الخميس، 3 يناير 2019

في نقد العلمويين بقلم سيف البصري

هنالك حلم، رغبة خيالية تخالج عقول الإنسانويين: أن العِلم هو المنقذ الذي سيجلب العقلانية إلى العالم اللاعقلاني.
حملات التنوير مازالت حتى اليوم تكتسح الكتب و المنظمات و تعشعش في عقول الكفاءات العلمية و الفلاسفة المعاصرين. كما أنها فكرة تلهم عقول الشباب و المندفعين للتغيير.
لست هنا أتكلّم عن محاربة الجهل، بالعكس، فطلب العِلم فضيلة، بل مصدر قوة، و من يرغب باعتلاء المكانة الاجتماعية في محيطه، لاخيار أمامه سوى التسلّح و المنافسة. إفهم قصدي جيداً: الدوافع العقائدية هي ما تهمني.
ما هو الدافع العقائدي الذي يدفع بتنويري علموي لمحاربة منظومات دينية عقائدية أيضاً؟ بالنسبة لي الإثنان في صراع أفكار سينتصر به من يجيد استخدام الميمات الثقافية الناجحة.
العقائد الإبراهيمية صارمة في طرحها المطلق. ومع أن الإنسانويون أقل حدة و أكثر شكاً في تصوّرهم العالم، إلا أن ”إيمانهم‟ بأن العِلم هو المنقذ و أن البشرية يجب و سوف تنتصر على اللاعقلانية، لا يختلف كثيراً عن الدين. فلسفة التنوير بزي الإنسانية Humanism هي عقيدة يائسة للأسف.
لكن البشر بحاجة لوهم. لوهم غير عاقل يروّج للتقدّم نحو الأفضل. دونه سنكون فريسة سهلة للعدمية. والأمل بالمستقبل يفتح الأبواب أمام الكثير من الفرص، لكننا ننسى أنها دائماً تتأرجح بين النجاح و الفشل.
و لا أخفي عنك، أنا نفسي آمل نحو الأفضل، لأن أسلوبي في الحياة يتطلّب مني ذلك. لكن ذلك لايعني أنه هو الخيار العقلاني حتماً.
فمن الطبيعي أن نستبشر بالعِلم كوسيلة لتجاوز مشاكل البشرية. فشرعية العِلم تنبثق من السلطة التي يمكّن بها البشر على الطبيعة حوله. و العِلم أنقذ الملايين من البشر، سهّل حياتنا اليومية، قرّب المسافات بيننا، خلق أبعاداً جديدة كانت في السابق لا تجدها سوى في بعض قصص الخيال العلمي. ناهيك عن التقدّم الطبي و تمديد عمر الإنسان. هذا لوحده كافٍ لأن يدفع بالبعض ليؤمن بأن العِلم هو المنقذ، الخلاص البشري.
مع ذلك، تجريد العِلم من الحاجة البشرية و الملذات الدنيوية و اللاعقلانية لبني جنسنا، يعني أننا نعزل العِلم عن أصله و وظيفته كأداة لا أكثر و نعطيه بعداً يتسامى لدرجة تخلق منه عقيدة واهمة هدفها البحث عن الحقيقة.
و لذلك أجد أن العلموية أو الإلحاد الجديد قد وقعا في هذا الفخ تحديداً، و هو مادفع ببزوغ فكر جديد حاول العودة إلى الماضي، إلى الفلسفات و إلى الأديان القديمة و الأساطير و حتى العلِم الحديث. فكر يحاول أن يعود بخطوة إلى الوراء، ليعيد تنقيح مرحلة الفهم، فهم الطبيعة و قوانينها و ارتباطنا المباشر بها، أسس الحضارة و مقوّماتها و أيضاً قدرتنا على الحكمة و الجهالة في نفس الوقت، قبل أن ننتقل إلى مرحلة أخرى، ناهيك عن الحكم على الكون و الإفتاء به. إنهم الطبيعيون الجدد.
لنعرّف أولاً أن الطبيعي هو ذاك الذي يجمع بين حقيقة التطوّر و دور الطبيعة المتجذّر في جيناتنا، أهمية العِلم (كأداة لا كمخلّص)، و دور الفلسفة و الأساطير و الأديان (في جوهرها) في تهذيب ذات الإنسان و تسليحه بما يمكّنه من عيش حياة فاضلة ذات معنى في مجتمعه. و هنا لا أقصد الأديان كمؤسسات و كأنظمة سياسية، بل كهيكل اجتماعي حافظ على قوانين و حكم تراكمية بشرية و أطّرها بشكل مكّنها من عبور الأجيال و الصمود لآلاف السنين.
الطبيعي يحاول فهم أصول الدين، دوافعه و نشأته، قبل أن يحكم عليه بالنفي من الوجود أو يزاحمه. الطبيعي يقرّ بقوانين الطبيعية الأم و تأثيرها المباشر علينا. الطبيعي يدرك قصور الإنسان في فهم التعقيد حوله. الطبيعي يدرك أهمية الحكمة و الهرمية في خلق بعد اجتماعي متوازن و صالح،  كما يدرك أن العِلم هو أفضل أداة 
نملكها لتفسير الكون، كوسيلة، لا كمحرر من كل القيود






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...