السبت، 16 يناير 2016

يحي بن خلدون ومنهجه في كتابة التاريخ.... بقلم الأستاذة محصر وردة

ملاحضة ... يحي ابن خلدون هو اخ المؤرخ المشهور ابن خلدون




يمثل يحي بن خلدون شخصية بارزة، وعلما شامخا من أعلام المغرب الإسلامي قديما، وهو بما ألّفه في تاريخ تلمسان وملوكها قد سجّل نفسه ضمن أهمّ الأعلام الذين وفدوا على عاصمة بني زيان فأفادوا منها وأفادت منهم.
وهو أبو زكريا يحي بن خلدون، ولد بتونس سنة 734ه( ) بعد أخيه عبد الرحمن صاحب "المقدمة والعبر" بحوالي سنتين، وهو من بلغ بالشهر صبيا عظيما، واهتمّ الدارسون اهتماما كبيرا بدراسة مؤلفاته، وقد يكون انشغالهم بفكره وعلمه سببا في بقاء أخيه يحي زمنا طويلا في زاوية النسيان ، لم ينل حقه من الدراسة والبحث ، وكل ما نعرفه عنه هو ما جاء في كتابه "بغية الروّاد في ذكر الملوك من بني عبد الواد"، والذي كان مصدرا رئيسيا لمعظم الدارسين والمؤرخين ، فاعتمدوه في التأريخ للمغرب القديم باعتباره وثيقة تاريخية وباعتبار مؤلفه شاهدا على الكثير من أحداث عصره.

وإذا كان كتاب يحي بن خلدون قد سجّل تاريخا بأكمله ، وكان بذلك من أهمّ المصادر التي يلجأ إليها الدارس للحياة الثقافية والفكرية ببلاد المغرب ، فقد ألفينا تجاهل كتب التراجم للمؤلف الذي لو لم يخبرنا هو نفسه عن حياته وبعض شيوخه ، ورحلاته في بعض فصول كتابه، لظلّ الرجل منسيا ، ولحرمنا نحن ومن يشاركنا الاهتمام بتاريخ المغرب وأدبه؛ متعة البحث ونشوة المعرفة ، وينضاف إلى تلك الأخبار التي سجّلها في كتابه ما يمكن العثور عليه في كتب التاريخ والتراجم ممّا قد يساعد على كشف بعض الغموض الذي اكتنف حياة يحي بن خلدون خاصة إذا علمنا أنّه من أسرة عربية يعود أصلها إلى حضر موت، والتي استقرت بإشبيلية، ثمّ هاجرت إلى المغرب بعد أن بات انهيار الأندلس وشيكا. فأقامت مدّة من الزمن بتبسة ثمّ انتقلت إلى إفريقية في عصر الحفصيين( ). فكانت لهذه الأسرةِ مكانةٌ بارزة في سياسة إفريقية كلها.
وقد نشأ والده محمد أبو بكر بن خلدون نشأة علم وتقوى فكان لذلك أثر بالغ في حياته و"نزع عن طريق السيف والخدمة إلى طريق العلم والرباط(...) فقرأ وفقّه، وكان مقدّما في صناعة العربية وله بصر بالشعر وفنونه"( ).
ونظرا للمكانة العلمية والأدبية التي كان يحظى بها والد الأديبين والمؤرخين يحي بن خلدون وأخيه عبد الرحمن فقد أثّر ذلك تأثيرا كبيرا في حياته العلمية ، لأنّه كان قد نشأ نشأة مفعمة بحب العلم والزهد في الحياة السياسية ومؤامراتها الدّنيئة، والانصراف إلى حياة ثقافية وعلمية وما كانت تعجّ به من مساجلات أدبية وفكرية، ولم يذكر يحي بن خلدون من شيوخه إلاّ أربعة هم أبو علي الزواوي، وأبو عبد الله الشريف والآبلي ، وأبو البركات البلفيقي( ).
وعلى الرغم من ابتعاد والده عن معترك السياسة؛ على خلاف ما كانت عليه أسرته، التي شغلت حيزا مهمّا في الحياة السياسية والعسكرية بإشبيلية وبالمغرب في دولة الحفصيين منذ سنة 630ه، فإنّ الأخوين يحي وعبد الرحمن عادا إلى تقلّد المناصب العليا في الدولة الحفصية بتونس، والزيانية بالجزائر، والمرينية بالمغرب.
وقد شغل صاحب "البغية" مناصب سياسية خدم من خلالها السلطان الحفصي أبا عبد الله الحفصي، وأبا حمو الثاني الزياني، ثمّ انتقل إلى خدمة بلاط الأمير عبد العزيز المريني قبل أن يعود في الأخير إلى بلاط أبي حمو الثاني بتلمسان حيث قتل في رمضان سنة 780ه.
وقد لا نبتعد عن الصواب إذا ما اعتبرنا تلكم السنوات السبع التي أمضاها يحي بن خلدون بتلمسان هي أهمّ فترة من عمره، لأنّه ألّف فيها كتابه "بغية الروّاد" بفضل ما توفّر لديه من استقرار، فقد أرّخ فيه لدولة بني زيان منذ نشأتها إلى عصر المؤلف.
والدارس لمؤلفه هذا يجده يتسم بخاصية مدح الملوك والأمراء الزيانيين، كما أنّه نهج نهج من عاصره في أسلوب التأليف كسجع العبارات واستحضار التصوير الفني في وصف البلاط، والحديث عن السلاطين، وهو في ذلك لم يخرج عن منهاج معاصريه كابن مرزوق الخطيب وصديقه الوزير لسان الدين الذي كان يعدّ بحق المثل الأعلى لأدباء الأندلس والمغرب، وقد اقترب يحي بن خلدون بهذا القسم من كتابه؛ بما استمل عليه من مدح الملوك وإجلال صفاتهم ومناقبهم؛ إلى التملق والخضوع لو لم يسجل تاريخ عهد الزيانيين مميزا بين مدح الملوك والأمراء، وبين كتابة التاريخ متحريا الصدق وملتزما بالأمانة العلمية ، فكان للتاريخ الموقع الأساس وما كان للمدح إلاّ موقع الزخرف في ذلك الكتاب.
ويجدر بنا أن نشير إلى ما ذهب إليه عبد الحميد حاجيات في تحقيقه للبغية في أنّه "لا يعقل أن يعالج يحي بن خلدون كاتب أبي حمّو الثاني تاريخ الدولة العبد الوادية، وبالأخص عهد السلطان الذي يخدمه من دون أن يفكر في إظهار الأحداث والواقع في صورة ملائمة لأولئك الأمراء، فهو يحاول مداراة حساسيتهم، ولكن لا يعمد في ذلك إلى تغيير الحقائق التاريخية"( ).
ومع ذلك فإنّ مؤرخنا غض الطرف عن النكسات التي كان أمراء تلمسان يصابون بها، فلم يذكر هزائم يغمراسن في حربه للمرينيين في معركة إيسلي سنة 647ه وغيرها من المعارك التي ألفينا أخاه عبد الرحمن يسجلها في كتاب العبر( ).
ويبقى للباحث أن يتساءل عن سبب حذف صاحب البغية ذكر الهزائم والمثالب التي كان تحف الحياة السياسية والعسكرية لملوك بني زيان في الوقت الذي وجدنا أخاه يهتمّ بتسجيل الكثير من النكبات السياسية التي ألحقها المرينيون بالدولة العبدوادية. وقد يكون الرد على تساؤلنا هذا هو ما ذكره عبد الرحمن بن خلدون عندما أراد تعريف التاريخ : "أنّه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعة من الأحوال"( ).
وقد يكون حرص يحي بن خلدون على تأريخ نشاط السلطان أبي حمو الثاني وتدوين انتصارات جيوشه سببا في ابتعاده عن تسجيل الكثير من الوقائع والأحداث التاريخية التي نجمت عن صراع السلطان مع ابنه الأكبر أبي تشفين وما تلاها من ضعف نفوذ جيوشه ، واستيلاء العرب البدو على بعض أراضي الإمارة.
ولعلّ أثمن ما نذكره بعد اطّلاعنا على كتابة "بغية الروّاد" هو أنّه يمكن اعتبار الجزء الأوّل منه مقدمة شاملة لتاريخ هذه الدولة درجة أنّ يحي بن خلدون قد أسهب في وصف بلاد الزيانيين مركزا في ذلك على عاصمتهم تلمسان، فبدأ بتعيين موقعها الجغرافي مبينا بدقة كبيرة حدودها، ثمّ انتقل إلى الحديث عن طبيعتها ، وأصول سكانها ، مبرزا مكانة تلمسان في بعض الأحاديث الشريفة ، وأثر بعض الصحابة والصالحين، وهي مكانة تبوّأتها تلمسان بفضل علمائها وحرصهم على نصرة الإسلام ونشره، ولعلّ أهمية الكتاب تكمن فيما جاء فيه من تراجم لمعظم علماء عصره من رجال الفكر والأدب والتصوف ، ثمّ ينصرف بعد ذلك إلى ذكر الولاة والأمراء الذين حكموا هذه الناحية من المغرب الأوسط منذ الفتح الإسلامي إلى عصر أبي حمو الثاني ، وقد تناول أصل قبيلة عبد الواد وظروف تأسيس إمارتها بإسهاب.
وهو بذلك يقدم للدارس أرضية غنية الموارد متنوعة الفروع لتكون المادة الأساس لكثير من الأبحاث والدراسات حول تاريخ المغرب القديم.
إنّ يحي بن خلدون لم يكتب تاريخ الدولة العبدوادية دون أن يتأثر بمن سبقه إلى التأليف في تاريخ الأمم ، وهو لاشك قد اتبع في تأليفه منهجا كان المغاربة قد سلكوه في تواليفهم، فهو لا يختلف مع أخيه عبد الرحمن في وجهة نظره إلى الوقائع التاريخية بما قاله في مقدمته : "...يحتاج صاحب هذا الفنّ إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السّير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما ببينهما من خلاف وتعليل المتفق منها والمختلف والقيام على أصول كل خبر يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا وإلاّ زيّفه واستغنى عنه"( ).
تلكم هي شخصية المؤرخ في نظر عبد الرحمن بن خلدون وما يحتاجه من علم وثقافة ودقة النقل والتدوين، وهو ما لا يبتعد عنه أخوه يحي في مقدمة الجزء الأوّل من البغية : "إنّي ذاكر أعزّك الله في هذا القسم ما لا غنى بنا عنه من التعريف بكنه قبيل بني عبد الواد وأوليته. ولما كان كل حادث مفتقرا بذاته إلى مكان سابق وزمان لاحق وجب أن نفرد لذكره وذكر كل منهما بابا نفي فيه بغرضنا من خبره حسب الوسع"( ).
وقد ألفينا أخاه يورد ما يشبه رأيه في مطلع مقدمته "إنّ كل حادث من الحوادث ذاتا كان أو فلا لابدّ له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله". وهو ما يوجب الإحاطة بـ "طبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضايتها"( ).
والظاهر أنّ يحي بن خلدون كان قد اطّلع على كل ما ألف في عصره وتأثر بأسلوب التأليف وطرائقه، قد وجدناه يحذو حذو عبد الواحد المراكشي في معجمه ولسان الدين بن الخطيب في اللّمحة البدرية وذلك في افتتاح مؤلفاتهم بوصف البلاد وتحديد موقعها والتعرض لكل مناحي الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية ، وهو في الجزء الأوّل من كتابه يتناول حياة الأمراء والسلاطين بإسهاب ، الأمر الذي يؤدي بنا إلى الاعتقاد بأنّه كان يقدم تسجيل تاريخ الملوك والأمراء ووقائعهم على ما كان يحدث في البلاد كلّها من وقائع كانت أهمّ مما يحدث في القصور ، ويبدو أنّه كان متأثرا بفلسفة معاصريه فيما تعلق بعلم التاريخ ، درجة أنّه تعامل مع الأحداث وتواريخها تعاملا لا يختلف منهجيا عن مفهومه عند أخيه عبد الرحمن، غير أنّنا ألفناه أقلّ دقة وتفصيلا واستطرادا من أخيه الذي اقترب كثيرا من ابن سعيد في مؤلفه "المغرب في حلى المغرب" وابن الخطيب في إحاطته.
وحريّ بنا أن نذكر أنّ يحي بن خلدون كان واعيا بأنّ التاريخ الحدثي وحده غير كاف لتفسير بعض نتائج الأفعال والأقوال التي صارت أحداثا ووقائع يهتمّ بها المؤرخ برصدها وتدوينها ، وأنّه لابدّ من دراسة الحدث بالنسبة لزمانه ومكانه اللّذين وقع فيهما لكونهما يتصلان به اتصالا قويا ، مما يفرض عليه الاهتمام بالعلل والأسباب من أجل "دراسة سائر العوامل التي تخضع الأحداث التاريخية لتأثيراتها وكل العناصر التي ترتبط بها أو تبحث عنها كما يرتبط ذلك بنقد المعلومات شفهية كانت أو كتابية"( ).
إنّ أهمّ ما نسجله في آخر المطاف هو أنّ التاريخ قد وحّد بين الكثير من الأعلام والمفكرين في منهج تأليفه على الرغم من اختلافهم وتباين وجهات النظر لديهم، الأمر الذي جعل يحي بن خلدون وأخاه عبد الرحمن والمراكشي وابن الخطيب يشتركون في شخصية المؤرخ ، وكيفية تعامله مع الوقائع والتاريخ ، وإن كان قد فرّق بين السلاطين وشعوبها ، فإنّه قد جمع بين مناهج المؤلفين الذين أرخوا للملوك دون شعوبها فكان تاريخهم بالفعل هو تاريخ الملوك.

ـــــــــــــــــــــ

الهوامش:

( ) - ابن الخطيب (لسان الدين) ، الإحاطة في أخبار غرناطة ، القاهرة ، مطبعة الموسوعات.
( ) - ابن خلدون (عبد الرحمن) ، التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا ، دار الكتاب اللبناني ، 1979 ، ص 11- 12.
( ) - المصدر نفسه ، ص 16.
( ) - ابن خلدون (يحي) ، بغية الروّاد في ذكر الملوك من بني عبد الواد ، تحقيق عبد الحميد حاجيات ، الجزء الأوّل ، المكتبة الوطنية ، الجزائر ، 1980 ، ص
( ) - المصدر نفسه ، مقدمة المحقق ، ص 59.
( ) - ابن خلدون (عبد الرحمن) ، العبر ، الجزء السابع ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، د.ت ، ص 171 ، 172.
( ) - ابن خلدون (عبد الرحمن) ، المقدمة ، مكتبة عبد الرحمن محمد ، د.ت ، ص 21.
( ) - المصدر نفسه ، ص 21.
( ) - ابن خلدون (يحي) ، بغية الرواد ، ص 84.
( ) - ابن خلدون (عبد الرحمن) ، المقدمة ، ص 26.
( ) - ابن خلدون (يحي) ، بغية الرواد ، مقدمة المحقق ، ص 61.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...