الأحد، 24 يناير 2016

العُثَْمانِيَان خيرُ الدين وشقيقُه عُرُوجْ... بقلم فوزي سعد الله







قبالة مدينة بِجَايَة، شمال شرق الجزائر، المحتلة من طرف القوات الإسبانية منذ السنوات الأولى من القرن 16م في أعقاب سقوط غرناطة آخر ممالك المسلمين في الأندلس، يقول خير الدين بربروس في مذكراته التي أملاها في إسطنبول على سيد علي رايَسْ صديقه ورفيقه الحميم في مشواره البحري اللامع والطويل:".....نشرنا الرايات الصليبية على السفن الإسبانية العشر (التي غُنمَتْ في مياه جيجل القريبة في معركة مع الإسبان كما رأينا في الموضوع السابق NDLR)، و أمرت 500 بحار بالكُمُون فيها ، واتجهنا بها نحو بجايـة . كان الكفار الإسبان المتحصنون بقلعة بجاية ينتظرون القطع البحرية العشرة القادمة من مينورقة لإمدادهم . وعندما رأونا من بعيد حسبوا أننا إخوانهم في الدين فرفعوا قبعاتهم ملوِّحين بها في الهواء تعبيرا عن سرورهم . وهكذا دنونا من القلعة الغارقة في الفرح والسرور . فتح الكفار أبواب القلعة وتدفقوا على قصورهم الساحلية لاستقبال السفن التي جاءت لنجدتهم . وفجأة أمرت البحارة بالخروج إلى الساحل . وما إن سمع الكفار صيحات التهليل حتى اضطربت صفوفهم وولوا منهزمين . فتمكنا من فتح القلعة ، بينما راح الإسبان يصرخون بعبارة " ماينا سينيور " طالبين الأمان .
بعد فتح القلعة جاء جميع شيوخ وقواد المناطق المجاورة لبجاية مبايعين لي . ومن هنا أنتصبت أنا وأخي ملكين على هذه البلاد .
رجعت إلى جيجل لمقابلة أخي أروج . وعندما لقيته قبَّلني من عينيَّ مهنئا لي بفتح بجاية التي كانت قلعة في غاية الأهمية . استولينا على 800 برميل من البارود ، و عدد لا يحصى من الغنائم . سررنا كثيرا بالبارود بصفة خاصة ، لأن الذي كان لدينا منه قد أوشك على النفاد . ولم يعد سلطان تونس يزودنا به ، بل لاحظنا إعراضه عنا يوما بعد يوم . فقررنا أن نحل مشاكلنا بأنفسنا . ولذلك فقد كان من اللازم علينا أن نؤسس لأنفسنا دولة جديدة في غربتنا هذه .
قامت قيامة الكفار في إسبانيا عندما بلغهم فتحنا لبجاية ، فغرقوا في بحر من الهموم والأحزان . أما ملك أسبانيا كارلوس فقد أصدر أوامره بوجوب تخليص بجاية ، وإنقاذ الأسرى من الأتراك في الحال . ومن ناحية أخرى فإن أهالي الجزائر رأوا أن الأتراك قادرين على قصم ظهر الإسبان . إضافة إلى أنهم مقيمون للعدل ويخشون الله .
عندما كنت مع أخي في مدينة جيجل ، وصلت وفود عديدة من المدن الجزائرية . كان أهمها وفد مدينة الجزائر التي كانت تمثل مركز البلاد . كان أهالي الجزائر يشكون من ظلم الإسبان ، ويرجون تدخلنا لإنقاذهــم . فخرج أخي أروج في 500 بحار متجها إلى مدينة الجزائر بعد أن خلَّفنني في جيجل.
............................
......(في مدينة الجزائر NDLR)، بات أخي أروج تلك الليلة ساجدا متضرعا إلى الله تعالى أن يمن عليه بالنصر . و عند طلوع الشمس جمع بحارته . كان لديه عدد كبير من المجاهدين العرب والبربر والأندلسيين . لكنهم لم يكونوا يعرفون فنون القتال مثل الأتراك ، بل إنهم يلوذون بالفرار عندما يتحرج موقفهم . كان عددهم بتراوح بين خمسة وستة آلاف مجاهد . قام العدو بإنزال حوالي 10.000 جندي إلى الساحل . كما كان لديه عدد آخر من الجنود على متن سفنه الأربعين .
أمر أخي أروج برفع راياته فوق أبراج المدينة ، وأعد فرقة عسكرية قوية لسحق العدو . وعندما أرخى الليل سدوله خرج أروج خفية من أحد أبواب قلعة الجزائر في ثلاثة آلاف مجاهد ، وقام بعملية التفاف حول الجبال وعسكر خلف الإسبان . كانت ليلة عاصفة شديدة الظلام ، عجل الله فيها بتأييده لأوليائه المجاهدين.
أما الإسبان فقد كانوا يعانون الأمرَّين من هول العاصفة وظلام الليل الحالك .ولم يتمكنوا من معرفة تحرك أروج رئيس ، الذي فاجأهم بهجوم مباغت فلم يستطيعوا أن يعرفوا من أين أُوتُوا . فتم القضاء عليهم جميعا . في هذا الوقت كان تهب عاصفة شديدة مصاحبة لهطول وابل من البَرَد في حجم بيض الإوز . فبدأ الإسبان يقتلون بعضهم بعضا من هول المفاجأة . ثم قاموا بإنزال جميع من كان في السفن من الجنود إلى البر ، فبلغ عددهم مابين عشرين وثلاثين ألف جندي . لكنهم لم يكن أحدهم يرى الآخر من شدة الظلام . واصل أروج رئيس القضاء على فرقهم العسكرية . لقد كانت ملحمة عظيمة انتهت بهزيمة العدو . وفي آخر الليل خرج من قلعة الجزائر 2000 مجاهد آخر ، شرعوا هم أيضا في إبادة القوات الإسبانية . فتم القضاء على الكفار تماما ، وأخذ الباقون أسرى . أمر الغازي أروج بإحصاء الأسرى ، فكان عددهم 2.700 أسير. أما الشهداء فكان عددهم 300 شهيد تم دفنهم في مراسيم رسمية.
انتصرت عساكر الإسلام ، وانهزمت أسبانيا التي كانت تعتبر أكبر دولة كافرة أمام أخي أروج . ومُرِّغ أنف الملك كارلوس في التراب . سوَّد الله وجوه الكافرين ، أمين بحرمة سيد المرسـلين .
كتب إلي أخي أروج رسالة يبشرني فيها بهذا النصر المبين . وعندما وصلني كتابه كان معي أخي الكبير إسحاق رئيس . كنا نستعد للخروج إلى الجزائر في عشر قطع بحرية لمساعدة أخي أروج .
ولما لم تعد ثمة حاجة لذلك خرجنا إلى الغزو ، فاستولينا 16 قطعة من سفن الكفار كانت محملة بالبارود ، والرصاص ، والألواح ، والقطران ، والزيت ، والرز ، والقمح . رجعنا إلى جيجل بعد أن مضى على خروجنا تسعة وعشرين يوما . فقمت بتوزيع سفينة من القمح على الفقراء من أموال الغنائـم.
....................................
بقي أخواي إسحاق وأروج في الجزائر ، بينما توجهت أنا إلى تنس في عشر سفن . فصادفنا أربع سفن إسبانية راسية في الميناء . وما كاد أعين الإسبان تقع علينا حتى انخلعت قلوبهم من شدة الهلع ، فتركوا سفنهم وهرعوا إلى القلعة محتمين بأسوارها المنيعة . فاستولينا على سفنهم ، ومدافعهم ، وبنادقهم بعد أن ولوا هاربين لا يلوون على شيء . أما أنا فقد نزلت في إلى البر في ألف وخمسمائة جندي ، وعسكرت قبالة القلعة . كنت أتوقع مقاومة شديدة ، إلا أني وجدت أبواب القلعة مفتوحة . استقبلنا بضع مئات من المسلمين مرحبين بنا :
- " أهلا وسهلا بكم ، لقد غادر الإسبان القلعة ليلا مع حليفهم أميرنا . ربما كانوا أحد عشر ألفا . لقد خرجوا كلهم بمن معهم من رجال الأمير . أما من بقي في المدينة ، فإنهم لا يرضون بغيركم وغير أخيكم السلطان أروج " .
ما إن سمعت هذا الخبر حتى بعثت خلف الإسبان وحليفهم أمير تنس ألفي غازي ليتعقبوا الهاربـين . فأدركوهم في اليوم التالي ، وصاحوا بهم :
- " إلى أين المفر أيها الملاحدة المارقون ؟ ألا تعلمون أنه لا خلاص لكم اليوم من أيدينا ؟ " .
بعد تبادل إطلاق النار بواسطة البنادق ، اشتبك الفريقان بالسيوف . فلم يتمكن العدو من تحمل ضربات السيوف ، وطلقات نيران البنادق التي جعلتهم يتساقطون كالعصافير . وانتهت المعركة بأسر 350 جنديا من الكفار ، أما الباقون فقد حصدتهم السيوف ؛ بينما سقط منا سبعون أو ثمانون شهيدا جعل الله الجنة مثواهم......".
مذكرات خير الدين بربروس: ترجمة من اللغة التركية: محمد دراج. شركة الأصالة للنشر والتوزيع. الجزائر 2010م.
ملاحظة: عند أسوار قلعة بجاية، أصيب عروج بجروح خطيرة اضطر الأطباء إثرها إلى بتر أحد ذراعيه....وعندما بكاه شقيقه خير الدين عند انتهاء عملية البتر، رد عليه عروج بأنه يحمد الله على أنه فقد ذراعه في سبيل الله....بعدها بسنوات ، مات عروج في وهران وهو يحارب الإسبان، فقطعوا رأسه وأخذوها معهم إلى إسبانيا وعرضوها في الشوارع والكنائس الإسبانية وفي عدة بلدان أوروبية....هكذا إذن فقد "المحتَلّ" عروج ذراعه من أجل تحرير بجاية ثم فقد حياته من أجل تحرير وهران...من الإسبان....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...