الخميس، 24 ديسمبر 2015

هل استطاع العقل البشري أن يثبت وجود الله أو ينفيه ??? ... بقلم المفكر نهرو طنطاوي


لقد حاول المعتزلة مجتمعين في الماضي والحاضر أن يثبتوا أن بإمكان العقل البشري أن يتعرف على الله ووحدانيته وصفاته ووجوده عن طريق العقل لا عن طريق النقل (الرسل والرسالات) فهل أفلحوا في هذا؟.
هذه مقتطفات من أقوال أئمة المعتزلة حول هذا الموضوع:
يرى أبو القاسم الرسي المعتزلي: ( ت: 246هـ) (أن حجة العقل جاءت بمعرفة المعبود).
وقال المحسن الجشمي المعتزلي ( ت: 457 هـ) : (الذي نقول في ذلك: إن أول ما يجب على المكلف النظر في طريق معرفة الله تعالى، ثم النظر في طريق معرفة صفاته).
ويرى الزمخشري أنه (لا طريق إلى معرفتة إلا النظر).
ويقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: (إن سأل سائل فقال: ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى؛ لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة، فيجب أن نعرفه بالتفكير والنظر).
ويقول أيضا القاضي عبد الجبار المعتزلي: (إن معرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل فلأن ما عداها فرع على معرفة الله تعالى بتوحيده وعدله، فلو استدللنا بشيء منها على الله والحال هذه، كنا مستدلين بفرع الشيء على أصله وذلك لا يجوز).
والسؤال الآن:
لو كان العقل كما يزعم المعتزلة (إن وجد حقا ما يسمى "عقل") باستطاعته معرفة الله من دون نص ولا رسالة ولا نبي فلماذا هناك ملايين على مر التاريخ البشري من العقول الناظرة الباحثة عن الله لم تتوصل إلى معرفة الله بل أنكرت وجوده ببراهين وأدلة عقلية معتبرة؟؟ أم أن عقول المعتزلة خلقها الله من لون خاص غير عقول البشر؟!!
العقل وفقاً لأهل العقل يقول: لو افترضنا وجود سبب أول، أو علة أولى، أو عقل أول، أو أو ... إلخ، على الفور سينهض السؤال المشروع اليقظ في أذهاننا: من أوجده؟ فإن قلت إنه واجب الوجود من غير موجد. قلنا لك كيف يدرك العقل وجود موجود بدون موجد؟ إذ جميع بني آدم على مر العصور لم يروا شيئا حدث إلا من شيء أحدثه، ومن ادعى غير ذلك فقد ادعى ما لم يشهده جميع بني البشر على مر الدهور والأزمان، ومن ادعى أو زعم أن العلة الأولى أو السبب الأول موجود بذاته من دون موجد، نجيبه فنقول: وهل شاهدت أنت ذلك الموجود الأول بلا موجد؟ فإن قال لا فقد كذب في ادعائه، وإن قال نعم شاهدته، نقول له إن الموجود الأول بدون موجد الذي لم يزل لا أول لوجوده، وادعاؤك بأنك شاهدت ذلك فقد ادعيت لنفسك أنك مثله بلا أول لوجودك وأنك مثله لم تزل وهذا محال حدوثه وتصديقه.
كذلك لو افترضنا وجود سبب أول أو علة أولى أو نقطة بدء أو صانع أول أو عقل أول أو محرك أول أو سَمِّه ما شئت، إذا كنا لم نر ولم نشاهد ذلك الأول ولم نعرف كنهه فلماذا نفترض أن ذلك الأول هو الله؟ لماذا لا يكون أي شيء آخر سوى الله؟
وكذلك العقل يقول: إن كان للكون موجد فلابد من أن يكون الموجد واحدا من اثنين، الأول إما أن يكون مثله في كل شيء، الثاني إما أن يكون ليس مثله في كل شيء، فإن كان مثله في كل شيء فهو مخلوق حادث مثل خلقه، وإن كان ليس مثله في كل شيء -وجميعنا يقر بأن الخالق ليس مادة والخلق مادة-، فمن المحال أن يخلق من ليس مادة الموجود الأزلي المخلوق المادة المحدث، لأن الخالق الأول لو كان هو علة وجود الخلق فلا يمكن للعلة أن تفارق المعلول بأي وجه من الوجه، وعليه فلو كانت العلة أزلية فكذلك المعلول أزلي مثل علته.
وكذلك العقل يقول: لو كان للكون صانع أول أو خالق أول فلا يخلو ذلك الصانع أو الخالق من أنه صنع العالم أو خلق الكون لجلب نفع أو دفع ضر أو لأنه أُجبِر أو اضطر إلى ذلك، وفي كل الأحوال هو مخلوق محدث كخلقه، لأن الصانع الأول الأزلي لا ينفعه ولا يضره ولا يجبره ولا يضطره شيء من مخلوقاته فهذه أحوال المخلوقات الحادثة الضعيفة المحتاجة وإلا فهو حادث مثلها ومحتاج مثلها، أما من يعترض ويقول إن الخالق الأول أو الصانع الأول صنع العالم ليس من أجل شيء، فقد خرج على براهين وأدلة العقل (إن وجد حقا ما يسمى "عقل") إذ لا يمكن تصور حدوث شيء أو فعل شيء من دون جلب منفعة أو دفع مضرة أو إجبار أو اضطرار.
فإن عاد واعترض المعترض وقال: ولكن هذه تصوراتنا نحن البشر المخلوقة الحادثة إذ لا يمكن تطبيق موازين وقوانين ومعايير الخلق المحدثة المخلوقة على الله، فهو ليس مثلها، وهي ليست مثله، قلنا له: وهل ما تسمونه عقلا هل براهينه وأدلته هي ميزان ومعيار وقانون محدث مخلوق أم هي أزلية؟ فإن قالوا: هي محدثة مخلوقة، فقد ردوا على أنفسهم بأنفسهم أنه لا يمكن تطبيق معيار وقانون وتقييم العقل الحادث المخلوق على الله الأزلي الخالق، أما إن قالوا: هي أزلية. فقد قالوا بتعدد الأزليين.
وكذلك قد يعترض معترض ممن يألهون العقل البشري (إن وجد حقا ما يسمى "العقل البشري") ويقول: نحن نتفق معكم في أنه لا يمكن للأزلي أن ينتج غير أزلي، أو لا يمكن لغير المادي أن ينتج ما هو مادي، فنحن لا نقول بأن الله علة مباشرة في الخلق والصنع والإيجاد، فالمادة الأولى لم تنشأ عن الله مباشرة، ولكننا نقول إن المادة الأولى نشأت عن "إرادة أولى" صنعت وخلقت المادة بكل خصائصها وصورها وما هي عليه في هيئتها الآن.
وجواباً على هذا الاعتراض أقول: هذا الاعتراض يرجعنا لندور في نفس الحلقة المفرغة حيث كنا، والسؤال الآن: هل تلك الإرادة التي أنشأت وصنعت وخلقت الكون هل هي ذات الله؟ أم جزء منه؟ أم هي شيء غير الله؟، فإن كانت هي الله أو جزء منه فما الفرق بين الله وإرادته إن كانت من ذات الله؟ وما الفرق بين الله وجزء منه؟ إذ الجزء هو بعض من الكل، وإذا كانت تلك الإرادة ليست هي الله ولا جزء منه فهناك إرادة أزلية قديمة مع الله لكنها ليست هي الله، وبالتالي فهناك أزلي قديم آخر مع الله.
ياليت من يألهون العقل البشري من المعتزلة ومن لهث خلفهم أن يراجعوا عقولهم (إن وجد حقا ما يسمى "عقولهم") وينظروا هل صلحت عقولهم حقا في معرفة الله؟؟
قد يغتبض وينتشي ويفرح بعض من يألهون العقل من العلمانيين والملحدين واللادينيين واللأدريين بهذا الكلام ويقول في نفسه: نعم هذه هي نتيجة العقل الصحيحة الصواب التي تثبت عدم وجود فاعل أول أو موجد أول أو إله خالق أول لهذا الكون.
إلا أن عقول هؤلاء (إن وجد حقا ما يسمى "عقول") كذلك لم تجب ولن تجد أجوبة عقلية عن الأسئلة الملحة المشروعة التي لم تزل تلح ولن تبرح تلح وتسأل: من خلقنا؟ من أوجدنا؟ من أين جئنا؟ من أتى بنا؟ لماذا نحن هنا؟ وإلى أين نذهب؟.
هل أوجدتنا الصدفة؟
ما هي الصدفة؟ أو من هي الصدفة؟ ما كنهها؟ من شاهدها؟ من أوجدها؟ كيف جاءت؟ ونغوص لآذاننا في يمٍ من الأسئلة الثكلى التي لا مجيب لها.
هل العلم يمتلك جواباً؟
ما هو العلم؟ أو من هو العلم؟ أي علم من العلوم؟ علم مَن مِن العلماء؟ أي نظرية علمية هي الصحيحة والصواب ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؟ ألن تظهر نظريات أخرى جديدة في المستقبل تدحض كل ما نطلق عليه الآن "نظريات علمية" كما حدث من قبل في شتى النظريات العلمية في كافة مناحي العلم؟؟.
إن براهين العقل وأدلته القاطعة (إن وجد حقا ما يسمى "عقل") تقول: لم ولن يكون في هذه الحياة منذ أن وجدت، موجود بدون موجد، أو سبب بدون مسبب، أو علة بدون معلول، لكن في المقابل كيف نفس هذا العقل هو هو بأدلته وبراهينه _ كما هو الحال في عقول أهل الإلحاد واللادينية_ يقبل أن يوجد هذا الكون بجملته أو هذه الحياة بجملتها، بلا موجد أول، وبلا سبب أول، وبلا علة أولى، وجدت بدون موجد؟؟.
ياليت من يألهون العقل البشري أن يراجعوا عقولهم (إن وجد حقا ما يسمى "عقولهم") وينظروا هل صلحت عقولهم حقا لدحض حقيقة فكرة وجود إله خالق لهذا الكون وجد من دون موجد؟؟.
كم أعجب وكم أشفق على من يلهثون خلف من يحاولون تعبيد الناس لعقولهم، فكم يبددون أوقاتهم وأعمارهم وجهدهم خلف سراب لن يدلهم على شيء ولن يهديهم إلى حق.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...