الجزء الرابع
تفكك جماعة وجدة، وانهيار منظومة الحكم
لقد انتهيت عام 1974
الرئيس هواري بومدين لبعيد عبد السلام.
لم يعد لبومدين أدنى شك أن الحكومة الجديدة، لن ترى النور في الموعد الذي حدده لها، لاعتبارات كثيرة منها، أن وزير الخارجية موجود خارج الوطن، ووزير الصناعة والطاقة بلعيد عبد السلام، قدم استقالته للرئيس بومدين في بداية شهر مارس، ليغادر البلاد في عطلة كان من المقرر أن تدوم عدة أسابيع، إلا أن الرئيس بومدين تمكن من إقناعه بضرورة البقاء إلى جانبه في الحكومة الجديدة، و تقول بعض المصادر أن الرئيس بومدين قال لبلعيد عبد السلام: إذا ذهبت أنت فسأذهب أنا، فما كان من عبيد السلام بلعيد إلا أن سحب استقالته، بعد ان اتفق مع الرئيس بومدين على التقسيم الجديد، لوزارة الصناعة و الطاقة، و بعد أن قبل بومدين بسرور ترشيحه لاثنان من أكفأ إطارات وزارته، لتولي منصب وزير الصناعة الثقيلة، ووزير الطاقة و الصناعات البتروكيماوية، كما سيأتي اسفله (1).
أما الطيبي العربي فوضع الرئيس بومدين أمام الأمر الواقع، حين خيره (أي خير الرئيس) بين إبقاءه في منصبه، أو إحالته مباشرة على التقاعد، و أمام تسارع الأحداث، وغياب غير مبرر لبعض القيادات، انتشرت الكثير من الإشاعات، التي زادت الوضع تعقيدا، وأظهرت الرئيس بومدين لأول مرة منذ توليه الحكم عام 1965، بمظهر الغير متحكم في منظومة الحكم، وأمام خطر الحرب الذي كانت يحدق بالجزائر، حاول الرئيس جهده أن يبقى منظومة الحكم متماسكة، حتى ولو اضطره ذلك لتقديم بعض التنازلات، إرضاء لبعض الأطراف، في انتظار انعقاد مؤتمر جبهة التحرير الوطني، الذي كان يعول عليه لإجراء عملية جراحية عميقة جدا، يعيد من خلال ترتيب النظام، بحيث يظهر للعدو قبل الصديق، أن عملية التغيير جاءت نتيجة، لقرارات اتخذها مؤتمر الحزب، بطريقة ديمقراطية، وبالتالي سيكون لها شرعية لا غبار عليها، ولا يمكن الطعن في مصداقيتها، عكس لو جرت عملية التغيير من خلال جملة من قرارات الإحالة على التقاعد أو الإعفاء من المهام، التي كانت ستعتبر داخليا و خارجيا هزة أرضية أصابت النظام، و دليل على تفكك منظومة الحكم، بينما كان الرئيس أمام القاصي والداني، يصر على أن نظام الحكم متماسك و موحد، و إن وجدت اختلافات في وجهات النظر، أو حتى خلافات بين الفاعلين في السلطة، فذلك طبيعي جدا، لأنه من غير الممكن، ان يقتسم جميع البشر نفس المنهج، حتى ولو كانت الفكرة التي يسعون لتحقيقها واحدة (2).
لتجاوز بوادر ازمة بدأت ملامحها ترتسم في الأفق، وحتى لا تتفشى ا للإشاعات أكثر مما وصلت إليه، اتفق الرئيس بومدين مع الطيبي العربي على أن يحتفظ بمنصبه كوزير للفلاحة، و يضيف إليها الثورة الزراعية، أما كتابة الدولة للري، فسيرفعها لوزارة الرس و استصلاح الأراضي و حماية البيئة، تسند إليها مهمة بناء السدود وتشرف على مشروع السد الأخضر، الذي سيسحبه من وزارة الفلاحة، وبالمقابل ينشأ كتابتا دولة لدى وزارة الفلاحة الأولى مكلفة بالإنتاج النباتي، و الثانية مكلفة بالإنتاج الحيواني، على ان يتفقا لاحقا فيمن هو جدير بتولي هذان المنصبان (3).
استدعى الرئيس بومدين قائد الدرك الوطني العقيد احمد بن شريف، والمدير العام للأمن الوطني أحمد دراية بتاريخ 8 مارس 1977، ليبلغهما أنه قرر الاستعانة بهما لتقوية الحكومة الجديدة، فهما من أخلص الرجال إليه، ووجودهما إلى جانبه كوزراء، سيقويه ويعطي للحكومة نفسا جديدا، خصوصا أن مهمة مجلس الثورة على وشك الانتهاء، وأنه من المقرر حل هذا المجلس، عند افتتاح مؤتمر الحزب، الذي سيكون في نهاية عام 1978 أو 1979، وبالتالي يجب عليه ان يضعهم في مناصب سيادية تليق بهما كأعضاء سابقين في مجلس الثورة، التي سير الجزائر لمدة 12 سنة (4).
بالنسبة للعقيد أحمد بن شريف، اقترح الرئيس بومدين عليه وزارة جديدة هي وزارة الري واستصلاح الأراضي وحماية البيئة، التي يحتاج على رأسها شخصية قوية جدا، يمكنها أن تحل جملة من المشاكل المستعصية، منها قلة المياه، ومعالجة ذلك بإطلاق عملية ضخمة لبناء سدود جديدة، وتسريع مشروع خرس السد الأخضر، الذي سيسحبه من وزارة الفلاحة، ويعطيها لوزارة الري، مع إبقاء دعم مديرية الخدمة الوطنية لهذا المشروع (5).
أما أحمد دراية، فاقترح عليه الرئيس بومدين أن يتولى وزارة النقل، فهي وزارة مهمة جدا، كان على رأسها رابح بيطاط، وهذا في حد ذاته شرفا كبيرا للوزير الجديد، وحتى يطمئن الرجلان، بأن هدفه الاستعانة بهما، وليس التخلص منهما، كما كان يشاع حينها، اقترح عليهما الرئيس أن يعين على رأس قيادة الدرك المقدم مصطفى شلوفي نائب بن شريف، وعلى رأس المديرية العامة للأمن الوطني، الهادي لخضيري نائب دراية، على أن يكون التعيين بالنيابة فقط، بحيث إذا شعر بن شريف أو دراية أن الوزارة لا تليق بأحدهما أو كلاهما، فيمكنه أن يعودا لمنصبهما متى طلبا ذلك (6).
قبل بن شريف ودراية عرض الرئيس، خصوصا انه ترك لهما الباب مفتوحا لترك الوزارة، والعودة لمنصبهما إن أرادا ذلك، ليطوي الرئيس بومدين ملف وزارة الري ووزارة النقل، لتبدأ ملامح الحكومة الجديدة ترتسم، فحتى ذلك التاريخ صارت الحكومة الجديدة تضم:
1- العقيد محمد بن أحمد عبد الغني الذي أبقاه الرئيس في منصبه كوزير للداخلية.
2- الدكتور محمد أمير الذي ترك منصبه ككاتب عام لرئاسة مجلس الوزراء ويصبح وزيرا للعمل والتكوين المهني.
3- العقيد بن شريف وزيرا للري واستصلاح الأراضي وحماية البيئة.
4- أحمد دراية وزيرا للنقل.
5- عبد المجيد علاهم أمينا عاما لرئاسة الجمهورية.
في مساء نفس اليوم، استقبل الرئيس بومدين كل من سيد أحمد غزالي، ومحمد الياسين، ليبلغهما أن وزيرهما بلعيد عبد السلام قد زاره في حدود 02 مارس 1977، الذي قدم له استقالته من الحكومة، وطلب الإذن للخروج في عطلة ستدوم عدة أسابيع خارج الوطن، إلا أن الرئيس بومدين رفض الاستقالة، وأصر على أن يبقى بلعيد ضمن الحكومة الجديدة، واقترح عليه تقسيم وزارته لوزارتان هما (7):
1- وزارة الصناعة.
2- وزارة الطاقة.
إلا أن بلعيد عبد السلام، وأما إصرار الرئيس بومدين على بقاءه في الحكومة، اقترح أن تقسم الوزارة لثلاث وزارات هي:
1- وزارة الصناعة الخفيفة.
2- وزارة الصناعة الثقيلة.
3- وزارة الطاقة والصناعات البتروكيماوية.
وأن يتولى الوزارات الثلاثة رجالا عملوا في الميدان، ويستطيعون تسيير هذه الوزارات بكفاءة عالية، بحيث يتم الحفاظ على نفس المنهاج الذي سارت عليه الجزائر، في بناء اقتصادها، واستعادة سيادتها على ثرواتها الباطنية، فاقترح (8):
1- يتولى هو وزارة الصناعات الخفيفة. (قال بلعيد عبد السلام أنه باختياره لهذه الوزارة، يرد على من يتهموه بأنه يرفض تولي منصب وزاري صغير، بينما كان على رأس إمبراطورية).
2- محمد الياسين وزيرا للصناعة الثقيلة.
3- سيد احمد غزالي وزيرا للطاقة والصناعات البتروكيماوية.
قبل الرجلان العرض وتوسعت التشكيلة الجديدة بثلاث وزراء من الكفاءات المشهود لهم بالقدرة العالية على التسيير، والدفاع عن مصالح الوطن (9).
في اليوم الموالي استقبل الرئيس بومدين الوزراء الذي قرر أن يبقيهم ضمن تشكيلته الحكومية الجديدة، فردا فردت، فكان أول من استقبله الرئيس، وزير العدل بوعلام بن حمودة، الذي أسند إليه وزارة الأشغال العمومية، ثم جاء دور محمد السعيد معزوزي وزير العمل و الشؤون الاجتماعية، الذي بادر الرئيس بومدين بطلب اعفاءه من العمل الحكومي الذي أرهقه، إلا أن الرئيس رفض بشدة وأبلغ معزوزي أنه سيتولى حقيبة المجاهدين، التي تعيش حالة من الفوضى لا مثيل لها، و أنه يعتمد عليه، في إعادة تنظيم هذه الوزارة تماما كما فعل في وزارة العمل و الشؤون الاجتماعية، وأمام إصرار محمد السعيد معزوزي على ترك العمل الحكومي، أنهى الرئيس بومدين الحديث معه، قائلا: ستتولى وزارة المجاهدين لفترة وجيزة فقط، لأنني انوي تكليفك بمهمة على مستوى جهاز الحزب، الذي سنعيد إحياءه و تنظيمه، مباشرة بعد الإعلان عن الحكومة الجديدة.
ثم استقبل كمال عبد الله خوجة، الذي احتفظ بمنصبه ككاتب دولة للتخطيط، ثم السعيد آيت مسعودان الذي اختاره لتولي وزارة الصحة العمومية، وفي أخر اليوم استقبل الدكتور مولود بلقاسم نايت بلقاسم، ليبلغه أن التعليم الأصلي سيسحب منه، و يلحق بوزارة التربية الوطنية، لكن تقديرا للخدمات الجليلة التي قدمها للجزائر خلال مشواره الطويل، أبلغه أنه سيحظى بمنصب وزير لدى رئاسة الجمهورية، مكلف بالشؤون الدينية، فسكت الدكتور مولود بلقاسم و لم يقل شيئا، لأنه لاحظ أن الرئيس كان متعبا جدا، فلم يشأ أن يرهقه أكثر من ذلك، بقيل وقال لا فائدة مرجوة منها (10) (11).
لم يبقى أمام الرئيس بومدين، إلا أن يجمع أمره، في ثلاث مسائل، لينتهي من تشكيل حكومته الجديدة، فامر الدكتور محمد أمير، وعبد المجيد علاهم، بصياغة مشروع مرسوم إعادة هيكلة الحكومة الذي سيتضمن القائمة الاسمية للوزراء، ومشروع مرسوم يتضمن إحداث أمانة عامة لرئاسة الجمهورية، وأمانة عامة للحكومة (12)، كما أمر باستدعاء سفري الجزائر في المكسيك السيد مصطفى لشرف، للتشاور معه في مسألة تكليفه بوزارة التربية الوطنية.
يتبع
الهوامش:
(01) - المصدر هو بلعيد عبد السلام موثق عندي.
(02) – نفس المصدر السابق بلعيد عبد السلام (موثق عندي).
(03) – الغريب في المسألة أن المرسوم رقم 77-73 المؤرخ في 23 أبريل 1977 المتضمن إعادة تنظيم هياكل الحكومة، جاء في مادة الثالثة ما يلي : (تنشأ كتابتان للدولة احداهما مكلفة بالإنتاج النباتي، و أخرى بالإنتاج الحيواني) لكن لم يعين أي شخص على رأس الكتابتان، وبقيتا شاغرتان حتى وفاة الرئيس بومدين بعد ذلك بسنة وسبعو شهور.
(04) - مصدر خاص وموثق.
(05) - نفس المصدر السابق (خاص وموثق).
(06) - راجع الجريدة الرسمية رقم 37 لعام 1977 المؤرخة في 08 مايو 1977، صفحة 668 و670.
(07) - المصدر هو بلعيد عبد السلام موثق عندي
(08) - المصدر هو بلعيد عبد السلام موثق عندي
(09) - المصدر هو بلعيد عبد السلام موثق عندي
(10) - مصدر خاص وموثق.
(11) - استقبل الرئيس بومدين وزراءه الذي قرر ابقائهم من تشكيلته الجديدة بحضور الدكتور محمد أمير الذي كان إلى ذلك الحين يزال يمارس صلاحياته ككاتب عام لرئاسة مجلس الوزراء، وعبد المجيد علاهم مدير التشريفات برئاسة مجلس الوزراء، الذي كان بدوره لا يزال في منصبه، ولم يتولى الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية.
(12) - راجع الجريدة الرسمية رقم 37 المؤرخة في 08 مايو 1977.
المراجع:
1- كتاب الفرص الضائعة للدكتور محيي الدين عميمور.
2- كتاب أنا وهو وهم للدكتور محيي الدين عميمور.
3- مذكرات محمد السعيد معزوزي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق