الجمعة، 4 يناير 2019

مَن أكل البطاطا فهو آمن .. بقلم رياض أمين: صحيفة "اليوم" اليومية الجزائرية. 1999م



الذين ما زالوا يتهجمون على "البطاطا" استكبارا واحتقارا، نقول لهم: تخيلوا العالم بدونها وستعرفون حجم الكارثة التي ستحل بالبشرية...إنها الخبز الثاني للمعذبين في الأرض...
قبل حوالي 5 قرون، سافرت البطاطا لأول مرة خارج حدود بلادها بعد أن حزمت أمتعتها لتحط الرحال في إسبانيا على متن سُفن المغامرين الذين تَلَوا كريستوف كولومبس إلى "العالم الجديد" الذي ما كان جديدا إلا في أذهان آخِر مَن اكتشفوه أمثال هذا البحار الإيطالي...
عن طريق إسبانيا الكاثوليكية، التي كانت في أوج عظمتها في القرن 16م، دخلت البطاطا لأول مرة عام 1534م إلى بقية بلدان أوروبا كغنيمة حرب، لتجد نفسها مرغمة على الاحتكاك بثقافاتٍ وشعوبٍ تختلف عن ثقافة وشعب الهنود الحُمر، الذين كانوا أوّل من عرفوها وزرعوها في أمريكا اللاتينية، والأقوام التي قاسَمَتْهُم بهذه البقعة من أرض الله العيش على غرار أفارقة جنوب الصحراء والمسلمين الأندلسيين/المغاربة بقرون قبل كولومبس...
ومن أوروبا، سوف تنتشر البطاطا في جميع بقاع العالم حتى أصبحتْ مادةً غذائية أساسية لا يَجْرُأ أحدٌ على الاستغناء عنها على موائد الأغنياء والفقراء و"المعذبون في الأرض" على حد سواء.
هدية الهنود الحُمر إلى العالم
صَنَّفها القسُّ اللبناني الأب لويس معلوف في "منجد الطلاب" على أنها "نبات من أصل أمريكي من فصيلة الباذنجانيات، ثماره مختلفة الأشكال". وتَحَفَّظَ العربُ تجاهها في بداية ظهورها في بلدانهم، لأنها جاءت على متن سُفن الجيوش الاستعمارية مُعزَّزة بآخر ما أنتَجتْهُ التَّرسانات الحربية الغربية، فتعاملوا معها بِتوجُّس وحذر شديديْن مادامت، برأيهم، من "بِدع" "الكُفَّار" و"أعداء" العرب والإسلام الذين ما أَحَبُّونَا ولا تَرَكُونَا لِشأننا، ولا نحن صَبِرْنَا على هواهم...
في البداية، اختار العربُ لها اسم "القلقاس الإفرنجي"، فيما خَصَّصُوا اسمًا مختلفا للبطاطا الحلوة فيه نكهة الأصول الأمريكية العريقة ما قبل الكولومبية، ويتمثل في "القلقاس الهندي" الذي هو عادةً أكبر حَجمًا من البطاطا العادية. ولم يستقروا بَعْد عند اسمٍ مُحدَّدٍ لها، لأنهم مازالوا يترددون بين كلمتيْ البطاطا والبطاطس التي تبدو أقرب لنظيرتها الإنجليزية "بُوتِيْتُوسْ" (Potatoes) شائعة الاستخدام في المشرق العربي الذي تأثر بثقافة الاستعمار الأنجلوساكسوني.
وإذا كانت البطاطا مشهورة في كل أنحاء العالم، فإن العالم كثيرا ما ينسى أن لها قريبة في الصين لا تختلف عنها إلا من حيث الشكل تُدعى "البطاطا الصينية" التي وصفها لويس معلوف بأنها "نبتة آسيوية معرشة (...) لها جذور مختلفة وتُؤكَل كالبطاطا وتُزرَع في البلدان الحارة" كغيرها من أقربائها.
عانت البطاطا منذ بدايات وجودها في القارة الأوروبية من اضطهاد كبير. وقد اعترف الدكتور جان نيسبوم عام 1936م بالإجحاف القائم إلى غاية هذا التاريخ في حقها والاحتقار الذي تَعَرَّضَتْ له في كتابه الشهير "علوم وطبخ".
لكن الفرنسي بَارْمُونْتْيِي سبقه وطرح منذ القرن 18م قضيتها في المحافل العِلمية والفضاءات الإعلامية، وملأ الدنيا صخبًا بالحديث والدفاع عنها. بل ناضل طويلا من أجل رد الاعتبار لها. ولولاه، ربما، لَما أصبح الألمان خلال نهاية القرن الماضي أكثر شعوب العالم أكْلاً للبطاطا، ولَمَا أبْدَعَ البلجيكيون في أساليب تحضيرها وطهيها حتى تَوَصَّلُوا إلى قِمَّة اجتهاداتهم البَطاطِية وأكثرها شُهرةً وشعبيةً، وهي "الفْريتْ"، أيْ البطاطا المقلية.
ولَوْلاَ بَارْمُونْتْيِي أيضا، لأغْلَقتْ شركات "مَاكْدُونَالْدْسْ" و"كْوِيكْ" و"فْري تايْم" أبوابَ محلاتها العالمية المنتشِرة في جادات باريس ولندن وبرلين و نيويورك وتلك المحلات التي استولتْ دون حق على علاماتها التجارية دون اعتبار لـ: "حقوق التأليف" في الجزائر وقسنطينة ووهران وغيرها من مدن وبلدات العالم التي لا تُجيد السَّيْر المحترَم في رَكْبِ الأُمَم. ويَعود لهذا الباحث الفرنسي الفضْل في تحرير الفرنسيِّين من عُقدهم تجاه البطاطا وإقبالهم على أكلها رغم القذف والذَّم و"الإشاعات المُغرِضة".
"خُبْزْ القَلِّيلْ"
في مطلع القرن 20م، تَكتلتْ مجموعة من الأطباء تلقائيا لتتهجَّم على هذه النِّعمة، التي يعتبرها الجزائريون "خبز القَلِّيلْ"، أيْ قُوت الفقير، وادَّعوا أنها تُسبِّب السّمنة وتُهيِّأ الظروف الملائمة داخل أجساد آكلي البطاطا لانقضاض مرض السّل عليهم. وقالوا عنها، والعُهدة على القائل، إنها عديمة القيمة من حيث فوائدها الغذائية، فَرَدَّ عليهم الدكتور جان نيسبوم مؤكِّدًا بالحجة والدليل بأن كل هذا الهرج والمرج إشاعات "خاطئة وليست سوى خزعبلات" معتمدا على أبحاث الدكتور الدانماركي هينداد التي دامت 33 سنة والتي اعتُبرتْ ثورة في العلوم الغذائية آنذاك وأعادتْ للبطاطا مكانتها التي تليق بها والاحترام الجديرة به.
هذا العالم الدانماركي الذي بدأ أبحاثه حول البطاطا عام 1912م، توصل بتجارب ميدانية على صديق له إلى نتيجة ثورية، مفادها أن للبطاطا قدرات غذائية هائلة ما دام صديقه عاش طيلة 6 أشهر كاملة دون أن تزيد وجبتُه عن 2.5 كلغ من هذه المادة يوميا مع قيامه بأشغال شاقَّة دون أن تَتَأثَّر أو تَتَغَيَّرَ صِحتُه قيد أنملة... هذا من الناحية الصحية، أما من الناحية الاقتصادية، فهذه التجربة بَيَّنَتْ أن الإنسان بإمكانه العيش حياة عادية بـ: 35 سنتيما فقط يوميا، وهو سعر الـ: 2.5 كلغ من البطاطا في ذلك الوقت.
ثم حَسَمَ البروفيسور الألماني ألدرهالدن النقاش والجدل بشأن مدى غِنى البطاطا بالحريرات ونَسَف كل محاولات التشكيك في قيمتها الغذائية قائلا: "لم يعد هناك أدنى شك في أنه يمكن العيش بالبطاطا فقط. إن هذه الأخيرة غذاء كامل". وذهب إلى أبْعَد من هذا القول عندما أكد بأنها دواء يُشفي من الرُّوماتِيزْْم ومن أمراض أخرى كالقطرة.
عند هذا الحد، رَكعتْ أوروبا أمام عظمة البطاطا وسبَّحتْ بحمدها، وتحوَّلت إلى ناشِر لرسالتها الغذائية ولبذورها حيثما حَلَّتْ جيوشُها الاستعمارية حتى أصبح الإنتاج العالمي لهذه المادة يُقدَّر في عام 1984م بـ: 280 مليون طن، وهو اليوم في ارتفاع متزايد إلى أن بلغ عام 2011م ما لا يقل عن 374 مليون طن، أيْ بمعدَل 12 ألف كلغ في الثانية الواحدة.
وإذا أصبح الاتحاد السوفييتي في عام 2011م أكبر منتج للبطاطا في العالم بأسْره بـ: 70 مليون طنّ، تليه ألمانيا الغربية بـ: 26 مليون طن وفرنسا بـ: 14 مليون طن ثم الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الشرقية بـ: 13 مليون طن، فإن الصين قد قلبت الطاولة على الجميع وأطاحت بهذا الترتيب، وتحوَّلت إلى أكبر منتج في العالم لهذه المادة، تليها في ذلك الهند وروسيا...
البطاطا في إفريقيا تتجاوز أحيانا صلاحياتها الغذائية حيث لا تكتفي بملء البطون الجائعة فحسب بل تتسبب في تخريب العلاقات بين النُّخَب السياسية والمؤسسات. وهكذا، في نيجيريا، على سبيل المثال، أصبحتْ البطاطا عام 1998م غذاءً يوميا طيلة أسابيع متتالية للنواب البرلمانيين في هذا البلد في صيغة "كَاسْكْرُوطْ فْرِيتْ"، مما دفعهم إلى الإضراب عن العمل احتجاجًا على هذا الإفراط ومن أجل إعادة الأمور إلى نصابها وتصويب "إعوجاج" طَبَّاخي المؤسسة التشريعية ومسؤولي ميزانيتها.
البطاطا في السَّراء والضَّراء
أما في الجزائر، فقد أصبحت البطاطا منذ عقود طويلة تأكل الناس، وليس العكس، من كثرة ما داوموا عليها في مختلف الصِّيَغ والأشكال التي تتحايل الأمهات يوميا في إبداعها للحيلولة دون الاضطرار إلى مأكولات أخرى أكثر تهديدًا للأمن المالي للأسرة وأكثر استنزافا للخزينة العائلية.
وبالتالي فإن هذا الإدمان على البطاطا واضح بأنه ليس من باب العُشق والهُيام بل لقلة اليد التي تَجِد تَفَهُّمًا كبيرا لدى هذه المادة التي لا تُكثِر عادةً من مطالبها وتَحرِص على المحافظة على "رُخصِها"، فضلاً عن مزاياها الأخرى المتعددة في المطبخ ومرونتها الفائقة التي تسمح لها بالانسجام مع مُعظَم الوجبات وبالتعاطي مع غيرها من الخضر، وحتى الفواكه، واللحوم ومختلف المواد الغذائية.
لا يجب أن يُنسينا شواءُ عيد الأضحى وبوزلُّوفُهُ وكَرْشَتُه (الدُّوَّارَة) بأن البطاطا قابلة للأكل في هيئة سَلاطة بنفس المذاق اللذيذ التي تُوَفِّرُه لنا عندما تُقبِل علينا في صيغة "جْوَازْ"، وتتعاطى مع الكُسْكُس النّد للنّد ودون عقدة نقص من اللَّحم الذي يُولِي له الجزائريون أهمية تفوق بكثير قيمته الحقيقية وتُخفي أضراره وكوارثه على الصحة البشرية. بل هناك مَن أصبح يُخطئ بزلاَّت لِسان وخيمة العواقب في الآخرة عند حديثه عن الماء ويقول "وجعلنا من اللحم كل شيء حيّا".
كما تملك البطاطا القدرة على رفع شأنها والاستئساد عند الضرورة في بيوت أهل التّرف المستأسِدين علينا والتَّحوَّل إلى طبق أرستقراطي راقٍ، وهي مُحقِّة في ذلك لأن المثل يقول "عزّ روحك يعزّك الله"، فتأتي إلى الموائد مُتمنِّعة "مُتدلِّعة" في شكل "كْبَابْ" جزائري أو "ضُولْمَة" عثمانية بنكهة قصبجية أو قسنطينية وتلمسانية.
وفوق كل ذلك، من باب الاعتراف بالفضل والإنصاف، الجميع يعلم أن البُورَاكْ لا يكاد يكون بوراكا ولا البْرِيكْ يستأهل اسمَه عن جدارة إذا غابت عن أحشائهما ولو بعض الجُزيئات من البطاطا. أما إذا قرَّرتْ هذه الأخيرة اقتحام "الكُوشَة"، الفرْن، في شكل "غْرَاتَانْ" فـ: "سَبِّح بنعمة ربِّكَ وحدِّثْ". وهذا دون ذِكْر مَحاسِنها ومَفاتِنها للبطون وهي في شَكلها "الفْرِيتِي" الذي اكتسح المطابخ والموائد عبْر العالم دون استثناء، لا سيَّما مطاعم الأكل السريع، موحدا بين الثقافات ولامًّا شَمْلَ البَشَر كأحد أهمّ وأبرز مظاهر ما أصبحنا نصطلح عليه بـ: العولمة.
في الجزائر، داخل المطابخ العائلية كما في المطاعم العامة، بلغتْ الجرأة بالبطاطا في المناورة وسرعة التَّكيُّف أن اقترَنتْ بزواج مُتْعة طال أمدُه مع البيْض، فأنجبتْ مولودا محمودًا بَهيّ الطلعة وبه شُقرَة سُمِّيَ منذ ميلاده على بَركة الله الـ: "فْرِيتْ أومْلاتْ"، ولم يُسعفنا الحظ حتى اللحظة هذه في أن نعثر على هذه البدعة البطاطية في غير الجزائر.
"نِيقْرُو بَطَاطَا خُبْزَة وَشْلاَظَة"...
اعترافا بالفضل وبالجميل، ومن باب الشهامة الجزائرية، التي كثيرا ما تَقْتُل، كُرِّمَتْ البطاطا بإطلاق اسمها على ملعب لكرة القدم بِحَيّ لاَكْرْوَا في ضاحية القُبّة بمدينة الجزائر: "سْتادْ بطاطا"، وعلى محطة الحافلات الواقعة بين اسْطَاوَالِي وسيدي فْرَجْ (لاَرِي بَطَاطَا). وأُدمِجتْ في الأهازيج الشعبية في السِّتينيات من القرن الماضي وربما حتى قبلها عندما كان الاطفال دائمي الهُتاف: "نِيقْرُو بَطَاطَا خُبْزَة وَشْلاَظَة"...
التكريم تجاوز التوقعات، إذ أصبحتْ البطاطا لقبًا لعائلات كبيرة في البلاد، بعضُ أفرادها اليوم من كِبار موظَّفي الدولة الجزائرية، مثلما هو الشأن في قطاع التربية وفي وزارة الخارجية. كما أَطلَق أنصارُ فريق وِدَاد الرّْوِيبَة لِكرة القدم، قرب مدينة الجزائر، اسمَ هذه "الخُضْرَة" لقبًا "تدليعيًا" على أقرب لاعب إلى قلوبهم وهو المرحوم "بَطَاطَا"، أيْ مَبْرُوكِي الذي توفي عام 1999م.
في مجال العلاج الاستعجالي، حوَّل الجزائريون البطاطا إلى دواء فعال ضد آلام الرأس ولتخفيف آلام العيْن عند مُمارِسي مهنة التَّلْحيم. كما خففوا بها من وطأة انتفاخ الكدمات في الرأٍس والوجه. ولجأوا إليها حتى إلى التعبير عن الغضب والاحتجاج في الملاعب الرياضية برشق المنافسين والخصوم بها.
أما ما لم أتوقعْه أبدا، وربما لم يَخْلُدْ على بال، هو ما كتبه أحد مراسلي الصحيفة اليومية الجزائرية "اليوم"، التي نَسيتْ عند تأسيسها على الأقل أن تكتب على صفحتها الأولى كما جرت العادة مع كل الصحف "المستقلة" كذبًا ونفاقًا بأنها مستقلة، فقد قال قبل أسابيع بأن هناك من يَستخدِم البطاطا في بلادنا في عمليات الإجهاض وبفعالية مثيرَة، لأن رحم المرأة، على حد قوله، بيئة خصبة لنمو هذه "الخُضْرَة" وسد الطريق في وجه الجنين ومَنْعِه من النمو والتَّطور... والعهدة على الراوي، لأنه لم يتيسر لنا التحقق من صحة هذا الزَّعْم عِلميًا.
نَتْرُكُ الجواب لِعلماء الأجنة وأمراض النساء الذين يَتَعَيَّن عليهم أن يقوموا باختبارات طويلة النَّفَس شبيهة بتجارب الطبيب الدانماركي الباحث الخبير في مجال التغذية هينداد، ولو أن هذا الأخير كان بإمكانه توفير الكثير من جهوده وسنوات عُمره لو استشار سكان مدينة معسكر الجزائرية والحقول المحيطة بها عن أسرار البطاطا التي تُعتبَر وطنَهم الثاني بعد الجزائر.
أما الذين يَتَهَجَّمون على هذه النِّعمة الإلهية استكبارًا واحتقارا وذوي الألسنة الطويلة التي يتجاوز مداها حدودَ أفواهها التي تختبئء فيها، فنقول لهم: تخيلوا العالم بدون بطاطا بل الجزائر بدون بطاطا، لا سيما ونحن نغوص بأقدامنا يوما بعد يوم في أزمة مالية تزداد حدة، وستفهمون حينذاك ما الذي تعنيه البطاطا في زمن تَسُوسُنَا فيه أنظمةٌ بطاطا.
رياض أمين: صحيفة "اليوم" اليومية الجزائرية. 1999م.



Image associéeL’image contient peut-être : nourriture

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...