الأربعاء، 23 يناير 2019

من وحْي ((الهويات القاتلة)) لـ: أمين معلوف .. بقلم الدكتور عامر مخلوف




هي هويات قاتلة فعلاً، عندما تُخْتزل الهوية في بُعْد أمازيغي أو لغوي أو ديني كما في بلادنا وتُقحم في المعترك السياسي. وهي عادة ما توظَّف سياسوياً لدى أولئكم الذين لا يملكون أيَّ مشروع حضاري للنهوض بالمجتمع سواء أكانوا يمثِّلون النظام الحاكم أمْ الذين هم في المعارضة المزعومة، بل تصير الهوية جثَّة مطوَّقة بينهم، كلٌّ ينهش من جهته إلى حدِّ تمزيقها.
فإذا كان قد هيْمَن البُعْد الديني المتطرِّف على غيره في هذا الزمن،فذلك مردُّه أساساً إلى أنَّ ما يُسمَّى دولة وطنية لم تُحقِق المواطنة المنشودة.وأصبح رجل الدين في أحسن الحالات يرفع شعار "التسامح"لكنَّ القول بالتسامح ينطوي على قدْر كبير من الفوقية والاستعلاء،لأنَّ صاحبه يتوهَّم أنَّه يمتلك الحقيقة المطلقة بما ينجرُّ عنها من انغلاق على الذات وعلى الآخر معاً. ومن ثـمَّ يصبح من فَضْله وكراماته إذا هو تسامح مع غيره. بينما إذا كان الإنسان يبحث عن الحقيقة فعلاً، فشرطُها المبدئي ألاَّ يدَّعي امتلاك الحقيقة، كيْ ينفتح على غيْره ليدرك الثراء في التنوُّع، ويكون –بالتالي- مؤهَّلاً لممارسة الحوار الراقي.
يعترف (أمين معلوف) بأنه من نصف لبناني والنصف الآخر فرنسي وهي عناصر من هوية واحدة تتألف من عدة عناصر ولا تقبل التجزئة، فالإنسانية بأكملها مُكوَّنة من حالات خاصة ، لا تشبه إحداها الأخرى. وهذا بالذات ما يميز الهوية. إنها من التعقيد بحيث لا أحد من الناس يشبه الآخر ولا يعوضه، وكذلك المجتمعات. والهوية لا تكتمل دفعة واحدة، بل تتكون عبر مراحل وجود الشخص وتطوره. فأما الذين يحصرون الهوية في عنصر وحيد، فإنهم ذو نفَس قبَلي يدفعهم إلى إقصاء الآخر وارتكاب المجازر كما نشاهد اليوم. إن الهوية –في هذه الحالة- تتحوَّل من أمل أو طموح إلى أداة حربية.
كي ننفتح على الآخر ينبغي أن تكون الأذرع مفتوحة والرأس مرفوعا، ولا تنفتح الأذرع إلا إذا كان الرأس مرفوعاً.
إن انهيار المعسكر الشيوعي بدا للبعض مكسباً من حيث هو سقوط نظام شمولي، غير أن
العالم الغربي جعل منه فرصة لمزيد من الهيْمنة زادت البلدان الفقيرة فقراً وتخلُّفاً ما أدَّى إلى
نجاح التنظيمات الدينية لتطرح نفسها بديلا أوْحد.
يحدد (توينبي) المراحل التي مرت بها الإنسانية كالتالي:
العهد الأول: كانت فيه الاتصالات بطيئة وتطور المعرفة أبطأ.
العهد الثاني: تطورت فيه المعرفة على نحو أسرع من انتشارها ما جعل المجموعات البشرية مختلفة.
العهد الثالث: وهو الزمن الذي نعيش فيه، تتطور فيه المعارف بسرعة ولكن انتشارها أسرع.
انطلاقا من رؤية (تونبي) يمكن القول: إن كل ما صنعته الإنسانية من أجل تميُّزها ورسْم حدوها خلال قرون طويلة صار يخضع لضغوطات تختزل الخلافات وتمحو الحدود.
لقد حدث في زمننا ما لم يحدث أبدا للإنسانية من قبل. إذْ تحققت لديها كثير من الأشياء المشتركة من المعارف والمرجعيات والصُّور والكلمات والأدوات ولكنها تدفعهم –في الوقت ذاته-إلى التميُّز. ولكنها ولَّدتْ لدى المعذَّبين في الأرض رد فعل ضد العولمة شعوراً منهم بالإقصاء وخوفا من الذوبان.
وكأن ما يعيشه العالم اليوم هو بحث دائم عمَّا غاب من حرية فردية في النظام الشيوعي الشمولي من جهة ، وبحث عمَّا افتقده النظام الرأسمالي من بُعْد اجتماعي ليبقى المسحوقون في خوف وتردُّد يجعلهم يحتمون بماض لن يعود كما كان أبداً. فالناس أبناء زمانهم أكثر مما هم أبناء آبائهم.
وإنه من الضروري الفصل بين الدين والهوية، فلطالما شاهدنا -أُمماً بلغة واحدة مزقتها الصراعات الدينية وأخرى بديانة واحدة مزقتها الصراعات اللغوية، ما يعني أن الإنسان قد يعيش بلا دين لكن يستحيل أن يعيش بلا لغة. وليس المطلوب إلغاء الهوية الدينية أو التراث إنما يتعلق الأمر فقط بإدراك أن هناك مسافة بيننا وبين الماضي. فرنسا لم تحاول أن تمسِّح الجزائريين رغم وجود بعض الحركات التبشيرية بقدر ما سعت إلى إحلال الفرنسية محل العربية. ومن الغريب أن بلداً لائكياً يُسمِّي بعض المواطنين"الفرنسيون المسلمون" ويحرمهم من حق المواطنة لأنهم ينتمون إلى ديانة أخرى.
فالهوية يُنظر إليها على أنها مجموعة انتماءات يعلو عليها الانتماء للإنسانية إلى أن يصبح البُعْد الإنساني هو الأساس من غير أن يلغي بقية الانتماءات.
ولا يمكن أن ندَّعي أن رياح العولمة تدفعنا بالضرورة إلى هذا الاتجاه ولكنها تُسهِّل المقاربة وهي في الوقت نفسه ضرورية.
إن عالم اليوم يوفِّر للذين يريدون المحافظة على ثقافاتهم كل الإمكانات للدفاع عنها عوض الانغلاق واللامبالاة. وقد يتيح التواصل عبر الإنترنيت قدرة من التأثير تتجاوز الحاكم صاحب القرار.
كما أن العالم ليس ملكاً لِعِرْق ولا لأمة ولا لأزمنة تاريخية أخرى ، بل هو لمن يدرك القواعد الجديدة فيستعملها لصالحه. فقَدَر الإنسان كالريح قد تهبُّ لتهلك ربان سفينة بينما ينجو ربان آخر لأنه عرف كيف يُوجِّهها..
====================
المرجع: Maalouf (Amin),les identités meurtrières éditions Grasset,1998  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...