لغايات ذاتية فردية تخص فهمه لا فهم الدين .وإن لم يكن صحيحا أو لم يصل بك إلى تحقيقي هدف من أهداف فكرة الدين ,فقد جئت بأمر خارجي كان من الأجدر أن لا تنفق فيه لا وقت ولا جهد لأنه لن يصل بك لما في غائيات النتيجة ولا في مسالك المنهج من أهداف لا في الأحسنية ولا في الأخيرية , وهذا الأمر سيكون من ما لا يصح التعاط به أو الخوض فيه لأنه عبث وتفريط في ما لا يستوجب أصلا وكلاهما خطل عقلي محض .إذا كان ذلك الشرح والمقدمة الطويلة أنشأت ظاهرة شاذة يمكن تسميتها (دين عبادة الدين) ,وأصبح التدين بالواقع العملي هو بالفعل المنتحل مكان الدين السامي بشكل عام وكامل في كل الأديان التي تصنف وضعية وسماوية ,فلم يسلم منها حتى ما هو خارج الدين من رؤى وأفكار وإن كان الفرق بين الدين والفكر أن الأول يقتضي ثبات بعض الأسس والأركان فيما الفهم به والتعامل معه يتطور مع تبدلات الزمن والمكان .إلا أن الفكر اساسا خاضع بل واجب الخضوع للتبدل والتطور الحيثي لأنه بالتطور يمكنه أن يعيد رسم وجوده المستمر , ومتى ما توقف عن ذلك تحجر ومات وأستهلك قوته الدافعه والمؤثرة والضرورية ,هنا لا نستغرب أن ينطبق هذا الأمر على الدين الإسلامي برغم إيمان المؤمنين به أنه الختام الرسالي والغاية التامة من الدين ,بل يفهم البعض أن حدود المعرفة الدينية تنتهي عند النصوص التي جاء بها وسطرها في القرآن الكريم .الإسلام بالرغم من أنه بواقع الحال ومن السيرة التأريخية يؤكد حقيقة لم يأت دين سماوي أو وضعي يدعي بها أو يحاول الإدعاء فيها ,على أنه تكملة لسلسلة الرسالات ومسك ختام فهو لا يوازي ما قبله ولا كمنافس أو نقيض لها ,بل في الموجز أنه تأطير كامل لما تشتت وتفرق من نظريات ورؤى توزعت وتنوعت في باقي الرسالات وصهرها في وحدة متكاملة مترابطة سميت بالمحكم البياني لمجمل فكرة الدين عند الله .ومع هذا التأطير إلا أنه تعرض كباقي الديانات التي سبقته إلى ما يسمى إسلام الواقع وإسلام بقراءة محافظة وإسلام متأول وإسلام مفسر كلها شكلت ما يسمى بالمذاهب الإسلامية أو الملل الفرعية ,حتى أنها لم تلتق إلا بالتسمية وبعض الكليات من حيث شكلها بعيدا عن المضمونية مع الإسلام المحمدي المبني على الرحمة والخيار الإرادي , لنشهد ولادة تفرعات مشوهة لقضية واحدة النتيجة التي وصلت لو جمعت أو تجمعت لن تعطي صورة كاملة بل يمكن أن تعطي صور متناقضة ومتباينة في الجوهر والشكل .إسلام الواقع أو العملي المتواجد على أرضية التعبد اليوم يتميز بجملة ظواهر تفصل بينه وبين أصل الرسالة كونه بني على عبادة مسميات أو مفاهيم أو تقديس مفاعيل سلوكية ,ولكنها تدع أيضا كفروع لا يجمعها أصل واحد على أنها هي كل الدين ,مثلا كانت أول حرب شنت باسم الإسلام الواقع بعد رحيل الخبير فيه والمعلم الأول , هو محاربة وقتل مانع الزكاة بدون نص ولا أمر ولا مبدأ في دين الرسالة بل مجرد تخريجات لتقديس حالة فقط ,لينتهي هذا الدين استباحة الإنسانية من خلال رفض فكرة وجود أخر مختلف على النقيض من قاعدة لكم دينكم ولي دين .ليس المهم أن نتعبد فقط بفكرة وجدت على أرض الواقع ولو أن لها حيز في أصل الدين , ولكن الأهم والمهم أن هذا التعبد متناسب مع التجريد الفكري المرافق للدين أصلا , مثلا محاربة الكافر هل هي جائزة فقط بهذا العنوان أم أن الدين وضع جملة من الأحكام التي تمهد للتعبد بها , الكافر البعيد مثلا والذي يحتفظ بحقه الإنساني الذي سطره أصل الفكرة بقولها ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ,هل وجوده يشكل توافق أم تعارض مع هذا المبدأ وعلى أي قاعدة يمكننا أن نفسر أمر قتاله وأمر تركه ؟ .البعض يقول هذه مهمة الفقيه وهو الذي يتولى أستنباط الأحكام الجزئية من أدلتها التفصيلية ,وأنا أقول أنها ليست حقيقية حتى يتولاها الفقيه بل تبنى على أصل الترك لأن دائرة الأقلي لا تتوسع ولا دائرة الأكثري تتقلص ,أستنادا إلى فكرة ما جاءكم به الرسول فخذوه , والرسول لم يحارب الكافر لأنه كافر فقط بل لأنه يشكل تهديد مجتمعي وواجب الصد فيه ضروري من الضرورات الطبيعية , وهذا التخريج أجتماعي إنساني عقلاني منطقي وليس من باب التفقه أو النسبة للدين .من أكبر الانحرافات التي قادها البعض ممن يسمون رجال الدين أو المشتغلين بمناهج التدين ,هي تحويل التدين من عملية تطهير وتسوية للذات الإنسانية وصقل حقيقي لوظيفة العقل كي يكون أكثر قدرة على التفتيش عن حلول وأوسع في بحثه عن خطوط التماس بين المصلحة وقيم الأحسنية والخيرية , إلى ظاهرة شكلية حسية الهدف منها إقناع الفرد المتعبد أنه يؤدي ذلك فقط لإرضاء رب متسلط سواء أكان مؤمنا حقيقيا بما في تدينه أو مضطر للخلاص من أثر قادم وجزاء واقع , هذا التحول هو القذيفة الأولى بمدفع الكهنوت ضد قلعة الإنسانية التي أراد الله لها أن تعمر بالتعاطف والمودة والسلام .هؤلاء رجال الدين أو الفقهاء والعقائديين والمشتغلين بتدوير عمليات التعبد ما هم إلا كذبه أطلقها متوهم وتوهمها متدين بنية ما ,ليجعل من الدين سوق تجاري يباع فيه ويشترى من أحكام إن كانت خاطئة فلا تثريب عليه فيها بل يؤجر ,وإن كانت صحيحة ضوعف له الجائزة والأجر مع التنويه بفضله لا بفضل الله ,أما ما تترك من أثر في جسد الفضيلة والإنسانية والخير وما يبنى عليها من أنحراف فالتدين ساكت عنها ,لأن المجموعة التي شيدت هذا التدين لا تريد أن تدين نفسها بالخطيئة مع وجود العذر , ولأنها تعرف أن المكتشف لهذا الأثر سيوجه سهام النقد لله وللدين ولا يحملها شيء لأنه يعتقد كما هم أرادوا له ,بأنهم يتكلمون باسمه ويعملون لمصلحته ويناضلون للدفاع عنه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...