الخميس، 3 يناير 2019

هل العلموية و الإنسانوية هما البديل الأفضل فعلاً؟ ... بقل سيف البصري


الإلحاد الجديد، على عكس الأديان الإبراهيمية، لم يبطش بأرواح البشر على مر التاريخ من أجل فرض نفسه على الساحة. و هذا الفارق يحسب له، لا شك. كما أن عدد اللادينيين من بين سكان الكوكب قد يتراوح بين الربع و الثلث، أي حجم لا يستهان به. لكن تزايد أعدادهم لا يعلله التنوير فقط، كما قد يظن البعض. هنالك عوامل أخرى، و لو ناقشناها سويةً، سنفهم الصورة أكثر؛ أو بالأحرى ستفهم عزيزي القارئ الصورة في ذهني بشكل أفضل.
يمكن تلخيص أسباب فقدان الكنائس و المعابد الدينية للتابعين في الدول المتقدمة من حيث القيمة السوقية مثلاً.
دعني أبسّط الفرضية هذه على شكل نقاط مختصرة:
أولاً، المستوى العِلمي اليوم أفضل؛ شبكات الضمان الاجتماعية الحكومية توفّر نوعاً من الأمن، خصوصاً للأسر الصغيرة، و بالتالي هناك قدر أقل من الخوف و عدم اليقين في حياة الناس اليومية، و هذا ما يحجّم تسويق البضاعة الدينية في الحياة اليومية.
ثانياً، هنالك اليوم العديد من المنتجات البديلة، مثل الأدوية النفسية و التسلية الإلكترونية التي لا تتطلّب الإيمان و الالتزام بتعاليم صارمة، التي تضيق الخناق هي أيضاً على الدين. مع ذلك، تجد أن أي تخبّط اقتصادي و عاطفي يدفع بالكثير إلى العودة إلى الدين كمفر من قساوة الحياة و الواقع. و هذا بغضّ النظر عن كونه سلبياً أو إيجابياً، يعكس لون من ألوان النفسية البشرية، لربما حاجة نفسية عميقة؟ و مع أني على يقين أن البعض قادر على العيش بشكل سعيد و بنهج صالح دون هيكلية دينية أو روحانية، إلا أن الإنسان العادي بطبعه و الذي يمثّل الأغلبية من بني جنسنا، يحتاج لبوصلة في حياته اليومية تمكّن الفرد من الاندماج مع المحيط و الملاحة بين المعضلات الأخلاقية و الواجبات الاجتماعية.
عدم اليقين الاقتصادي أو التحديات العاطفية هي مخاوف تهيمن على واقع الإنسان المعاصر، سواء دفعت به إلى العودة أو النفور من الدين.
و مع ذلك، بالنسبة للكثير من الناس، الدين ليس مجرد وسيلة للتعامل مع الخوف و عدم اليقين أو الصعوبات العاطفية. فالعديد من الناس يتبّع طريقة حياة دينية معينة إما لأنهم يعتقدون أنها صحيحة أو لأنها تضفي على وجودهم معناً في هذا الكون الشاسع الغريب. حاول أن تضع في الحسبان أننا لا نتكلّم عن كائن عاقل ٢٤ ساعة في اليوم. نحن البشر ما نحن عليه، بعقلانيتنا و بلاعقلانيتنا.
كما أنه بالنسبة لي من غير الواضح كيف سيحل الإلحاد الجديد أو الإنسانوية محل الدين ويضمن توريث الحكم البشرية التي لا تتحمّل التقنين، كالاحترام، العطف، الإحسان، الشهامة، الرفق بالآخرين و تقديس العائلة كنواة المجتمع و غيرها من حكم الأجيال السابقة؟ عن طريق قوانين و تشريعات؟ بالفرض و الإجبار؟ أو بسياسات الصواب السياسية؟
مع أن الكثير من الأديان بزغ نجمها على مجازر لا تحصى حلّت بالبشرية، إلا أن إهمال حقيقة كون الدين نتج عن مراحل عديدة من تطوّر وعي و تجارب الإنسان، سيدفع بنا إلى المجازفة بـ آلاف السنين من التجارب البشرية و الحكم المتراكمة.
كشخص طبيعي أحاول فهم دور الدين، الدافع لنشوءه؛ لماذا وجد؟ لماذا هذه المشتركات الكثيرة بين الأديان رغم اختلاف المكان و الإثنيات؟ مالحكمة وراء ذلك؟ مالذي يمكن أن نفهمه من دراسات الحيوانات الأخرى التي تتصرّف بشكل يمكن تشبيهه بالقوانين الأخلاقية؟ (أنصح بمتابعة أو قراءة كتب البرايموتولوجست الرائع فرانس دي ڤال). ماهو دور الميثيولوجيات في نشوء الحضارة؟ و هل كان من الممكن أن تنهض دونها؟
من السذاجة و الغرور أن نخلط الغثّ و السّمين معاً، لأن الموضوع أعمق و أقدم من أن ينهيه حديث واحد. لكن ما يمكن استنتاجه من التاريخ، هو أن الدين أقرب عملياً إلى الحياة اليومية و أكثر خبرة في تقديم طرق لخوض حياة صالحة من الإلحاد الجديد، على الأقل للعوام بشكل شمولي. من خلال تشكيل و ممارسة المعتقدات يمكن أن يبني الإنسان حياة متماسكة و ذات مغزى. والإلحاد الجديد هو في الأصل جواب على سؤال وجودي، لا أكثر. لا يملك منظومة تعاليم مشتركة أو مدوّنة.
و لذلك تجد الملحدين الجدد لاينفكون عن الدفاع و التفاخر بحقوق الإنسان و الإنسانوية كبديل عن الاضطهاد الديني. بكل بساطة لأنه لا يوجد بديل آخر.
و مع أنني أجد حقوق الإنسان متبلورة عن الأديان نفسها و فلسفات البشر السابقين، إلا أنها بدأت تأخذ طابعاً عقائدياً يثير مخاوفي أكثر من أن يجذب اهتمامي.
لذا، إذا كان هناك شيء يحل محل الدين، فلن يكون ذلك هو الإلحاد كبديل؛ ربما الفلسفات ذات الطابع الديني أو الفلسفة التجريبية كالرواقية، أو ربما بعض أشكال الإنسانية العلمانية في مناطق صغيرة و منظّمة حضارياً سوف تنجز هذه المهمة. فالحاجة موجودة و السوق واسع.
و مع أنني أفضلّ الفلسفة التجريبية على الدين، إلا أني أقر بأن الدين يبرع في المحافظة على الهرمية الاجتماعية و الأسرية و يمتلك ورقة ”القداسة‟، الميمة الأنجح في تاريخ الثقافة البشرية.
نعم، القداسة سيف ذو حدين. و لاشك أن ماضي و حاضر البشر مليئان بالأحداث و المذاهب التي تقدّس البغض و التقاليد الجاهلة؛ هذه الهالة من القداسة لابد من أن تُرضّ و تُحطَّم بين الحين و الآخر حتى لا تتحوّل إلى تقاليد جامدة أو تشريعات متطرّفة. لكنها أيضاً إحدى المفاهيم الفلسفية الدينية التي حافظت على قيم جوهرية نحتت الإنسان الاجتماعي كما نعرفه اليوم


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...