الثلاثاء، 12 يوليو 2016

هل للدولة دين ؟ عقيدة التأسيس ............. الباحث والمحلل السياسي الدكتور رفيق حبيب

تتعدد زوايا النظر لمسألة العلاقة بين الدين والدولة أو الدين والسياسة، بل وتعدد أيضا القضايا الجدلية التي لا يتوقف الجدل فيها، ومن خلال جملة ما يتردد من آراء وأفكار حول تلك المسألة، يلاحظ أن القضية الأساسية لم تحدد بدقة.هل هناك علاقة بين الدين والسياسة؟ وهل العلاقة بين الدين والسياسة تستلزم العلاقة بين الدعوي والسياسي؟ وهل يمكن فصل الدعوي عن السياسي؟ وهل الفصل بين الدعوي والسياسي يؤدي إلى العلمنة؟ فما هي العلمانية أساسا؟إذا حاولنا تفكيك القضية أو تحليلها من خلال بعض مظاهرها، فسوف تغيب القضية الأساسية، مما يعني أهمية البحث في أساس القضية أولا، ومن ثم يمكن تحديد الموقف من الأطروحات المختلفة، والأساس هو البحث في عقيدة تأسيس الدولة.هناك عقيدة تتأسس عليها الدولة وبالتالي النظام السياسي، وعقيدة التأسيس هي أولا عقيدة تنظيم المجال العام بكل ما يشتمله من حركة المجتمع والأفراد في المجال العام، فعقيدة التأسيس ينبع منها النظام العام الحاكم للنشاط في المجال العام.عقيدة تأسيس الدولة، هي بالتالي عقيدة تأسيس النظام السياسي الحاكم، والتي تحدد القواعد الملزمة لكل أجهزة النظام السياسي، وكل السلطات فيه، ومن ثم فإن عقيدة التأسيس تشكل النظام السياسي وتضع له الإطار العام، الذي لا يخرج عنه.عقيدة تأسيس الدولة، هي في الأساس عقيدة تأسيس المجتمع، أو عقيدة إعادة تأسيس المجتمع في مراحل التغير والتشكل الجديدة، والتي تستمد أساسا من موروثه الثقافي والحضاري، وتتجدد وتتحدد في كل مرحلة بكيفية تعبر عن روح العصر.هل يجب أن تكون عقيدة تأسيس الدولة نابعة من الدين، أم أنها لا ترتبط بالدين؟ هذا هو السؤال المتكرر، ولكن السؤال الأصح، هل عقيدة تأسيس الدولة، والتي هي عقيدة تأسيس المجتمع أيضا دين؟ أليس لكل دولة دين؟العقيدة المؤسسة للدولة، هي أولا العقيدة المؤسسة للمجتمع أو الأمة، وبالتالي هي المقدس الذي يستند له الاجتماع البشري، وكل اجتماع بشري منظم يستند لمقدس، لأن المقدس هو الذي يؤسس لنظام قائم على إطار عام حاكم له.المجتمع يستند أساسا إلى نظام عام، يشكل للمجتمع كيانه المتماسك، الذي يمكنه من الحفاظ على استمراره وفاعليته، كما أن المجتمع لا يتشكل بدون انتماء وولاء، والانتماء للمجتمع هو انتماء مؤسس على توافق المجتمع على ما هو مقدس.المقدس، هو المبادئ المتفق عليها والتي تمثل ثوابت النظام العام، وبالتالي ثوابت النظام السياسي والاجتماعي، والتي يتأسس عليها المجتمع وتتأسس عليها الدولة، وهذا المقدس يكتسب طبيعته من مصدره النابع منه.هناك مقدس مطلق، وهو النابع من مصدر مطلق، وهناك مقدس نسبي، وهو نابع من مصدر نسبي، وهناك بينهم حالات مختلفة، حيث قد يكون مصدر المقدس نسبي، لأنه ليس إلهي، ولكن يعتقد مجتمع ما أنه مطلق، وهكذا.في كل الحالات التي عرفتها البشرية حتى الآن، عرفنا المقدس الإلهي والمقدس الوثني والمقدس البشري، وتراوحت حركة المجتمعات وخياراتها بين هذه المقدسات، ولكن لم تتحرك خارج أي مقدس، إلا في مراحل ما قبل التاريخ، وما قبل الاجتماع البشري.إذا اعتبرنا كل مقدس هو الدين الذي يدين به المجتمع أيا كان مصدره، فكل المجتمعات لها دين، وهو الإطار المنظم لحياتها، وكل الدول تتأسس على دين، هو المبادئ والقواعد الحاكمة لها، والتي تمثل الثوابت التي تلتزم بها الدولة.في التشريح العلمي، هناك عقيدة فلسفية تؤسس مختلف الأنظمة، بل وتؤسس مختلف الثقافات والحضارات وتميز بينها، وتلك العقيدة هي عقيدة التأسيس، والتي تشمل العقائد الأساسية، التي يتفق عليها المجتمع، وتؤسس عليها الدولة.يمكن القول: أن عقيدة التأسيس هي التي تشكل الحضارة، كما أنها عماد وجود المجتمع، ومصدر الانتماء في المجتمع، وهي التي تؤسس الدولة وتقيم النظام العام، وتؤسس النظام السياسي والنظام الاجتماعي، أي أنها حجر الزاوية.ما هي العلمانية إذن؟ كنموذج تطبيقي للتصورات السابقة، يمكن النظر إلى المجتمعات الغربية، حتى نعرف كيف تشكلت مرحلتها المعاصرة، والتي قامت أساسا على الخروج من أزمة السلطة بسبب تزاوج السلطة الزمنية والسلطة الدينية.العقيدة الأساس في الحضارة الغربية المعاصرة، تستند على مقولة أن الإنسان مركز الكون، وهي عقيدة تخرج الخالق من التصور العقدي الأساسي المشكل للعقيدة المؤسسة للدولة والمجتمع، ومنها ينبع الدور المركزي للإنسان في تشكيل العقيدة المؤسسة في الغرب.مركزية دور الإنسان، وأنه مركز العالم حسب التصور الغربي تتبعها مقولة العقل الطبيعي، أي القول بأن العقل الطبيعي للإنسان، قادر على معرفة الحقيقة والتوصل للحق، مما جعل العقل البشري هو مصدر المقدس.العقيدة المؤسسة في الغرب إذن، هي عقيدة بشرية تجعل العقل البشري هو مصدر القواعد والمبادئ المقدسة، والتي تأسست عليها الدولة والنظام السياسي في الغرب، وهو ما أسس لدين بشري، يتمثل في الفلسفة المادية.من أهم قضايا المجال السياسي هي مسألة العلاقة بين الأخلاق والسياسية، أو بمعنى أدق مسألة تحديد القيم الأخلاقية الحاكمة للنظام السياسي والحاكمة للمجال العام والحاكمة أيضا للمجتمع، والتي تمنع تحوله إلى الفوضى وحياة الغابة.من أهم قضايا الفكر الإنساني، هي تلك القضية الخاصة بالعلاقة بين الأخلاق والدين، فهناك رؤية تؤكد على أن الأخلاق تنبع من الدين، وهناك رؤية أخرى ترى أن العقل قادر على الوصول إلى الأخلاق بدون الحاجة للدين.يمكن اعتبار مسألة العلاقة بين الأخلاق والدين، بوصفها مسألة جوهرية تحدد العقائد المختلفة والفروق بينها، فعندما تكون الأخلاق والقيم الأخلاقية الأساسية نابعة من الدين، تكون قيما مطلقة، لأن مصدرها مطلق.عندما تكون القيم الأخلاقية نابعة من العقل البشري، تكون بالتالي قيما نسبية، لأن مصدرها نسبي، وهو ما يعني أن الأخلاق لا تطبق بشكل نسبي حسب ظروف التطبيق والحياة فقط، بل يعني أنها نسبية في أساسها.عندما ظهرت في الغرب نظرية أن العقل هو مصدر الأخلاق، أصبحت العلاقة واضحة وربما مباشرة بين الأخلاق والمصلحة، لأن العقل البشري، أو العقل الطبيعي كما يسمي، يفكر في ضوء المصالح والمنافع.الأخلاق المصلحية واحدة من تداعيات مركزية الإنسان، واعتبار العقل الطبيعي مصدرا للعقيدة المؤسسة، وهو ما جعل القيم الأخلاقية تتحور عبر تاريخ الغرب الحديث حسب مسار المصالح، مما يعني أن نسبية الأخلاق، قد تغير مضمون تطبيقها.فما العلمانية؟تمثل العلمانية الخلاصة السياسية للعقيدة البشرية المؤسسة للحضارة الغربية المعاصرة، والتي تمثل التطبيق السياسي للفلسفة المادية، وهي بهذا تمثل اختيارا حضاريا عاما للمجتمع، كما تمثل الإطار المؤسس للدولة.في العلمانية، والترجمة الأدق لها في تصوري هي الدنيوية، يستند النظام السياسي على قدرة العقل البشري على معرفة الحقيقة، وعلى تحديد الأخلاق، وأيضا على تحديد المصالح، من خلال نظر العقل للعالم المحيط به، بحيث تكون مرجعية النظام السياسي هي العقل البشري فقط.قواعد العلمانية تحكم الدولة، وبالتالي تحكم النظام السياسي وكل السلطات، ويكون على كل السلطات الالتزام بتلك القيم والقواعد التأسيسية، والتي تتمثل في عقيدة التأسيس، التي تنبع منها عقائد مقدسة، ثم قيم وقواعد دستورية.الدستور في أي نظام، ليس هو المطلق ولا هو المقدس، بل هو نابع من المقدس الذي يمثل عقيدة المجتمع، ومن ذلك المقدس يوضع الدستور، والذي يكون نصه محددا للمبادئ والقواعد المنظمة للنظام السياسي، والتي تتوافق مع المقدس الذي ينبع منه.يظل النظام السياسي في كل تصرفاته ملتزما بالدستور، وأيضا ملتزما بالعقيدة المؤسسة التي نبع منها هذا الدستور، والتي تتمثل في القيم العليا التي يدافع عنها كل نظام سياسي، ويدافع عنها المجتمع، لأنها حاكمة للجميع.العلمانية إذن، هي محاولة للإجابة على سؤال مركزي، فهل تؤسس الدولة على مرجعية الدين أم مرجعية العقل البشري، أي هل تؤسس على دين بشري أو دين إلهي، أي أن العلمانية إجابة على سؤال ما وراء الطبيعة.هناك منظور يتأسس على أن الحق المطلق يوجد في ما وراء الطبيعة، وهناك منظور آخر يرى أن الطبيعة مكتفية بنفسها، وأن الحق موجود فيها، حتى وإن كان ليس مطلقا بنفس الدرجة، وأكثر نسبية لأنه يتم الوصول له بالعقل البشري.الحالة الغربية توضح مسارا مهما، ففي التجربة الغربية التي قامت على تزاوج السلطة الدينية والزمنية، قامت حركة النهضة الغربية على التحرر من السلطة الدينية، وإحلال العقل البشري محل الدين الإلهي.العلمانية حلت محل المسيحية، بأن أزاحت المسيحية عن أن تكون مصدرا للعقيدة المؤسسة للمجتمعات الغربية، وأزاحت المسيحية عن أن تكون مصدرا للأخلاق، وأزاحت المسيحية أيضا عن أن تكون مصدرا للحق.يمكن القول: أن العلمانية لم تكن ضد الدين، بل أكثر من هذا، أنها حلت محل الدين، وكانت النتيجة لذلك أن أصبح الدين محصورا في المجال الخاص، وتمددت العلمانية في المجال العام، وهو ما نتج عنه انحسار المسيحية تدريجيا في أوروبا والغرب عامة.هناك بالطبع أكثر من رؤية علمانية، فهناك الرؤية المتطرفة مثل النموذج الفرنسي، والتي تتمادى فيها العلمنة لدرجة تؤدي عمليا إلى حصار الدين في زاوية شديدة الضيق، وهناك العلمانية المعتدلة مثل أمريكا، والتي تتيح مجال حركة للدين.المتابع لمدى انتشار الدين في الغرب، يلاحظ عدة ملاحظات هامة، فالغرب المسيحي والذي كان يسمى بالعالم المسيحي، أي المنطقة التي توجد فيها المسيحية دون غيرها، تراجعت فيه أعداد المسيحيين في العقود الأخيرة.لم تعد أوروبا مركز التواجد المسيحي، وتزايدت نسب الملحدين بصورة واضحة في أوروبا، وبدأت في التزايد في أمريكا، بل أن كل الكنائس التي تكيفت مع العلمانية، تراجعت عضويتها بشدة، فالرؤية المسيحية العلمانية تؤدي إلى علمانية خالصة.التجربة تشير إلى أن إزاحة الدين من المجال العام، يتبعها إزاحة للدين من المجال الخاص والفردي، وهي وإن كانت إزاحة اختيارية، فإنها نتاج لعلمنة المجال العام، وهو ما يؤثر على الفرد نفسه، بصورة تؤدي إلى علمنة الفرد.العلمانية في النهاية عقيدة، وهي تؤسس الفرد العلماني، فمعنى تأسيس المجال العام على العلمانية، أي جعل العقل مصدرا للحق والأخلاق والمصلحة، يؤدي إلى تشكل الفرد العلماني، الذي يعتبر عقله مرجعه الوحيد.قد يتسأل البعض عن أسباب حضور المسيحية في الجدل حول المهاجرين واللاجئين، وبالفعل نجد المسيحية حاضرة في تعريف الهوية القومية للمجتمعات الأوروبية وأمريكا أيضا، فهي حاضرة بوصفها ملمح من ملامح القومية.حضور الدين بوصفه ملمح من الملامح المميزة لقومية ما، لا يعني حضوره في المجال العام كمرجعية، ولا حتى حضوره الفاعل في المجال الخاص، بقدر ما يعني أن المسيحية تتحول إلى أحد الملامح المميزة لعرق ما، مثل الملامح الأخرى.في أوروبا خاصة، تعريف المجتمع بأنه يمثل حضارة الرجل الأبيض، مثل أن يعرف بأنه مجتمع مسيحي، فكلها ملامح شكلية لعرق، ولكن عقيدة هذا العرق أو هذه القومية، هي مركزية الإنسان في الكون، ومرجعية العقل الطبيعي.لأن المرجعية الغربية هي الفلسفة المادية، أي أن الغرب دينه المادية، لذا فإن مؤسسة المادية في الغرب أصبحت الدولة، أي أن الدولة في الغرب، تمثل مؤسسة الدين البشري الذي ينتمي له الإنسان الغربي، أي مؤسسة العقيدة المادية.الدولة في الغرب، هي مؤسسة تستند على دين مادي، وهي أيضا المؤسسة المنوط بها حماية هذا الدين والحفاظ عليه، ومنع أي خروج عليه، وبهذا تأسست الدولة القومية القطرية في الغرب، بوصفها حامية الدين المادي، إن صح التعبير.الدولة المستوردةمن المهم أن نسأل عن هذه الدولة العلمانية التي أسسها الاحتلال في البلاد العربية والإسلامية، والتي تمثل استيرادا للدولة كما هي في النموذج الغربي، فهل تم استيرادها كما هي أو حدثت بها تحولات مهمة غيرت من العقيدة التي تستند إليها.عندما أسست الدولة القومية العلمانية القطرية في البلاد العربية والإسلامية، فرضت على المجتمعات ولم تنبع منها، وجاءت بعقيدة مخالفة للعقيدة المؤسسة للمجتمعات، وفرضت تلك العقيدة على هذه المجتمعات.لم تقم الدولة المستوردة بعد الاستيراد على مركزية الإنسان في الكون، بل على مركزية الغرب في الكون، لأنه مؤسس الدولة، فأصبحت دولة تابعة، مؤسسة على نموذج آخر، ومستوردة منه، فأصبح الغرب مركز الكون للدولة العربية المستوردة.لم يصبح العقل البشري أو العقل الطبيعي، هو المرجعية ومصدر المقدس، لأن العقل البشري في المجتمعات العربية نظر له أنه غير عقلاني ومتخلف، ولا يمكن أن يكون مرجعية الدولة المستوردة، فأصبحت الدولة المستوردة تعتبر أنها مرجعية نفسها.بفعل انفصال الدولة عن المجتمع، أصبحت طبقة الحكم الاستبدادي ونخبة الدولة، هي التي تمثل مرجعية الدولة، وهي مرجعية تابعة للمصدر الغربي، تقوم أساسا على تقليد الغرب، مما يجعل التبعية سياسية وحضارية، وهو ما شكل طبقة حكم فوق المجتمع.تأسست الأخلاق في الدولة المستوردة، لا على العقل باعتباره قادرا على التمييز بين الحسن والقبيح، ولكن على طبقة الحكم التي جعلت مصلحتها هي المصلحة العليا للدولة، وهو ما نتج عنه غياب الأخلاق من المنظومة السياسية، ثم من المجتمع.الدولة المستوردة إذن، هي دولة قومية علمانية قطرية، تستند لمرجعية مؤسسة لها في الغرب، مما يجعلها تابعة، ثم تستند لمرجعية من داخلها تتمثل في الطبقة الحائزة على السلطة، مما يغيب دور العقل والأخلاق، بعد تغييب دور المجتمع.الخلاصةفي مسار الثورة والتحرر، تكون البداية والتأسيس متمثلة في إعادة تأسيس الدولة على العقيدة المؤسسة للمجتمع وباختيار المجتمع، وأول سؤال يجب أن يجيب عليه المجتمع، هو حول دور الدين، وهل هو مصدر المقدس، أم أن العقل البشري هو مصدر المقدس؟




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...