الخميس، 24 ديسمبر 2015

عيد المولد النبوي الشريف في بداياته...... بقلم الباحث فوزي سعد الله


السياسة هي التي أنجبت الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ولم تقترن طقوسه أبدا بظهور الإسلام، لأن، وعلى العكس مما قد نتصوره اليوم، إحياء ذكرى ميلاد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يحدث لا في حياته ولا في مماته في عهد الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، ولا اهتمت به الأجيال الأولى من المسلمين باستثناء أهل يثرب الذين كانوا يؤدون لضريحه زيارة متواضعة وبعض الأقليات المذهبية في أوقات لاحقة وفي شكل محدود.
كان على المسلمين أن ينتظروا قرونا طويلة قبل أن تُثرى طقوسُهم الاجتماعية بهذه الاحتفالات التي ما زالت صامدة إلى اليوم والتي هي في الأًصل طقوس أنجبتْها السياسة وضرورات الظرف التاريخي قبل كل شيء.
فالفاطميون المنحدرون من أهل البيت بدأوا يحتفلون بميلاد جدهم محمد بن عبد الله في قصورهم منذ القرن 10م بعدما رحلوا من شرق الجزائر وتونس إلى القاهرة مثلما كانوا يحتفلون بمولد علي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين ووالدتهما فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبد الله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. ثم سرعان ما حوَّلوا هذه الاحتفالات بذكرى المولد النبوي إلى طقوس وطنية رسمية ألقوا بها إلى الشعب واستثمروا فيها الأموال الطائلة التي تغيِّر وتيرة حياة الناس لنحو أسبوع وتُنسيهم همومهم ومتاعبهم اليومية حيث يُطعم فيها الفقير ويسعد خلالها الحزين ولو لأيام معدودات.
في نهاية القرن 12م، شهد الرحالة الأندلسي ابن جبير احتفالات ضخمة بالمولد النبوي في مكة المكرمة يلتحق بها كل الناس المتواجدين بهذه المدينة وضواحيها التي احتضنت ميلاد رسالة الإسلام.
أما أبو العباس العزفي السَّبْتِي فيؤكد في نهاية القرن 12م وبداية القرن 13م في كتابه المعروف "الدّر المُنظَّم في موْلِد النَّبي المُعَظَّم" أن يوم عيد ميلاد محمد بن عبد الله كان في مَكَّة يوم عطلة ينقطع خلاله الناس عن العمل وتفتح فيه الكعبة المشرفة للزوَّار.
أما في المغرب الإسلامي والأندلس، فإن إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف قد وُلد مِن رحم الصراع الثقافي الإسلامي النصراني، وهو أيضا ثمرة جهود اعتمدتها النُّخب الثقافية والسياسية لكبح تغلغل العادات المسيحية في الوسط الإسلامي في وقت كانت عامة الشعب تُقلِّد فيه النصارى بل وتحتفل معهم بأعيادهم كالعنصرة، عيد النبي يحي (Saint Jean)، والسابع من يناير الذي اعتُبِر يوم مولد المسيح عليه السلام...
وهكذا اعتُمِد عيد جديد يحتفي بذكرى ميلاد رسول الإسلام تُقام فيه الأفراح وتوقَد خلاله الأنوار في المدن والحواضر ومحيط المساجد والجوامع والأضرحة...
واستُلْهِم فيه بذكاء ودون أية عقدة بعضٌ من طقوس وتقاليد الاحتفال بعيد ميلاد المسيح التي أخذوا منها على الأقل المسيرات الليلية حاملين "المنارات" والشموع في أزقة قرطبة وغرناطة وفاس وتلمسان وبجاية وتونس والقيروان وطرابلس مثلما يفعل النصارى في عيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام حاملين التماثيل التي ترمز له ولمريم العذراء يجولون بها الشوارع... ولم يكن ذلك الاستلهام الديني الإسلامي الوحيد من الطقوس الروحية النصرانية بل اكتسح بعضُها حتى حضرات الإنشاد الديني في المساجد...
وحدث أن مَنع السَّاسة الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف بقرارات رسمية، وأعاده آخرون بقررات مماثلة. وبقي هذا العيد يتأرجح بين مد وجزر حسب أهواء الحُكام، بِمَنْ فيهم المحتلون الفرنسيون في الجزائر، وحسب إمكانيات الناس وظروفهم، إلى أن بَلَغَنَا كما نعرفه اليوم في نُسخة شِبْه مُفرَغة من محتواها الرُّوحي الذي قامتْ من أجله قبل نحو سبعة قرون.
في الجزائر، ما بقي من تقاليد الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم سوى المفرقعات و"النُّوَالات" و"الصواريخ" النَّارية و"الجَاكْسْ" تقريبا وبعض الطبيخ التقليدي الذي يعود دوريا إلى الموائد كالكسكس والتّْشَخْتْشُوخَة والثَّرِيدَة والرَّشْتَة، حسب المناطق والعائلات، في مثل هذا النوع من المناسبات. بل يوجد مَن أقحم فيه الشوكلاطة وما تيَسر من الشكلاطة والفستق واللوز والحلويات...
لكن هناك مَن بقي محافظا أيضا على عادة إيقاد الشموع داخل بيوت المنازل والشرفات وعلى إقامة "الحضرات" الصوفية في المساجد والزوايا والأضرحة حيث تُنشَد المدائح والتوسلات كما يحدث إلى اليوم في مسجد ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي في قصبة مدينة الجزائر...
هكذا إذن كان عيد المولد النبوي الشريف في بداياته. وهكذا هو اليوم، وتحديدا في هذه الليلة التي عاد فيها إلينا ربَّما حاملا معه خيرا وبركات وآفاقا سعيدة وأعمارا مديدة لكم ولكل مَن تُحبون وتعزون.
فمبروك مولدكم أعاده الله علينا وعليكم بالطمأنينة والصحة والهناء وأبعد عنكم كل مكروه وشقاء...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...