السبت، 19 ديسمبر 2015

الرد على الدكتور يوسف زيدان حول موضع المسجد الأقصى ...... بقلم اسامة جمعة الاشقر


   د. أسامة الأشقر
د. أسامة جمعة الأشقر
عرفنا د. يوسف زيدان خبيراً محترفاً في شؤون المخطوطات وتاريخها ثم عرفناه روائياً جريئاً يكتب الرواية التاريخية باحتراف ولغة عالية واجتهاد يخرج عن النصوص كثيراً، ويتعمّد في رواياتها التركيز على لحظات المفارقة بين فكرين أو عالمين فيشرح لنا بسردياته حكايات التداخل؛ كما يتعمّد تناول الفراغات التاريخية التي لم يتخصص فيها إلا قلّة ليتمكّن من فرض أسلوبه الذي ينتهج فيه سياسة الغرائبية المبهرة. 

ما يعنيني منه الآن هو إطلالاته الجديدة التي تحدث فيها عن المسجد الأقصى وأن رحلة الإسراء لم تكن للمسجد الأقصى في القدس بأرض فلسطين وإنما لمسجد حمل هذا الاسم في موضع بمكة أو قرب الطائف .

هذه التصريحات كانت مجرد رأي أراد من خلاله التأكيد على مواقفه السياسية من صراعات المنطقة القديمة وأنه ليس هناك ما يبررها لأن مادة الصراع المتعلقة بالمسجد الأقصى هي مجرد خرافة سياسية كما يقول وأن الصراع عبث ، وتناسى الدكتور زيدان أنها قضية شعب طرد من أرضه ووطنه أيضاً فحتى لو افترضنا جدلاً أن المسجد الأقصى ليس بفلسطين فإن القضية قائمة .

وأنا أعلم أن الدكتور زيدان يستطيع أن يسرد لنا بعض موجّهات رأيه الذي أطلقه دون استدلال لكنني أعلم أيضاً أنه فقير جداً في الدراسات المقدسية الإسلامية وأن خبرته في هذا المجال هي في التاريخ الديني للقدس قبل الإسلام وليست خبرته احترافاً بل هي ثقافة، وأنه لم يكن يوماً من المحققين في الدراسات المقدسية في صدر الإسلام التي تعاني إلى اليوم من ندرة المتخصصين المحترفين.

ولابد لي أن أشرح هنا أن استناد الدكتور زيدان إلى بعض مقولات التاريخ في رأيه كحكاية صناعة رمزية القدس الدينية بإرادة أموية سياسية هي مقولات قديمة تبنّاها مؤرخون شيعة لأغراض مذهبية معروفة وسياقات منسوبة للزبيريين الذين أعلنوا الخلافة من مكة ودخلوا في حرب طاحنة مع الأمويين واستخدموا تجمعات لمبايعة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه خليفة للمسلمين ... هؤلاء هم الخصوم السياسيون للأمويين ثم نقل المؤرخون المتأخرون النصوص دون تمحيص أو تحقيق اعتماداً على منهج " ناقل الكفر ليس بكافر" ، وبالتالي فإن تبني بعض الآراء هو تدوير لمسائل ساكنة في التاريخ لم تحظَ بدراسة معمقة؛ وللأسف فقد استُخدمت هذه الآراء من الصهاينة المحتلين للقدس وبعض متطرفي الأديان المنافسة للديانة الإسلامية.

كان ينبغي من أمثال الدكتور زيدان أن يشرح لنا رأيه الذي صدم قناعات الملايين الحاسمة بموضع المسجد الأقصى، ولماذا أراد مسح هذه القناعة بجرّة قلم أو نفخة هواء باردة باستخفاف قاتل يوحي بانتفاخ في الشخصية وغرور مسرف في ادعاء المعرفة، وعليه أن يشرح لنا هذا الأمر استناداً إلى المرويات التاريخية مجتمعة دون انتقاء ، ثم إلى علم الآثار والنقوش الدال على موضع المسجد الثاني المزعوم، ثم إلى تاريخانية اللغة والأدب والاجتماع ودلالتها على تطور حياة الألفاظ والتراكيب وسيرورة حركتها باتجاه ما يدعيه .  

وكنتُ أنوي إنشاء كتاب ضخم في الرد عليه لكن تأليفه سيأخذ مني وقتاً طويلاً لاسيما في مرحلة الصف والإعداد للطباعة وصولاً إلى النشر والتوزيع فأشرتُ على نفسي أن تكتب في ذلك مختصراً يدلّ على المراد أدلل فيه على خلاف مزاعمه، وأثبّت الوضع القائم في نقاط :

- عندما يشترك موضعان أو أكثر في الاسم نفسه أو الوصف ذاته فإن الذهن ينصرف فوراً إلى الاسم أو الوصف الأكثر شيوعا واستقراراً وحضوراً ، ولا ينصرف هذا المراد إلى غيره إلا بقرينة واضحة تدل عليه نصّاً وسلوكاً، فصرفُ موضعِ المسجد الأقصى عن مكانه المعروف في فلسطين إلى موضع آخر يحتاج إلى سياق آخر ليس منه تشابه الاسم أو الوصف.

- ما استقر لدى الناس أن أسماء المدن والقرى والمواضع وعناوينها موروثة متواترة، لا تتأثر بالطعون الفردية أو الاجتهادات النشاز أو الآراء الشاذة أو الإشارة السطحية ، فما بالكم بموضع من أقدم المواضع وأكثرها شهرة في التاريخ .  

- ما أشار إليه د. زيدان من كلام الواقدي من أن المسجد الأقصى في الطائف، ورد في سياقٍ مشهور ومع ذلك فإن أحداً من قدماء المحققين لم يستفزّه هذا السياق ليفتي بما أفتى به زيدان، فقد تحدث الواقدي وابن جريج وغيرهما أن رسول الله لمّا فتح مكة وغزا حنيناً في الطائف عاد إلى مكة فأحرم في طريقه من موضع يقال له "الجعرانة" ، وكان رسولُ الله أقام هناك نحواً من ثلاثة عشر يوماً وكان يصلي في موضع سمّي بالمسجد الأقصى، ونص المؤرخون وكتاب السيرة أن هناك موضعاً آخر يقال له المسجد الأدنى الذي هو على الأغلب مسجد التنعيم أو مسجد عائشة رضي الله عنها؛ ووصف المسجدين بالأدنى والأقصى يفيد أن بينهما تقابلاً وأن هذا الوصف لكل واحد منهما نتج عن وجودهما معاً في مواضع معروفة إلى اليوم ، وأنه لا ينفرد أحد منهما بالوصف دون ذكر الآخر في التعليل.

- وتحديد الجهة بالأقصى والأدنى إنما هو بالنسبة إلى الكعبة فالمسجد الأقصى الذي بالجعرانة كان مقارنةً بالمسجد الآخر أبعد مسافة منه لذلك وصف بالأقصى .

- جميع مرويات قصة الإسراء والتي وردت من طرق عديدة تتجه في مسارات شمالية واضحة، وتتحدث عن أماكن في شمال مكة مثبتة إلى اليوم في خرائط جزيرة العرب الذهنية والمرسومة وما تزال تحمل أسماءها إلى اليوم.

- وصفت النصوص القرآنيّة والحديثية المكانَ الذي أسري إليه النبيّ بأنه مسجد وأنه قصيّ بعيد، بل هو الأقصى؛ وأنّ منتهى الإسراء هو بيت المقدس؛ وأنّ مبتدأ العروج هو بيت المقدس، وأن خط سير العودة كان يمرّ بطريق القوافل القادمة من الشام تجاه مكة بدليل حكايته عن القافلة القرشية التي نفر أحد جِمالِها الذي يحمل غِرارتي طعام لمّا مرّ النبي - وهو على البراق - بها، فصُرِع ذلك البعير، وانكسر.

- لم تأت نصوص شرعية في فضل المسجد الأقصى الذي بالجعرانة سوى أنه في حدود حرم مكة وأنه موضع أحرم منه رسول الله في طريقة عودته من الطائف، ولم ترد نصوص خاصة في المكان شبيهة بما للمسجد الأقصى في فلسطين من أحكام كاتجاه القبلة وشد الرحال وفضل الصلاة ، بل إن مسجد الجعرانة لكون في حرم مكة الذي هو امتداد المسجد الحرام يكون أجر الصلاة فيه أكثر مضاعفةً من أجر الصلاة في المسجد الأقصى . 

- جميع مصادر تاريخ فتوحات صدر الإسلام ، وتحديداً في حركة أجناد الشام  تتحدث عن أن هذا الموضع في فلسطين هو المسجد الأقصى ، ويكفي في ذلك حشد مرويات اهتمام الخليفة عمر بن الخطاب بالمسجد الأقصى وافتتاحه المدينة ودخوله إليها وتتبعه لموضع صلاة رسول الله في المسجد، مما يؤكد صحة نسبة موضع المسجد الأقصى لفلسطين .

- كان الخليفة عمر بن الخطاب ملمّاً بأوصاف المسجد الأقصى قبل فتحه له من خلال قربه الشديد من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي كان يروي لأصحابه قصة الإسراء والعروج إلى السماء بدليل ما رواه أبو المعالي ابن المرجّى المقدسي في كتاب فضائل بيت المقدس بإسناده أن عمر بن الخطاب قال للبطريق في بيت المقدس الذي ادّعى أن موضع المسجد هو موضع كنيسة القيامة : كذبتَ ! لقد وصف لي رسولُ الله مسجدَ داود بصفةٍ ما هي هذه ؛ وقد رفض الخليفة أن يأخذ بإشارة كعب الأحبار لموضع الصلاة خلف صخرة بيت المقدس ، وأصرّ أن تكون صلاته في الموضع الذي صلى فيه رسولُ الله بالأنبياء، مما يؤكد الصلاة النبوية في هذا الموضع .

- لو كان المسجد الأقصى هو الذي في الطائف قرب لما احتاج كفار قريش إلى تحدي رسول الله بمطالبته بوصف المسجد الأقصى الذي أسري به إليه وتقديم أدلة حسية على ذلك لأن كثيراً من أهل مكة يعرف الجعرانة، ولا يحتاج الأمر إلى استدلال.

- يتردد اسم المسجد الأقصى مع بيت المقدس وإيلياء كثيراً في النصوص النبوية مما يؤكد العلاقة الجغرافية المتصلة بينهما، وانظر مثلاً إلى حديث الطبراني والبيهقي في الدلائل والبزار(ثم انطلق بي " أي جبريل" حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني ، فأتى قِبلة المسجد، فربط فيه دابته، ودخلنا المسجد من بابٍ فيه تميل الشمس والقمر ، فصليت من المسجد حيث شاء الله ...). 

وفي مختتم مقالتي المختصرة هذه فإنني أعيد التأكيد أن الدلائل على خلاف ما قاله د. يوسف زيدان كثيرة جداً ولو أردنا صناعة مجلدات استدلالٍ ضخمة لفعلنا، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق ودل على الفائدة مباشرة لئلا يستدرجنا أمثال هؤلاء المتسرّعين إلى جنايات علمية واعتقادية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...