الخميس، 17 أكتوبر 2024

هل انتشر الاسلام بالسيف ؟؟... منير مخلوفي

هل انتشر الإسلام بالسيف؟!

شاع هذا السؤال في عصرنا واستَتْبَعتْه في الغالب أجوبةٌ هزيلةٌ ذليلةٌ انهزاميةٌ ترقيعيةٌ شُحِنَت بها كثير من الكتب الفكرية المعاصرة، إذْ كان غاية هذه الأجوبة تلميعَ صورة المسلمين أمام الغرب ""المتحضِّر""، وتكلّم أصحابها بلسان المتَّهم الضعيف المحبوس في القفص المنتظِرِ لإدانته !!.
مع أن الغرب نفسه يفاخر بأنه غزا قارات العالَم كلّه لينقلَ الأمم والشعوب من ظلمات التخلُّف والجهل إلى أنوار الحضارة والمدنية، حتى أنهم يُسَمُّون غزوهم هذا "استعمارا = Colonialism" من الكلمة اللاتينية colōnia التي تعني عمارة الأرض واستزراعها، ويُصرُّون في عناد وعجرفةٍ على رفض الاعتذار عن جرائمهم وحروب الإبادة التي اقترفوها ضد هذه الشعوب.

ومن يستقرئ كتب التراث الإسلامي من فقهٍ وحديثٍ وعقائد وتاريخ..الخ = لا يجد أن علماء المسلمين كانوا يستعِرُّون من القول بأن الإسلام انتشر في الأرض بسيف الجهاد عدا استثناءات قليلة كما حصل في مليبار والجزر الإندونيسية وبعض بلاد إفريقيا، ولم يكونوا يجيبون بتلك الأجوبة المتهالكة كالنفي المطلق الذي هو مجرد سفسطةٍ وإنكارٍ للضرورات الشرعية والتاريخية، أو الاسترواح إلى تفريقاتٍ اصطلاحية تحكُّمية بين الفتح والغزو مع أنهم عاجزون عن إقامة فرقٍ معقولٍ يقرُّ لهم به مخالفوهم.

بل كان علماء الإسلام يجيبون النصارى بأجوبة إلزامية مفحمة، ويلزمونهم بما عندهم في كتبهم المقدسة، ومن هذه الأجوبة ما قاله أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتابه "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح" 2/402:
(بل النصارى قد تعيبُ من يقاتل الكفار بالسيف، ومنهم من يجعل هذا من معايب محمد صلى الله عليه وسلم وأمّته، ويغفلون عما عندهم من أن الله أمر موسى بقتال الكفار، فقاتلهم بنو إسرائيل بأمره، وقاتلهم يوشع وداود وغيرهما من الأنبياء، وإبراهيم الخليل قاتل لدفع الظلم عن أصحابه) انتهى كلامه.

فلم يكن المسلمون يعتبرون هذا مما يعيبُ دينهم، أو يستعرّون به، حتى أن الأرجوزات التعليمية التي كان يحفظها الأطفال كمتن "جوهرة التوحيد" للعلامة اللقَاني يقول ناظمها في مستهلِّها:
فأرشدَ الخلقَ لدين الحقّ
               بسيفِه وهدْيِه للحق

وإنما دخل الغلط على هؤلاء من جهة الإجمال الذي في كلمة السيف، فتوهموا أنها مرادفة للإكراه والجبر الذي هو إلزام الناس باعتناق الإسلام كرها من غير تخييرٍ، ولا شكّ أن هذا غير صحيح، إذْ قد عُلِمَ من الدين بالضرورة أن الإسلام لا يُكرِه أحدا على الدخول فيه، كما قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرشد من الغيّ)، ومن أسلمَ مكرها فله الرجوع إلى دينه بحكمٍ شرعي قضائي، ولا نزاع في هذا، اللهم إلا ما اختلف فيه الفقهاء في مشركي العرب خاصة، هل يُقَرُّون على شركهم بأداء الجزية، أم يُخيَّرون بين الإسلام والسيف.
والقول بأن الجزية شرعت في مقابل الزكاة أو الخدمة العسكرية كلامٌ لا أصل له، وإنما هو من قراءات بعض المستشرقين أمثال توماس أرنولد صاحب كتاب "الدعوة إلى الإسلام" ثم تلقفه منهم بعض المفكرين الإسلاميين ظنا منهم أنهم يدافعون عن الإسلام ويلمّعون صورته !!
بل الصواب الذي اتفق عليه العلماء أن الجزية شرعت لإظهار عزة الإسلام، واستدراجا لأهل الذمة حتى يسلموا بمخالطتهم للمسلمين ومعرفتهم بمحاسن دينهم وشريعتهم.
وإنما شُرِع السيف في الإسلام لأنه الرسالة الخاتمة، وليس مجرد عقيدة أو فكرة فلسفية يُترَك الناس فيها على اختياراتهم وقناعاتهم، بل هو دينٌ ودولةٌ وشريعةٌ ونظامٌ عامٌ، ورؤية شاملة للحياة والوجود، ودينٌ هذه صفتُه وهذه حقيقتُه = لابد يحتاج لقوةٍ حامية وسلطانٍ رادعٍ، وسيفٍ باتر.
هذا وبالله تعالى التوفيق

كتبه: منير خلوفي.

الأربعاء، 16 أكتوبر 2024

احداث اكتوبر 1988 ... الجزء الاخير ..براء عبد الله

أحداث أكتوبر 1988
الجزء السادس والأخير 
"الجيش والشعب معاك يا الشاذلي"

في صبيحة العاشر من أكتوبر 1988، عرض العميد العربي بلخير، على الرئيس الشاذلي، مسودة الخطاب الذي سيلقيه على الأمة، فتصفحه ووضعه جانبا، ثم استدعى الأمين العام لرئاسة الجمهورية مولود حمروش، الذي حين اطلع على نص مسودة الخطاب، لم يصدق ما قرأ.. 
لقد كان خطابا عنيفا، مليئا بالتهديد والوعيد، فكان رأيه أن مثل هذا الكلام سيزيد الوضع اشتعالا، بينما نحن نسعى الآن لتهدئة الأمور، وإعادة الأمور إلى نصابها، لذلك يجب وضع هذا الخطاب جانبا، وارتجال شيء آخر يدعو إلى الهدوء وضبط النفس، وإعلان أن البلاد ستدخل مرحلة إصلاحات عميقة، تمس لب النظام الأساسي للحكم، دون إعطاء أي توضيحات أخرى، باستثناء، الإعلان عن تعديل دستوري جزئي، تكون فيه السلطة التنفيذية بيد رئيس حكومة، يكون بدوره مسئولا مباشرة أمام البرلمان، الذي يستطيع عزله، في حالة فشله في تطبيق برنامجه، الذي سيناقشه ويصادق عليه نفس البرلمان (1).     
دخل الرئيس الشاذلي إلى مكتبه، وجلس على كرسيه وهو يحمل بين يده، مسودة الخطاب الذي قُدم له قبل ذلك، ولما بدأ البث المباشر، وضع الرئيس الشاذلي ذلك الخطاب جانبا، وبدأ يرتجل في خطاب عاطفي، مس به مشاعر الجزائريين، وبدلا من أن يهدد ويعد ويتوعد، قدم عرضا شبه شامل عن الأزمة التي تعيشها البلاد، ثم أعلن أنه سيسلط عقوبات قوية، في حق كل من قصر في أداء واجبه، دون أن يحدد من المقصودين بذلك الاجراء، كما أعلن عن الانطلاق في تطبيق سياسة إصلاحية، اقتصادية وسياسية بالدرجة الأولى (2).
كانت شوارع المدن الجزائرية شبه خالية، أثناء إلقاء الرئيس الشاذلي لخطابه الموجه للأمة، واستحسن الناس ما جاء فيه، وبدا وكأنه صادق فيما يقول، فبدأ الوضع يهدأ في الشارع، بينما انتقلت الفوضى لداخل دواليب السلطة، فالمجموعة التي راهنت على الحل الراديكالي للأزمة، فاتتها الفرصة، وتجاوزتها الأحداث، بمجرد أن وضع الرئيس الشاذلي، الخطاب الذي أعدوه جانبا، وبدأ يرتجل في نص الخطاب الذي ناقشه سرا مع مولود حمروش. 
أما رجال الحزب وإطاراته فشعروا أن زمن الحزب الواحد، قد بدأ يستنفد آخر ساعاته، فأخذوا يعدون العدة لإعادة رص صفوفهم، خلال الدورة الاستثنائية للجنة المركزية للحزب، التي اقترحها محمد الشريف مساعدية، ووافق عليها الرئيس الشاذلي، والتي لن تجتمع أبدا. 
أما بالنسبة لقيادة تسيير حالة الحصار، فصارت تتلقى أوامرها من الرئيس الشاذلي، الذي ارتكز على عناصر معروفة بالتزامها للخط الجمهوري والوطني، وحتى يقطع الطريق أمامها سريعا، دون تمكينها من القيام بأي خطوة، قد تعيد الوضع لنقطة الصفر، رفع حالة الحصار في 12 أكتوبر 1988، أي يومين فقط بعد خطابه الموجه للأمة (3).
عند انتهاءه من خطابه الموجه للأمة، كان الرئيس الشاذلي، لا يزال على حافة الطريق، ويستطيع أن يسقط بسهولة كبيرة جدا، حتى أن إشاعات راجت حينها، مفادها أن الرئيس سيقدم استقالته خلال ذلك الخطاب، لكن الرئيس الشاذلي لم يفعل، وبقي في منصبه، لكنه كان في أمسّ الحاجة، لدعم شعبي قوي وقوي جدا، يخرجه من العزلة التي هو فيها، ويفتح له الطريق، للانطلاق في تطبيق برنامج الإصلاحات التي وعد بها، مع احتفاظه بمنصبه.
في حدود الساعة العاشرة والنصف ليلا، حدث شيء قلب موازين القوة، وأخرج الرئيس الشاذلي من قاع البئر الذي كان فيه، ففي مدينة وهران، خرجت بضع عشرات من الشباب، يحملون صور الرئيس الشاذلي، ويصيحون بأعلى أصواتهم: "الجيش والشعب معاك يا شاذلي"، ولحق بهم رتل آخر من المواطنين، أخذوا ينظفون الشوارع، ويزيحون منها حطام المواجهات، التي دارت بين المواطنين، وقوات الأمن والجيش، ثم انتقل فريق من محطة وهران التابعة للمؤسسة الوطنية للتلفزيون، وصوروا كل شيء، وبُثَّ كل شيء على المباشر، وأخذ المعلق يبكي وهو يصف ذلك بعفوية المواطنين، وبقدرة قادر انتقلت العملية للجزائر العاصمة، حيث خرج سكان العاصمة بدورهم، وأخذوا ينظفون الشوارع، ويزيلون المتاريس، وحطام الزجاج والحجارة، التي كانت منشرة في كل مكان، بينما تولت مجموعات صغيرة من الشباب، مهمة ترديد نفس الجملة: "الجيش والشعب معاك يا شاذلي" (4).
في صبيحة يوم 11 أكتوبر، انتشرت هذه المظاهر في كل ولايات الوطن، وبدلا من شعار: Chadli assassin، صار الشعار الجديد هو: "الجيش والشعب معاك يا الشاذلي"، ليتمكن الرئيس الشاذلي في 12 أكتوبر 1988، من رفع حالة الحصار، وإعادة إرسال القوات التي تمركزت في العاصمة، إلى ثكناتها بنفس السرعة التي جاءت بها. 
بحلول 12 أكتوبر 1988، استقر الوضع تماما للرئيس الشاذلي، وتجاوز الأزمة الأمنية، واستعاد ثقته بنفسه، نتيجة لحمى المظاهرات التي أصابت أغلبية ولايات الوطن، التي تحركت كلها أو جلها، منظمة لمسيرات حاشدة، مرفوعة فيها صور الرئيس والشعار الجديد يدوي في كل مكان: "الجيش والشعب معاك يا الشاذلي".
رغم تجاوز الأزمة إلى حد بعيد، واستقرار الوضع، إلا أن المناخ الذي خلفته أحداث أكتوبر، ألقى بظلاله على جميع مستويات السلطة في البلاد، على مستوى رئاسة الجمهورية، حافظ الثنائي حمروش - بلخير على مكانتهما ضمن أقرب المقربين للرئيس، إلا أن حمروش تجاوز بلخير بشيء واحد فقط، هو أن الرئيس الشاذلي، كلفه رسميا بتولي مهمة إعداد المرحلة الأولى والثانية من الإصلاحات التي أعلن عنها، ليمسك كل شيء في يده باستثناء القضايا العسكرية والأمنية التي بقيت ضمن اختصاص العميد العربي بلخير (5).
أما على مستوى الحزب، فقد شعر الجميع أن جبهة التحرير الوطني، بدأت تقترب من نهايتها، وقبل أن يتمكن محمد الشريف مساعدية من إعادة رص صفوف قيادة الحزب، أرسله الرئيس الشاذلي في مهمة رسمية لدى الملك الحسن الثاني، ليسمع خبر إقالته عن طريق راديو MIDI 1، وليحل محلة سفير الجزائر في المغرب، الأستاذ عبد الحميد مهري، الذي وصل الجزائر لتولي مهمته الجديدة، في نفس الوقت الذي نزل فيه محمد الشريف مساعدية في مطار الرباط سلا الدولي، لتسليم رسالة من الرئيس الشاذلي للعاهل المغربي الحسن الثاني.
أما الحكومة التي كان على رأسها عبد الحميد الإبراهيمي، فقد استدعاها الرئيس الشاذلي لآخر اجتماع لها بتاريخ 22 أكتوبر 1988، ليفتتح الجلسة كعادته بإلقاء كلمة طويلة جدا، استعرض فيها ملخصا لكل ما حدث، وتكلم بحيوية حول إعادة ترتيب السلطة التنفيذية في البلاد ومما جاء في كلمته أمام أعضاء الحكومة:
"إن المجتمع الجزائري قد تطور وتغير بشكل عميق، ولم يعد بالإمكان أن نفرض عليه نفس النظام السياسي الذي هو سائد منذ الاستقلال، فجبهة التحرير الوطني ستتحول من الآن فصاعدا لتراث مشترك لكل الجزائريين، ولن تكون حزبا سياسيا (يعني أنها ستتحول مرة أخرى لجبهة تجمع جميع التوجهات السياسية بكل أطيافها)، ونتيجة لذلك لن تكون المنظمات الجماهيرية مستقبلا تابعة لها، بما في ذلك الودادية الجزائرية في فرنسا التي سنحولها سريعا لمجموعة من الجمعيات الثقافية التي تنشط وتعمل تحت إشراف سفارتنا في فرنسا................
فيما يتعلق بالانتخابات النيابية والمحلية، فستفتح لكل المترشحين سواء كانوا أعضاء في جبهة التحرير الوطني أو لم يكونوا أعضاء فيها، باستثناء الانتخابات الرئاسية التي ستبقى خاضعة لمبدأ المرشح الوحيد الذي تزكيه جبهة التحرير الوطني...........
................. بالنسبة لموضوع اعتماد التعددية الحزبية كنظام سياسي بديل لنظام الحزب الواحد، فسيكون ذلك ضمن جدول أعمال مؤتمر جبهة التحرير الوطني، الذي عليه أن يختار بين الموافقة على إصلاحات تؤدي نحو انفتاح سياسي تعددي، أو أن نحتكم لرأي الشعب من خلال استفتاء شعبي، حول بقاء الحزب الواحد أو الانتقال نحو التعددية................
............. أما بالنسبة للإصلاحات التي أنوي القيام بها حالا فتتعلق بإعادة ضبط السلطة التنفيذية، بحيث سنعرض مشروع تعديل جزئي للدستور، يكون فيه رئيس الحكومة هو المسئول عن توجيه السلطة التنفيذية، ولن يبقى لرئيس الجمهورية سوى الدفاع والخارجية، أما باقي المسئوليات فستتولاها الحكومة، التي ستكون بدورها، مسئولة أمام المجلس الشعبي الوطني.................
بمجرد انتهائه من كلمته التي وجهها لأعضاء الحكومة، شكر الجميع على ما قدموه من مساهمة خلال الفترة التي قضوها على رأس وزاراتهم، ورفع الجلسة وغادر قاعة اجتماعات مجلس الوزراء، دون أن يسمح لأي وزير بالتدخل ولو بكلمة، ولم يفتح أي نقاش مع أعضاء الحكومة، مما أوحى للجميع أن مهمة الحكومة قد انتهت (6).
على مستوى قيادة الجيش الوطني الشعبي، كان لأحداث أكتوبر 1988، وقع سيئ للغاية، فالقيادة العسكرية لم تتقبل سقوط ضحايا مدنيين، لأن الجيش الوطني الشعبي، منذ 1962، انحصرت مهمته في الدفاع عن البلاد والعباد، ولم يحدث أن واجه الجيش محنة كهذه، فكان أول من تحرك هو اللواء عبد الله بلهوشات، نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، الذي طلب رسميا من الرئيس الشاذلي، اعفاءه من منصبه، ليعينه الرئيس الشاذلي مستشارا للشؤون العسكرية لدى رئيس الجمهورية (7).
باستقالة اللواء عبد الله بلهوشات من منصبه، صار أمام الرئيس الشاذلي خياران، فالعميد كمال عبد الرحيم كان نائبا لرئيس أركان الجيش، وقائد القوات البحرية، والعميد خالد نزار كان أيضا نائبا لرئيس أركان الجيش، وقائدا للقوات البرية، وكان عليه أن يختار أحدهما لخلافة رئيس أركان الجيش المستقيل، إلا أن العميد كمال عبد الرحيم، صدرت عنه بعض الأفعال أثناء أحداث أكتوبر، جعلت الرئيس الشاذلي يتردد في تعيينه خلفا لبلهوشات، والسبب أن العميد عبد الرحيم كان من بين قادة الأركان القلائل الذين تحفظوا كثيرا على قرار إعلان حالة الحصار، كما قام باتصالات كثيرة مع بعض قادة النواحي، ارتاب لها الرئيس الشاذلي ومحيطه، فكان القرار الحاسم هو تعيين العميد خالد نزار رئيسا لأركان الجيش خلفا للواء بلهوشات، مع إبقاء العميد كمال عبد الرحيم نائبا له، إلا أن هذا الأخير رفض ذلك، وتوجه لرئاسة الجمهورية قصد مقابلة الرئيس الشاذلي، ليدور بين الرجلين حديث ساخن جدا، أعرب فيه العميد كمال عبد الرحيم عن رفضه التام، للعمل تحت قيادة ضابط، التحق بصفوف جيش التحرير بعده، فهو أحق برئاسة الأركان من العميد خالد نزار، كما أن لديه من الكفاءات المهنية، والخبرة العسكرية ما يقدمه على خالد نزار، لينتهي الخلاف باستقالة العميد كمال عبد الرحيم من منصبه، وإحالته على التقاعد، وعين مكانه العقيد عبد المجيد ثاغيت قائدا للقوات البحرية، والعميد ليامين زروال قائدا للقوات البرية، والعميد عبد المالك قنايزية قائدا للقوات الجوية، والعقيد محمد بوطمين قائدا للدفاع الجوي عن الإقليم (8). 
من جهة ثانية، أنهيت مهام العميد محجوب لكحل عياط، مندوب الوقاية والأمن، بعد أن حُـمٍّـل مسئولية كل ما حدث، من تجاوزات، ليحل محله العقيد محمد بتشين، بينما عين العقيد مدين محمد (المدعو توفيق) مديرا مركزيا لأمن الجيش (9).
شمل التغيير أيضا المفتش العام للجيش الوطني الشعبي، العميد الهاشمي هجرس الذي أحيل على التقاعد، وعين في وظيفة سياسية لدى جبهة التحرير الوطني، التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وعين مكانه اللواء محمد عطايلية، الذي ترك قيادة الناحية العسكرية الأولى للعقيد أحمد جنوجات، وعين العقيد عبد الحميد جوادي قائدا للناحية العسكرية السادسة، والعميد الحسين بن معلم، رئيسا لقسم الأمن والشؤون العسكرية في رئاسة الجمهورية، ليترك مكانه للعقيد خليفة رحيم، بينما عين العقيد محمد العماري قائدا للناحية العسكرية الخامسة (10).
بتاريخ 12 أكتوبر 1988، عقد قائد الدرك الوطني العميد بن عباس غزيل، رفقة العقيد يحيى رحال مدير المحافظة السياسية للجيش الوطني الشعبي، ندوة صحفية بمقر قيادة القوات البرية بعين النعجة، بحضور الصحافة الوطنية والدولية، قدموا خلالها، الحصيلة النهائية لأحداث أكتوبر، حيث سجلت المصالح الصحية العمومية، 165 قتيل (11)، و154 جريح، بينما أحصت مصالح الأمن المشتركة من درك وشرطة، حوالي 3568 موقوف، أغلبيتهم قُـصَّـر دون 18 سنة، تم تسريحهم بعد استدعاء أوليائهم، وأُخذت منهم تعهدات بمنعهم من تكرار ما فعلوه، بينما أحيل جميع الموقوفين البالغين 18 سنة فما فوق، على المحاكم بتهمة التجمهر والشغب وتحطيم ممتلكات عمومية وخاصة (12).
في 03 نوفمبر 1988، وافق أغلبية الشعب الجزائري، خلال استفتاء شعبي، على مشروع التعديل الجزئي للدستور، الذي أعاد تنظيم السلطة التنفيذية في البلاد، ليفتح المجال أمام الجزء الثاني من الإصلاحات التي وعد بها الرئيس الشاذلي، خلال خطابه الموجه للأمة بتاريخ 10 أكتوبر 1988، يومان بعد ذلك التاريخ (في 05 نوفمبر 1988)، عقد الرئيس الشاذلي، آخر اجتماع لمجلس وزراء حكومة عبد الحميد الإبراهيمي، وشكر الجميع على ما قدموه من خدمات للبلاد، ليعلن لهم في ختام حديثه، أن مهمة الحكومة قد انتهت، وأنه وفقا للترتيبات الجديدة، المحددة في التعديل الدستوري الجديد، سيعين بعد مدة وجيزة رئيسا للحكومة، يتولى بنفسه مهمة اختيار طاقمه الحكومي، ودعاهم للبقاء في مناصبهم، إلى غاية تشكيل الحكومة الجديدة.
أراد الرئيس الشاذلي في بداية الأمر، تعيين العميد رشيد بن يلس رئيسا للحكومة، إلا أن مواقف هذا الأخير خلال أحداث أكتوبر 88، وإقدامه على تقديم استقالته من منصبه كوزير للنقل بتاريخ 11 أكتوبر 1988، ثم مطالبته للرئيس الشاذلي بعدم الترشح لعهدة رئاسية ثالثة، مكنت بعض الجهات من التشنيع في شخصه، ليستقر الأمر في الأخير، على تعيين قاصدي مرباح رئيسا للحكومة، بدلا من رشيد بن يلس (13).
إلى هنا، طويت أحداث الخامس من أكتوبر 1988، بما فيها من آلام ومآسي واضطرابات، وبدأ العد التنازلي لسقوط نظام الحزب الواحد، لتشهد الجزائر بين 09 نوفمبر 1988 إلى 23 فبراير 1989، أحداثا وأحداثا غيرت وجه الجزائر إلى الأبد.

الهوامش:
1- مصدر خاص.
2- مصادر خاصة متعددة.
3- لم ينشر مرسوم اعلان حالة الحصار في الجريدة الرسمية، كما لم ينشر مرسوم رفع حالة الحصار.
4- مصدر خاص.
5- راجع تصريحات مولود حمروش وغازي حيدوسي في الموضوع.
6- راجع محضر اجتماع مجلس الوزراء المؤرخ في 22 أكتوبر 1988.
7- راجع الجريدة الرسمية رقم 47 الصادرة بتاريخ 16 نوفمبر 1988.
8- مصدر رسمي خاص، راجع أيضا الجريدة الرسمية رقم 47 المؤرخة في 16 نوفمبر 1988.
9- راجع الجريدة الرسمية رقم 46 المؤرخة في 09 نوفمبر 1988.
10-  راجع الجريدة الرسمية رقم 50 المؤرخة في 07 ديسمبر 1988.
11- ارتفع عدد القتلى ليصل لرقم 195 قتيل، نتيجة لوفاة عدد من الجرحى متأثرين بجراحهم.
12-  أصدر الرئيس الشاذلي لاحقا عفوا عن جميع الموقوفين أثناء أحداث أكتوبر 1988. 
13- مصدر خاص.

احداث اكتوبر 1988 .. الجزء الخامس .. براء عبد الله

أحداث أكتوبر 1988
الجزء الخامس 
أكتوبر 88 بداية محنة الجزائر

سيادة الرئيس لا تترشح لعهدة ثالثة.
العميد رشيد بن يلس للرئيس الشاذلي 09 أكتوبر 1988.
         
بعد ظهر يوم الأحد 09 أكتوبر 1988، اجتمع المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني، برئاسة الجمهورية، و حين دخل أعضاء المكتب على الرئيس الشاذلي في مكتبه، وجوده في حالة نفسية سيئة جدا، فقد كان قبل هذا التاريخ يعطي لهندامه و طريقة جلوسه، اهتماما خاصا، بحيث يبدوا دائما و أبدا، ذلك المسئول الواثق من نفسه،و من ثقة الشعب فيه، لكنه تلك المرة، كان منكسرا الحال، منحني الكتفين، متعب و كأنه لم ينم منذ أيام.
افتتح الرئيس الشاذلي الجلسة، و قدم عرضا سريعا عن الوضعية العامة، و بصوت منخفض بالكاد أستطاع أعضاء المكتب السياسي أن يسمعوه، لطلب من  الحضور، إبداء رأيهم بكل حرية و ثقة، حول أسباب الأزمة التي تعيشها البلاد، و تقديم اقتراحات لتهدئة الوضع، فكان العميد رشيد بن يلس؛ أول من تدخل ليقول : 
سيادة الرئيس؛
 بما أنك طلبت منا الكلام بكل حرية، و نظرا للوضع الذي ألت إليه البلاد، لن أنافقك و لن أقول غير ما يمليه علي ضميري كوطني جزائري، و مجاهد، و عسكري أسبق، و وزير حالي، لذلك أقول أننا سنرتكب خطأ فادحا في التقييم، إذا أخذنا بالفرضية التي تقول، أن ما نعيشه من اضطرابات، تثيرها أياد أجنبية، فالمتظاهرون ما هم إلا شباب و مراهقين، كانت النساء تطلق عليهم الزغاريد من شرفات المنازل، مما يعني أنهم يحظون بدعم الناس لهم، و هذه هي أصل المشكلة، علينا أن يكون لنا من الشجاعة ما يكفي للاعتراف، بأن هناك فجوة كبيرة قد ظهرت في العلاقة بين الشعب و قادته، و في الحقيقة نحن أمام حركة اجتماعية، تعكس ضجرا عميقا لدى الجزائريين، من نظام سياسي يعيش أيامه الأخيرة........ 
.......إن النظام السياسي الذي تم وضعه بعد الاستقلال، لم يعد في مستوى تطلعات المجتمع الجزائري، الذي تطور بشكل كبير منذ ذلك التاريخ، و هنا يجب أن تكون لنا من الشجاعة ما يكفي لنقول؛ أن السبب الحقيقي للحركة الاحتجاجية، يكمن في طبيعة النظام، الذي يجب أن يتغير بشكل جذري، مما يترتب عليه سقوط نظام الحزب الواحد، الذي فقد مصداقيته كنظام في جميع دول العالم............... إن أعمال الشغب التي تهز البلاد، هي نتيجة لإخفاقاتنا، و نحن مسئولون عليها بشكل جماعي.........................
سيادة الرئيس؛ 
لقد سمعتك في أكثر من مناسبة تقول؛ أنك ستختفي من الساحة السياسية، إذا شعرت أنك قد فقدت ثقة الشعب، و أضن أن الوقت قد حان، لتخرج عن صمتك، و أن تخاطب الأمة، لتقول لها أنك قد فهمت الرسالة، و أنك تلتزم  بإجراء إصلاحات عميقة، مع التزامك للشعب بعدم الترشح لعهدة ثالثة، و أنك ستترك السلطة، عند انتهاء عهدتك بعد أربعة أشهر من الآن، مع الالتزام بإطلاق الإصلاحات فورا وحالا.
سادة المكتب صمت رهيب، لأنه لم يتجرأ أحد من المسئولين أن يقول مثل هذا الكلام، أمام الرئيس نفسه، فأخذ أعضاء المكتب السياسي، ينظرون لبعضهم البعض، بينما سكت الرئيس الشاذلي قليلا، و لم يرد على كلام بن يلس، ليقول بعد مدة وجيزة : حسنا ليعطي باقي أعضاء المكتب السياسي رأيهم ḷḷḷ
مما فتح الطريق للوزير الأول عبد الحميد الإبراهيمي ليقول : أنه متفق بشكل عام، مع التحليل الذي قدمه  وزير النقل رشيد بن يلس، و يتفق معه أيضا  في الحلول، التي قدمها،  للخروج من الأزمة، لكن ينبغي الإشارة هنا، أن فشل الحكومة الذي يتكلم عليه بن يلس، يتحمله بالدرجة الأولى مولود حمروش، و مجموعة الظل التابعة له، فبسبب تدخلاتهم المستمرة في شؤون الحكومة، و عرقلتهم لعملها، و تعطيلهم المستمر لمخططاتها و برامجها، فشلت الحكومة و وصلنا لما وصنا إليه.
ثم جاء دور محمد الشريف مساعدية ليقول : أنه لا يرى أي مانع، من إصلاح منظومة الحكم، لكن من المستحسن استدعاء اللجنة المركزية، للنظر في هذه الإصلاحات السياسية، التي يمكننا تقديمها للشعب، على أن يبقى القرار النهائي للمؤتمر الذي سينعقد بعد شهران فقط.
وافق الرئيس الشاذلي بإشارة من رأسه، على اقتراح استدعاء اللجنة المركزية للحزب، قصد النظر في الإصلاحات الواجب عرضها على الشعب، لتجاوز الأزمة، و اختتم الجلسة بالقول : أنه سيشكل لجنة عمل صغيرة مهمتها اقتراح إجراءات تهدئة سيعلن عنها، خلال خطابه الذي سيوجهه للأمة، في اليوم الموالي الاثنين 10 أكتوبر (1).
بعد انتهاء اجتماع المكتب السياسي، تقدم العميد رشيد بن يلس من الرئيس الشاذلي، و طلب منه أن يمنحه بضع دقائق على إنفراد للحديث معه، فوافق الرئيس الشاذلي، ليبقى بن يلس معه في مكتبه، بينما غادر باقي الأعضاء مكتب الرئيس.
خلال الدقائق القليلة التي قضاها بن يلس مع الرئيس الشاذلي، كرر لهذا الأخير نفس المطالب التي طالبه بها خلال اجتماع المكتب السياسي، و قال له : سيادة الرئيس لا تترشح لعهدة ثالثة، لأن الحزب الذي سيقدمك باسمه، فقد كل مصداقية، حين هاجم الشعب مقراته و أحرقها، لقد أعطتك الأحداث الدرامية التي عاشتها البلاد، فرصة لتقدم نفسك كوطني مدفوع برغبة صادقة، في إصلاح النظام بشكل جذري، لا يزال أمامك متسع من الوقت، لتغير كل شيء، ثم تغادر من الباب الواسع، و مع التشريف الذي يليق بما قدمته للبلاد من خدمات، و إذا وجدت أن الوقت المتبقي من عهدتك غير كاف، فيمكنك بحجة حالة الحصار، إرجاء تاريخ الانتخابات الرئاسية لبضعة أشهر،و بذلك سيبقى اسمك محفورا في تاريخ الجزائر (2).
استمع الرئيس الشاذلي لكلام بن يلس، دون أن يقاطعه و لو مرة واحدة، ثم شكره على صراحته و صدقه في الحديث، و غادر بن يلس مكتب الرئيس الشاذلي، متجها لمكتب مدير الديوان العربي بلخير، أين اجتمع بعض أعضاء المكتب السياسي لإكمال نقاشهم هناك (3).
بعد خروج بن يلس من مكتبه، استدعى الرئيس الشاذلي كل من مولود حمروش و العربي بلخير، و ابلغهم أنه قرر تكوين لجنة مصغرة مهمتها، أن تعرض عليه، قبل توجهه بخطابه للأمة، الإصلاحات التي سيعرضها بدوره على الشعب خلال نفس  ، كما كلف حمروش بصياغة البيان النهائي لاجتماع المكتب السياسي، و نشره في وسائل الإعلام.
كانت اللجنة التي قرر الرئيس الشاذلي تشكيلها، للنظر في الإصلاحات الواجب إدخالها على النظام، تتكون من :
1- محمد الشريف مساعدية.
2- محمد بن أحمد عبد الغني.
3- رشيد بن يلس.
4- أحمد طالب الإبراهيمي.
5- العربي بلخير.
وسط تلك الحالة المزرية من الفوضى و اللا استقرار، بدأت تقارير الأمن ترد لقسم الأمن و الشؤون العسكرية برئاسة الجمهورية (4)، منبهة أن عناصر خطيرة من التيار الأصولي (5)، بدأت تتحرك لاحتواء حركة الاحتجاجات، و ركوب الموجة، الشيء الذي لم يفعله، أي حزب سياسي معارض سواء جبهة القوى الاشتراكية (6)، التي اكتفت بالتنديد بما يرتكب من أعمال عنف و إطلاق النار ضد المتظاهرين، مطالبة السلطة بانفتاح سياسي، يسمح للشعب باختيار ممثليه بكل حرية، و المساهمة في بناء دولة جديدة حرة و ديمقراطية، و كذلك فعل حزب أحمد بن بلة (7) ، الذي دعا بدوره لتجنب العنف، و الكف عن استعمال السلاح،  مطالبا هو أيضا بإعادة السلطة للشعب، و تركه يقرر بنفسه نوعية النظام السياسي الذي يريده، و لا بديل إلا الديمقراطية، كنظام للتداول على السلطة، كذلك فعل حزب الطليعة الاشتراكية (8)، الذي سار على درب حزب بن بلة و آيت أحمد، و ندد بالعنف و طالب بانفتاح ديمقراطي، لتجنيب البلاد ما لا يحمد عقباه.
في تلك الأثناء كان التيار الأصولي، التيار الوحيد الذي تعامل مع الأحداث بوجهين متباينين، فمن جهة كان هناك جماعة تدعوا للفطنة و التعقل (9)، بينما كان هناك فريق أخر على رأسه علي بلحاج، يدعوا لاستغلال الوضع لافتكراك تنازلات لن يقبل بها النظام، في حالة إذا ما تجاوز هذه الأزمة. و كان قبل ذلك قد نشر الشيخ أحمد سحنون بيانا في جريدة الشهاب، نشرتها أيضا بعض الصحف الوطنية، دعا فيه للتعقل و ضبط النفس (10)، إلا أن مجموعة علي بلحاج، كانت تسير عكس التيار، الذي سار عليه الشيخ أحمد سحنون، و بدلا من الاكتفاء بالوعظ، أخذت تنادي بتنظيم مسيرات و تجمعات ، للتنديد بما يحدث، و لما بلغ الخبر لقيادة حالة الحصار، كان ردها:  أن حالة الحصار تسقط الحقوق السياسية، و بالتالي و وسط حالة الفوضى الذي تعيشها البلاد، المميزة باعتداءات على الممتلكات و الأشخاص، فكل تجمع ممنوع و كل مسيرة مهما كان نوعها ممنوعة، و أي محاولة لإثارة، مزيد من الفوضى سيقابل، بحزم و بشدة (11).
تمكنت مجموعة العقلاء، التي كانت تنشط في ميدان الوعظ، من إقناع علي بلحاج بعدم القيام، بأي مسيرة أو تجمع شعبي خصوصا ليلا،  فالبلاد كانت تحت حالة الحصار، و حظر التجول، و أي عمل طائش، قد يعرض حياة المسلمين للخطر، و اتفقوا معه، إن كان ولابد منه، فليكن النشاط في وضح النهار، و بعد الاتصال بالمديرية العامة للأمن الوطني، حتى تكون في الصورة، و على علم مسبق، بما سيفعله التيار الأصولي (12).
بعد صلاة  يوم الجمعة 07 أكتوبر، انتقلت مجموعة من الوعاظ، للمديرية العامة للأمن الوطني(13)، أين استقبلتهم لجنة متكونة من ثلاث ضباط شرطة، كان على رأسها عميد الشرطة الحاج صادوق، و خلال ذلك اللقاء، استمع ضباط الشرطة، لكلام لجنة الوعاظ، و سجلوا مطالبها، و ليضعوهم في الصورة، و يفهموهم مدى خطورة الوضع، الذي وصلت إليه البلاد، قدموا لهم صورا و شهادات، لحالات من التعذيب تعرض لها رجال شرطة، على يد بعض المواطنين المجهولين، و وعدوهم أن هذه المطالب، سترفع كلها لأعلى سلطة في البلاد، و طلبوا منهم التعقل، و أن لا يقوموا بأي شيء، قد يعرض حياة المواطنين للخطر، و يزيد الوضع الأمني خطورة (14).
انقسم التيار الأصولي بين من يدعوا للتعقل، ممن يريد ركوب الموجة، و استغلالها لافتكاك مطالب، لن يقدمها النظام إذا ما تجاوز الأزمة، و كان علي بلحاج، أشد العناصر تطرفا، و فعل الممكن و المستحيل، من أجل إخراج الشباب المتحمس في مظاهرة حاشدة، و بقي الأمر بين الأصوليين، في مد و جزر حتى صبيحة يوم 08 أكتوبر 1988.
في صبيحة 08 أكتوبر 1988، انتقلت مجموعة الدعاة و الوعاظ، لبيت الشيخ أحمد سحنون ليشاوروه في مسألة المسيرات و التجمعات، فنصح بعدم ارتكاب حماقة قد تؤذي لإراقة دماء بريئة، و نصح بالصبر و التعقل (15). 
بعد صلاة المغرب يوم (09 أكتوبر 1988)، عقد  علي بلحاج و الهاشمي سحنوني، تجمعا في  مسجد السنة بباب الواد، وجه خلاله نداء، من أجل تنظيم تجمع شعبي، بعد صلاة ظهر، يوم الاثنين 10 أكتوبر 1988، في  مسجد صلاح الدين الأيوبي ببلكور.
و في الوقت الذي كان الأصوليين، يحشدون أنصارهم للقيام بتجمع شعبي، في مسجد صلاح الدين الأيوبي ببلكور، بدأت أجهزة الإعلام تردد خبر أن رئيس الجمهورية، سيتوجه بخطاب للأمة، مساء يوم الإثنين 10 أكتوبر على الساعة 08 مساء.
أمام المخاوف المتزايدة من تحول التجمع إلى مظاهرات شعبية لا تحمد عقباها، انتقل الشيخ يخلف شراطي، رفقة الشيخ محمد عيه، و محمد بوسليماني، و محمد السعيد لبيت الشيخ أحمد سحنون، و طلبوا منه التدخل بنفسه، لتعقيل الشباب و إقناعهم بأن أي مسيرة أو أي تجمع شعبي، في هذه الظروف الصعبة، قد تؤدي إلى مواجهات عنيفة مع قوات الجيش، و قد تؤدي لسقوط قتلى و جرحى في صفوف الفريقين.
على إثر ذلك اللقاء، نشر الشيخ أحمد سحنون بيانا هذا نصه :
بسم الله الرحمن الرحيم
 بلاغ
أمام تطور الأحداث الأخيرة التي سالت دماء خلالها دماء زكية وخربت ديار ونهبت أموال فإنني أحمد سحنون الواعظ بمسجد دار الأرقم أرى ومجموع الدعاة لزاما علينا أن نخرق جدار الصمت لنقول للأمة ما يلي:
1. إن قرار المسيرة المرتجل الذي لم يقدر العواقب التي تعود على الدعوة الإسلامية عامة لم يؤخذ فيه برأي مجموع المهتمين بالدعوة الإسلامية والذين تثق فيهم الأمة.
2. إن هذه المسيرة ينبغي أن تتوقف اليوم فورا ومن تمادى في تنفيذ قرار اتخذه فرد بصفة انفرادية فقد خرق إجماع الأمة والدعاة ويتحمل العواقب الناجمة عن ذلك أمام الله ثم الأمة.
3. نهيب بأبنائنا وإخواننا أن يلتزموا الهدوء وضبط النفس في هذا الظرف العصيب، والخير كل الخير في السير في موكب الأمة لقول الرسول –صلى الله عليه وسلم- يد الله مع الجماعة....الحديث.
﴿هذا بيان وهدى وموعظة للمتقين﴾
29 صفر 1409 (10 أكتوبر 1988)
في صبيحة يوم 10 أكتوبر 1988، توجه الشيخ أحمد سحنون رفقة الشيخ محمد السعيد، و الشيخ محمد بوسليماني (رحمهم الله جميعا) إلى مسجد صلاح الدين الأيوبي، أين وجدوا عدد هائل من الشباب السلفي، قد لبوا نداء علي بلحاج و الهاشمي سحنوني، المتعلق بعقد تجمع شعبي في بلكور، و الغريب في الأمر أن، علي بلحاج لم يحظر لذلك التجمع، بحجة أنه مريض.
 ألقى الشيخ أحمد سحنون كلمة طيبة، طلب فيها من الشباب التعقل، و العودة فورا لبيوتهم، و وعد الجميع أنه سيتكفل شخصيا بنقل مطالبهم لرئيس الجمهورية، و تدخل الشيخ محمد السعيد، و فعل نفس الشيء، فانفض الجمع، و أخذ الناس يعودون نحو بيوتهم.
أثناء عودة المواطنين نحو بيوتهم، مرت جماعة كبيرة جدا، متجهة نحو حي باب الواد، أين كانوا يسكنون، و لما وصلوا بمحاداث المديرية العامة للأمن الوطني، أين كان يرابط رتل من الجيش، سمع إطلاق نار لم يعرف مصدره، فرد الجنود بإطلاق النار على المواطنين، العائدين من تجمع بلكور، فوقع عدد غير قليل من القتلى و الجرحى.
في مساء ذلك اليوم، و بينما الجزائر تنزف دما، و تحت تأثير الواقعة التي حدثت أمام المديرية العامة للأمن الوطني، توجه الرئيس الشاذلي بخطاب مرتجل للأمة بدأه قائلا : 
بسم الله الرحمن الرحيم.

أيها المواطنين،

نتوجه إليكم اليوم، والوطن يمر بصعوبات، ناتجة عن أعمال التخريب، التي تتعرض لها المؤسسات، الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية ورموز الدولة. 
و نطرح السؤال: من المستفيد من مثل هذه الأفعال؟  فهل هكذا سنحل قضايانا؟  
نقول لا. 
وقناعتي هي أن جميع المواطنين يشاركونني هذا الرأي. 
في الواقع، كان البديل إما ترك الوضع على ما هو عليه، 
وبالتالي ترك البلاد تنزلق إلى الفوضى والحرب الأهلية، 
وهو الوضع الذي سيخدم بطبيعة الحال أعداءنا 
الذين يتربصون بنا خلسة لينفذوا مخططاتهم. 
أو الخيار الآخر، كما قلت من قبل، كان صعبا. ولكن،
 ومن منطلق مسؤوليتي والتزامي الأخلاقي والسياسي، 
طبقا  للدستور، وجهت تعليمات للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية، بحماية مؤسسات الدولة واقتصادها ومواطنيها الأبرياء منهم الأغلبية الساحقة الذين يرفضون هذه الأفعال من التخريب. 
ونأسف بمرارة على الخسائر البشرية والمادية من الطرفين. 
لقد كان من واجبي كرئيس للأمة أن أتخذ، في إطار صلاحياتي الدستورية، التدابير اللازمة لحماية هذه الدولة وهذه الأمة مهما كانت الظروف والصعوبات، 
و استمر الرئيس الشاذلي، مخاطبا الشعب الجزائري فقال :
لقد تحدثت في خطابي يوم 19 سبتمبر عن الوضع بكل مسؤولية وموضوعية. 
واعتمدت أسلوب النقد الذاتي في الحديث عن النقائص، وهي في الحقيقة كثيرة. 
وحتى قبل هذه الأعمال التخريبية، أعلنت أن الإصلاحات قد بدأت في التنفيذ، وأنه تم اتخاذ التدابير اللازمة لتلبية احتياجات المواطنين، وخاصة ذوي الدخل المنخفض.كما ذكرت إصلاحات أخرى، دون أن أحدد طبيعتها وشكلها. 
وعلينا معا أن ندرس هذه المشاكل بعمق لتحديد أسبابها.
و بنوع من الحماس و التأثير أضاف الرئيس :
واليك يا مواطن نقول لك : مع الأسف و بكل مرارة، هل يرضيك ما جرى في الجزائر  العاصمة ، أو بعض الجهات القليلة الأخرى؟ هل هذا هو عمل وطني؟ هل هذه الغيرة الوطنية؟ هل هذه حب الوطن؟ هل  هاذي مكافئة لشهدائنا لي بفضلهم أحنا نتنعم بالاستقلال و الحرية و السيادة؟ هل هذا هو العمل الي هو يحطم ثانويات، و يحطم مراكز اجتماعية و صحية، و مراكز اقتصادية ؟ هل هذا هو الحل؟ أنا نقول وأجيب مكانك بأن هذا ليس هو الحل. 
الحل يكمن في معالجة مشاكلنا بهدوء و طرح القضايا بكل وموضوعية. و اعتقادي بهذا الأسلوب، نعالج مشاكلنا و سوف نواجه كل الصعوبات السياسية و الاقتصادية بهذه الإصلاحات، و بالأخص الإصلاحات السياسية.
ثم جاءت الفقرات التي أثرت بقوة في مشاعر الشعب حين قال :
أنا تعهدت أمامك  أيها المواطن عندما وضعت في الثقة، لتحمل هذه المسؤولية، كلكم تعرفوا في 79، لم كنت نرغب في المسئولية، ليس تهرب من الميدان أو من الجبهة جبهة القتال لا، كنت دارك و عارف مشاكل الأمة و القضايا الاجتماعية الاقتصادية والسياسية.
لكن الواجب يحتم علي، كمناضل كمجاهد، من أجل تحمل المسؤولية لصالح الوطن لا أكثر و لا أقل، 
أنا لا يغريني الكرسي .و  لا تغريني المادة أو التشريفات. 
همي الوحيد هو عزة هدا الوطن، و خيرة هذه الأمة عاهدت الله والوطن والشعب، و سوف نبقى مخلصاً لهذا الوطن وهذه الأمة. 
و أنهى الرئيس الشاذلي خاطبه، بالقول أنه سيعدل الدستور، و سيعين رئيس حكومة يكون مسئول مباشرة أمام البرلمان، و أعلن عن انطلاق إصلاحات اقتصادية و سياسية عميقة، و أشهد الله على أنه سيطبق ما وعد به.

يتبع

الهوامش :
1- مصادر مختلفة منها رشيد بن يلس، و عبد الحميد الإبراهيمي، راجع أيضا محضر اجتماع المكتب السياسي بتاريخ 09 أكتوبر 1988.
2- العميد رشيد بن يلس.
3- نفس المصدر السابق..
4- قسم الأمن و الشؤون العسكرية برئاسة الجمهورية، مصلحة من مصالح الرئاسة تولاها العقيد بن عباس غزيل من 1984 إلى 1987، ثم العقيد مدين محمد من 1987 إلى 1989، ثم اللواء الحسين بن معلم من 1989 إلى 1991.
5- كانت هذه المجموعة تتكون من علي بلحاج و الهاشمي سحنوني و الواعظ كمال نور و الواعظ عبد المالك رمضاني، إلا أن كمال نور و عبد المالك نور كانا يحاولان تهدئة الأوضاع عكس علي بلحاج الذي أظهر تطرفا كبيرا.
6- جبهة القوى الاشتراكية : أقدم حزب سياسي معارض تأسس عام 1963 على يد الحسين آيت أحمد.
7- عام 1983 أسس أحمد بن بلة في الخارج حزب معارض اسمه الحركة من أجل الديمقراطية في الجزائر.
8- هو امتداد للحزب الشيوعي الجزائري.
9- كبار الدعاة مثل الشيخ أحمد سحنون و محفوظ نحناح و محمد بوسليماني، و مجوعة من شباب الدعاة مثل كمال نور و عبد المالك رمضاني.
10-  البيان نشرته كاملا في الجزء الرابع من هذه الدراسة.
11-  راجع تصريحات اللواء خالد نزار المصورة و المكتوبة.
12-  راجع تصريحات الشيخ علي بلحاج حول أحداث أكتوبر 1988.
13-  مصادر من الأصوليين أنفسهم مثل الشيخ كمال نور و الهاشمي سحنوني و عبد المالك رمضاني و محمد عيه.
14-  نفس المصدر السابق .
15-  نفس المصدر السابق.

الأربعاء، 9 أكتوبر 2024

احداث اكتوبر 1988 .. الجزائر الرابع ... براء عبد الله

أحداث أكتوبر 1988
الجزء الرابع
أصعب أيام الجزائر

سيادة الرئيس، سمعتك تقول في أكثر من مناسبة، إذا شعرت يوما، أنك فقدت ثقة الشعب، فستترك السلطة
العميد رشيد بن يلس للرئيس الشاذلي 09 أكتوبر 1988.
     
في صبيحة السادس من أكتوبر، تجددت المواجهات، لتشمل كامل أرجاء العاصمة تقريبا، وبدا الوضع يتصاعد، ويتجه نحو تمرد شعبي غير مسبوق، ومن الصعب التحكم فيه، فقد توجه المشاغبون هذه المرة إلى محافظات الشرطة لحرقها، بعد أن حولوا مقرات حزب جبهة التحري الوطني إلى رماد، وبالرغم من وصول الطلائع الأولى للوحدات القتالية، وولوجها للعاصمة، إلا أنها كانت تحتاج لبعض الوقت، حتى تكمل انتشارها في نقاط التمركز، التي حددها لها قائد القيادة العسكرية، المكلفة بتسيير حالة الحصار في الجزائر العاصمة (1)، كما واجهت هذه القيادة الكثير من المشاكل من بينها:
1- صعوبة ربط الاتصال بالوحدات القتالية داخل العاصمة، فأجهزة الراديو التي كان يستعملها الجيش، بدت غير صالحة للاستعمال داخل المدن، مما تطلب استبدالها بأجهزة التاكي والكي، المستعملة في مصالح الشرطة والدرك، إلا أن عددها كان محدودا جدا، مما صعب عملية الاتصال بالوحدات، وصعب تمرير الأوامر وتلقي التقارير (2).
2- لم تجد القيادة العسكرية المكلفة بتسيير حالة الحصار في الجزائر العاصمة، أي قانون أو مرسوم أو أي نص رسمي يحدد كيفية تسيير وضعيات شبيهة بالتي تعيشها العاصمة، مما صعب من مهمة الوحدات القتالية، التي في أغلبية الأحيان، كان إطلاق النار هو الرد الوحيد لها، وحتى يتدارك العميد خالد نزار هذا النقص، ولتفادي والتقليل من الإصابات، وسط المدنيين، حرر مذكرة عسكرية حدد فيها بدقة، كيفية التعامل من المتظاهرين، ومتى يمكن استعمال الأسلحة، للدفاع عن النفس، أو لحماية المعدات والمنشآت (راجع الوثيقة المرفقة رقم 01). 
بدا واضحا منذ صبيحة السادس من أكتوبر، أن ذلك اليوم سيكون داميا، وأكثر تعقيدا وصعوبة من سابقه (05 أكتوبر 88) فالقيادة العسكرية أخذت تحاول نشر القوات المسلحة، التي توافدت على العاصمة، وهي مدركة تمام الإدراك، أن هذه الوحدات مدربة على القتال، في حروب كلاسيكية تقليدية، وبالتالي ليس لديها أدنى خبرة، بكيفية مواجهة المظاهرات سوى باستعمال السلاح، إما بإطلاق النار في الهواء، وقد تسبب ذلك في سقوط قتلى وجرحى كانوا متجمعين في شرفات المنازل والعمارات، أو بإطلاق النار على الأرض، وهذه الطريقة كانت أكثر خطورة من إطلاق النار في الهواء، لأن الرصاص المستعمل حين يصيب شيئا صلبا، مثل أرضية الشوارع أو الجدران فإنه ينفلق لشظايا، ويتسبب في إصابات خطيرة جدا.
لم تستطع طلائع الجيش الوطني الشعبي، عند وصولها للعاصمة في 6 أكتوبر 1988، أن تسيطر على الوضع بالسرعة المطلوبة، لأسباب عدة منها:
1- العدد المهول للمتظاهرين (كان عددهم بعشرات الآلاف).
2- عدم استكمال عملية تمركز الجيش في النقاط التي حددتها القيادة.
3- عدم أهلية وحدات الجيش، لمواجهة مظاهرات شعبية، لأن الجيش كان مدربا على الحروب الكلاسيكية.
4- ظهور خلاف بين رئيس أركان الجيش اللواء بلهوشات، وقائد القوات البرية العميد خالد نزار، أنهاه نزار بوضع بلهوشات جانبا وتهميشه تماما، وعدم إشراكه في أي قرار يخص تسيير حالة الحصار في العاصمة. 
تحول مكتب العميد بلخير، في رئاسة الجمهورية، إلى مركز قيادة عملياتي حقيقي، بحيث كان أعضاء خلية الأزمة على اتصال دائم بالوزراء، والولاة، ومحافظي الشرطة، وقادة مجموعات الدرك الوطني، ومكاتب أمن القطاعات العسكرية، وكان العميد العربي بلخير يتصل بصفة منتظمة، برئيس الجمهورية في إقامته بزرالدة، ليقدم له تقارير شفهية عن تطور الأوضاع.
استقر أعضاء خلية الأزمة (3)، في مكتب العربي بلخير، ولم يغادروه سوى للذهاب لبيوتهم، قصد الاستحمام وتغيير ملابسهم، ثم العودة مسرعين لرئاسة الجمهورية لمتابعة التطورات التي بدت، وكأنها تتجه نحو تصعيد خطير جدا.
في ذات اليوم (06 أكتوبر 1988)، وصلت مكتب العميد بلخير برقية إخبارية، مفادها أن هناك ولايات بدأت تظهر فيها بوادر توحي أنها ستلتحق بالعاصمة، لتشملها حالة الفوضى العارمة التي تعيشها البلاد. فور وصول هذه الإخبارية، اجتمع العميد بلخير، مع أعضاء خلية الأزمة، وعرض عليهم الأمر، وطلب أن يتحركوا فورا لاحتواء الأمر قبل أن تتوسع أعمال الشغب، وتشمل ولايات أخرى، مما أوحى أكثر فأكثر أن هناك فعلا، أياد خارجية تحرك حالة الفوضى والعصيان الشامل الذي ألم بالبلاد..
وسط ذلك الجو الثقيل والمكهرب، تلقت خلية الأزمة، أول برقية تتحدث عن سقوط، أول ضحية مدنية في ساحة أول ماي، حين حاول أحد المتظاهرين رشق دبابة بقنبلة مولوتوف، فرد عليه مساعد أول بإطلاق النار عليه ليرديه قتيلا (4). أمام هذه التطورات الخطيرة،. لم يبق أمام خلية الأزمة إلا التحرك سريعا، لاحتواء الموقف قبل أم يتوسع لولايات أخرى، فقاموا بتكليف السعيد آيت مسعودان، بمهمة الاتصال بأعيان ومشايخ منطقة القبائل، والمؤثرين فيها، وحثهم على التدخل للحفاظ على الاستقرار في المنطقة.
بفضل نداءات التعقل التي أطلقها أعيان ومشايخ والمؤثرين في منطقة القبائل، بقيت المنطقة كلها خارج الأحداث، ولقي ذلك النداء استجابة واسعة جدا بين أواسط السكان، بحيث قام قلة قليلة فقط من الشباب بالتظاهر، لكن مصالح الأمن سيطرت عليهم سريعا، وتم إطلاق سراحهم بعدها بوقت يسير، مقابل تعهد بعدم تكرار ما فعلوه.
في نفس اليوم 06 أكتوبر 1988؛ نشر الإسلاميون أول بيان لهم على صفحات جريدة الشهاب وبعض الصحف الوطنية وهذا أول بيان:

البيان الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
 إن الأحداث الجارية في الساحة ليست مجرد طفرة أو وليدة رد فعل انتهازي فقط، بل تجد دوافعها وأسبابها من الوضع العام المتردي بسبب سياسة الترف والمباهاة والتبذير المتبعة على حساب المصالح العليا للشعب.
والإصلاح لا يكمن في القمع وإسكات أصوات المتألمين من الجوع والعري والضيق الخانق، وإنما الحل يكمن في مراجعة النفس بصدق ومواجهة الحقيقة بإجراء عملي يمليه الشعور بالمسؤولية أمام الله ثم التاريخ، وهو العودة إلى الإسلام شريعة ومنهاجا بعدما فشلت النظم الوضعية المخربة، لنكون منطقيين مع ما عاهدنا الله عليه وسجل في الدستور "الإسلام دين الدولة".
إن هذه العبارة لا تجد محتواها العملي إلا في تطبيق الإسلام بإعطائه أبعاده العملية:
- الشورى الصادقة في الحكم
- والعدالة في توزيع خيرات البلاد على فئات الشعب
- وتحقيق الكفاية مع الضروريات لكل فرد
- والمساواة أمام القانون
- الطهارة في الأخلاق
- والأمن على كل المقدسات من دين وعرض ونفس ومال
- والحرية في التفكير والتعبير
آن الأوان للشعب أن يعامل معاملة شعب مسلم كريم قدم أعلى التضحيات ليرفع راية الإسلام وليحيا حياة كريمة.
وبقدر ما نقف إلى جانب الشعب في مطالبه المشروعة من حد أدنى من عيش كريم كشعب هو جزء من خير الأمة له رسالة يتطلع إلى غد مشرق في ظل الإسلام، فإننا ندين كل عمل تخريبي لممتلكات الشعب سواء عن طريق سياسة المباهاة والبذخ والتبذير الرسمي أو عن طريق أعمال غير المسؤولة من حرق تخريب ونهب.
ونهيب بكل الصادقين في دينهم أن لا يدمروا اقتصاد هذا الشعب لأن التخريب الاقتصادي يزيد من المديونية والتبعية للدول الغنية التي تفرض نفوذها وتملي شروطها وإلا يصدق علينا قول الله ﴿يخربون بيوتهم بأيديهم﴾.
﴿هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين﴾.
أحمد سحنون
الواعظ بمسجد دار الأرقم
الأربعاء 25 صفر 1409 (6 أكتوبر 1988)
مساء نفس اليوم 06 أكتوبر 1988، صار الوضع العام يغلي وينبئ بما لا تحمد عقباه، فمن جهة اتسعت المظاهرات لتشمل كل أحياء العاصمة تقريبا، ومن جهة أخرى بدا جليا أن الوحدات القتالية، التي استقدمت من داخل البلاد رغم عددها الكبير، غير مؤهلة تماما لمواجهة عصيان مدني، متكون من مواطنين شباب وأطفال، لا يتعدى سنهم العشرين سنة، فكان أفراد الجيش يردون على حجارة المتظاهرين، بإطلاق النار في الهواء، أو على الأرض مما تسبب، في سقوط قتلى وجرحى. لينتهي يوم الخميس 6 أكتوبر 1988، بتسجيل قتيلين، و35 جريح بالإضافة لأكثر من 286 موقوف (5).
في ساعة متأخرة جدا، من مساء السادس إلى السابع من أكتوبر، اتصل العميد بلخير برئيس الجمهورية، ليطلعه على آخر التقارير بما فيها، عرض حال شامل عن عدد القتلى والجرحى والموقوفين، فانهار الرئيس تماما، عند سماعه خبر سقوط قتلى من المدنيين، فأوقف الكلام وقطع الاتصال (6).
في ليلة 6 إلى 7 أكتوبر 1988، طافت شوارع مدينة وهران، سيارات مشبوهة، أخذ ركابها يشتمون ويسبون سكان المدينة، وينعتونهم بأشنع الصفات، ويطلبون منهم الخروج، في مظاهرات لمساندة إخوانهم في العاصمة، وتكررت نفس العملية في ولايات أخرى، مثل تيارت، تلمسان، عنابة، باتنة، والتبسة، مما زاد من فرضية وجود أياد أجنبية، تقف خلف الأحداث.
في صبيحة يوم الجمعة 7 أكتوبر 1988، اشتعل شجار بين شخصين، في سوق السيارات الواقع بالقرب من حديقة التسلية (جنة الأحلام كما تسمى) بمحاذاة الحي الشعبي الحمري في وهران، ليتحول الشجار إلى أعمال شغب حطم على إثرها، عدد هائل من السيارات، التي جاء بها أصحابها لبيعها في ذلك السوق، ولتشتعل مدينة وهران عن بكرة أبيها، ويتحول ذلك الشجار البسيط بين شابين منحرفين، إلا أعمال شغب دامية، أتت على الأخضر واليابس، ولتلتحق مدينة وهران بركب أعمال الشغب، التي أحرقت الجزائر العاصمة، منذ صبيحة الخامس من أكتوبر، وكانت الهيئات المستهدفة هي نفسها التي استُهدفت في الجزائر العاصمة، فكان المتظاهرون يحرقون مقرات حزب جبهة التحرير الوطني، وأقسام الشرطة، والمؤسسات العمومية، بعد أن نهبوا وأحرقوا أسواق الفلاح ومؤسسات الأروقة الجزائرية (7). 
أمام خطورة الوضع، واتساع دائرة التمرد لتشمل كلا من العاصمة، وهران، المدية، الجلفة، الشلف، المسيلة، عين الدفلى، بومرداس، البويرة، تيبازة، البليدة، سيدي بلعباس، عين تموشنت، تيارت، تلمسان، ڨالمة وعنابة، قررت خلية الأزمة المسيرة لحالة الحصار، فرض حظر التجول ابتداء من الساعة 10 ليلا، ويمتد لغاية 06 صباحا، على العاصمة وضواحيها، مع دعوة الآباء لمنع أبنائهم من الخروج، كما تم تعليق الدراسة، وإغلاق المدارس والثانويات، في كامل أرجاء التراب الوطني، في انتظار استتباب الأمن العمومي، إلا أن هذه الإجراءات لم تحقق الأهداف المنشودة منها (8).
في ساعة متأخرة جدا من ليلية 07 إلى 08 أكتوبر 1988، وجه وزير الداخلية الهادي لخذيري، كلمة مقتضبة جدا للشعب الجزائري، والدموع تملأ عينيه، قال فيها إن ما يحدث قد أساء للثورة في الداخل والخارج، ووعد بأن جميع الإجراءات ستتخذ لوضع حد لهذه الوضعية المؤسفة التي تجتازها البلاد، الكثير من كبار مسئولي الحزب والدولة، لم يهضموا هذا التدخل التلفزيوني لوزير الداخلية، الذي اعتبروه ضعيفا جدا، من حيث طريقة الأداء، ولم يأت بأي شيء يساعد على تهدئة الوضع، أو حتى يبين ما تريد السلطة فعله لمواجهة الأزمة التي عمت الجزائر كلها (راجع الصورة المرفقة رقم 02).
تماما مثل العاصمة ووهران، أدى تدخل قوات الجيش لسقوط قتلى وجرحى، وسط المتظاهرين، إلى هنا شعر الرئيس الشاذلي بخطورة الوضع، ووصوله لدرجة لا يمكنه البقاء منعزلا فيها، فغادر إقامته بزرالدة، وعاد للعاصمة، التي كانت آثار الدمار بادية في كل مكان منها.
عند عودته لرئاسة الجمهورية في 08 أكتوبر 1988، طلب الرئيس الشاذلي الاتصال بالأمين العام للرئاسة مولود حمروش الذي كان غائبا، وأثناء الحديث معه (عبر التلفون)، أمره بالعودة فورا لمكتبه، وأبلغه أن الأوضاع صارت خطيرة جدا، وأنه قرر أن يوجه خطابا للأمة، ويتخذ بعض الإجراءات لتهدئة الوضع.
بعد ظهر نفس اليوم (08 أكتوبر 1988)، عاد مولود حمروش لمكتبه، وتقرر حل خلية الأزمة، التي سيرت الوضع من 5 إلى 8 أكتوبر، وتولى الرئيس الشاذلي إدارة الأزمة، فاجتمع مع قيادة تسيير حالة الحصار التي قدمت له على لسان قائدها العميد خالد نزار، عرضا شاملا لكل ما حدث، بما في ذلك إحصاء لعدد الجرحى والقتلى والموقوفين، كما تولى رئيس قسم الأمن والشؤون العسكرية في رئاسة الجمهورية، تقديم ملخص لما رصدته أجهزة الأمن من شرطة ودرك وأمن عسكري جاء فيه:
1- أن الطابع الشامل للعصيان، الذي شمل 17 ولاية في مدة يومين، يستحيل أن يكون عملا معزولا أو غير منظم.
2- استهداف مقرات الحزب ومقرات الشرطة ومؤسسات الدولة الإدارية والاقتصادية، دون غيرها، يؤكد أن القضية موجهة.
3- استعمال الأسلحة البيضاء وزجاجات المولوتوف والأسلحة النارية، يوحي بأن هناك فعلا، هيئة منظمة تقف خلف أعمال العنف.
4- الانتشار السريع لأعمال الشغب، يوحي بوجود خلايا، كانت تنتظر صدور التعليمات لتتحرك.
5- ظهور سيارات مجهولة حرضت على الشغب في وهران، وأطلقت النار على المواطنين في العاصمة، دليل آخر على أن هناك فعلا، يد أغلب الظن أنها أجنبية، تقف خلف الأحداث.
6- قرب موعد انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، الذي كان مقررا أن ينعقد في شهر نوفمبر 88، لإعلان قيام دولة فلسطين، يوحي أن هناك مصالح استخبارات أجنبية، أرادت زعزعة استقرار الجزائر، وضرب مؤسساتها لعرقلة انعقاد المؤتمر.
أمام كل هذه المعطيات، قرر الرئيس الشاذلي، استدعاء المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني، للاجتماع ظهيرة يوم الأحد 09 أكتوبر 1988، وكلف مدير الديوان العربي بلخير، بصفته المكلف بالقضايا السياسية والعسكرية، الاتصال بأعضاء المكتب، وإعلامهم بمكان وموعد الاجتماع.
اتصل العميد العربي بلخير هاتفيا، بأعضاء المكتب الواحد فردا فردا، وطلب منهم الحضور لرئاسة الجمهورية، دون أن يحدد لهم السبب، ولو أن أغلبية الذين اتصل بهم، فهموا أن هذا الاستدعاء العاجل، ما هو إلا دعوة لحضور اجتماع طارئ للمكتب السياسي للحزب، الذي سيجتمع للمرة الثانية خلال أسبوع واحد، وبمجرد اكتمال عدد أعضاء المكتب السياسي الوافدين على ديوان رئاسة الجمهورية، أدخلهم العربي بلخير، على الرئيس الشاذلي في مكتبه، حيث بدا جليا أنه منكسر ومحبط لأقصى درجة.
افتتح الرئيس الشاذلي اجتماع المكتب السياسي، بصوت منكسر ومنخفض لدرجة أن أعضاء المكتب كانوا بالكاد يستطيعون سماع ما يقول، وبعد أن قدم عرض حال سريع عن الوضع، طلب من أعضاء المكتب إبداء رأيهم حول الأسباب التي أوصلت البلاد لهذه الحالة، مع تقديم مقترحاتهم، للخروج من حالة الاحتقان والفوضى العارمة التي ألمت بالبلاد، وأكد على ضرورة الحديث بكل ثقة وصراحة.
كان العميد رشيد بن يلس، عضو المكتب السياسي للحزب ووزير النقل أول من تدخل مباشرة بعد انتهاء الرئيس الشاذلي من كلمته، ليقول في آخر كلامه، سيادة الرئيس لقد سمعتك في أكثر من مناسبة تقول إنك ستختفي من الساحة السياسية إذا شعرت أنك قد فقدت ثقة الشعب، وأظن أن الوقت قد جاء، لإجراء إصلاحات عميقة، مع التزامك للشعب بترك السلطة عند انتهاء عهدتك بعد أربعة أشهر من الآن.
يتبع

الهوامش:
1- تشكلت على مستوى قيادة القوات البرية بعين النعجة، قيادة ميدانية لتسيير حالة الحصار في الجزائر العاصمة، كان على رأسها العميد خالد نزار، وانتهت مهمة هذه القيادة بمجرد رفع حالة الحصار في 12 أكتوبر 1988.
2- راجع تصريحات اللواء خالد نزار حول أحداث أكتوبر.
3- خلية الأزمة: كانت تضم محمد الشريف مساعدية، وعبد الحميد الإبراهيمي، الهادي لخذيري، والعربي بلخير.
4- تم الاستماع للمساعد الأول الذي أطلق النار على المدني، فكان رده (الذي أكده جميع الجنود الحاضرين أثناء وقوع الحادث) أن ذلك المدني حاول تسلق الدبابة، وهو يحمل في يده، زجاجة مولوتوف، وبالتأكيد كان يريد أن يرميها داخل الدبابة، التي كان بداخلها 43 قذيفة، فأطلق عليه النار بمسدسه، وأثناء التحقيق تم اكتشاف أن الضحية عسكري قديم، فار من صفوف الجيش.
5- المصدر رسمي.
6- راجع شهادة اللواء خالد نزار في تلفزيون النهار.
7- شهادة قدمها الكثير من المواطنين الذين كانوا في عين المكان ساعة حدوث الواقعة.
8- مصادر رسمية أكدها اللواء خالد نزار.

الأحد، 6 أكتوبر 2024

احداث اكتوبر 1988 .. الجزء الثالث .. بقلم الكاتب براء عبد الله

أحداث أكتوبر 1988
الجزء الثالث
الانفجار
.
لم يعد هناك أدنى شك، إنها مؤامرة تحركها أياد خارجية،
و لا يمكنني كرئيس مسئول على الأمة، أن أبقى مكتوف اليدين،
بينما الجزائر تحترق
الرئيس الشاذلي للعربي بلخير 05 أكتوبر 1988.
         
في صبيحة الخامس من أكتوبر عام 1988 ، انتشرت إشاعة مفادها أن إضراب عام سيشل مدينة الجزائر، غير أن مصالح الأمن في برقياتها الإخبارية اعتبرت ذلك مجرد زوبعة في فنجان، و لم تعر القيادة السياسية أي اهتمام لتلك الإشاعة (كانت الإشاعات في تلك الفترة كثيرة لدرجة أن الناس تعودوا عليها بل ألفوها).
بدأت الحياة تذب في شوارع العاصمة بصورة عادية جدا، لكن حدث في حدود الساعة العاشرة صباحا، أن مجموعة من المراهقين أخذوا يتجمعون في شارع ديدوش مراد (هنا بدأت أحداث أكتوبر في هذا الشارع بالذات، و ليس في باب الوادي كما قيل من قبل) و أخذوا يسبون و يشتمون عناصر الشرطة المتواجدة في عين المكان، و كان كلما اتجهت عناصر الشرطة لإلقاء القبض عليهم، يتبددون في الأزقة المتفرعة عن شارع ديدوش مراد و يختلطون بالمارة، فلا تفلح الشرطة في الإمساك بهم، و تكررت هذه العملية عدة مرات مما دفع برجال الشرطة إلى طلب الدعم من مديرية أمن الجزائر ، إلا أن مدير أمن العاصمة لم يستطع إرسال أي دعم يذكر، لأن قوات الشرطة كانت متمركزة في الحراش و الرويبة أين كانت المظاهرات و الإضرابات قد بدأت منذ 3 أيام خلت، و هذا هو السبب الحقيقي لخلو وسط العاصمة من الشرطة صبيحة الخامس من أكتوبر ، و لم يصدر أي أمر للشرطة بالانسحاب من الشوارع كما أشاع ذلك الكثير من المعارضين (1).
تطور الأمر بعدها حين أخذ الأطفال دون سن 14 سنة، يلتحقون بالمراهقين في نفس الشارع، ليكونوا أول رتل ضخم من المشاغبين، و هجموا على مقر وزارة النقل محاولين اقتحامها ، لكن عمال و موظفي الوزارة تمكنوا من صدهم و قاموا بإغلاق الوزارة، مخافة أن يكرر هؤلاء المراهقين عملية الاقتحام مرة أخرى (2).
أخذت الأمور تتطور شيئا فشيئا، بحيث انتقلت تلك الجحافل من المراهقين و الأطفال، ليضرموا النار في كل مؤسسة ترمز للدولة، انطلاقا من شارع ديدوش مراد وصولا لساحة صوفيا، ثم إنعرجو عبر شوارع وسط الجزائر، و هاجموا أسواق الفلاح و خربوها تماما، ثم أشعلوا النيران فيها.
امتدت أعمال الشغب لتصل ساحة أول ماي، حيث اقتحموا مقر وزارة الشباب و الرياضة و أحرقوها عن بكرة أبيها، و منها بدأت أعمال الشغب و العنف تنتشر في مدينة الجزائر لتصل بسرعة البرق إلى باب الوادي أين أقدم مجموعة من المراهقين على توقيف حافلة نقل عمومي، و انزلوا من فيها من ركاب ثم أحرقوها و قاموا برجم ولاية الجزائر و مقر المجلس الشعبي الوطني بالحجارة، لتعم الفوضى و الخوف العاصمة عن بكرة أبيها، و أمام هول ما حدث و سرعة انتشار الإشاعات أغلق التجار محلاتهم، مخافة أن تتعرض للتخريب و النهب، بينما عجزت مديرية أمن الجزائر على مواجهة كل تلك الحشود، لأنه لم يكن عندها ما يكفي من رجال شرطة، لتأمين العاصمة كلها، خصوصا و أن ثلاث أرباع قوات مكافحة الشغب، كانت متمركز في الرويبة و الحراش، فتطلب الأمر الاستعانة بجميع قوات الدرك الوطني الموجودة في العاصمة و ضواحيها، إلا إن تدخل الدرك لم يجدي أيضا (3).
في حدود الساعة الحادية عشر و نصف أُبْلِغَ رئيس الجمهورية بأن العاصمة تحترق، و عقد أول اجتماع أمني حضره زيادة على الرئيس الشاذلي،  كل من مدير الديوان العربي بلخير، و وزير الداخلية الهادي لخذير (4).
الهادي لخذيري أبلغ الرئيس الشاذلي أن الوضع خطير جدا ، و أن المدير العام للأمن الوطني السيد عبد المجيد بوزبيد (5) عاجز تماما عن مواجهة الموقف، نظرا للعدد المهول من المراهقين و الأطفال الذين انتشروا في كل ربوع العاصمة، و أوحى للرئيس بأن الوضعية خطيرة جدا، و يجب اتخاذ إجراءات ردعية سريعة جدا لإعادة الأمن و الاستقرار، لذلك يجب استدعاء وحدات من الجيش، التي هي فقط بإمكانها إعادة الأمن العمومي لسابق حاله (6).
لم يتخذ الرئيس الشاذلي أي قرار ، و فضل استدعاء المكتب السياسي للاجتماع فورا قصد دراسة الوضع و الخروج بقرار جماعي، و فعلا اتصل العميد العربي بلخير مدير ديوان رئيس الجمهورية هاتفيا بجميع أعضاء المكتب السياسي، و أبلغهم أن رئيس الجمهورية قرر استدعاء المكتب السياسي للاجتماع في مقر الرئاسة عند تماما الساعة الواحدة من نفس اليوم.
كان المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني، أعلى هيئة سياسية في الدولة، فهو من جهة الهيئة التنفيذية للجنة المركزية للحزب، و من جهة أخرى هو مركز اتخاذ القرارات السياسية الهامة في البلاد، و كان يضم:
 1- الشاذلي بن جديد رئيس الجمهورية، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني.
 2- محمد الشريف مساعدية مسئول الأمانة الدائمة للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني.
 3- رابح بيطاط رئيس المجلس الشعبي الوطني.
4- عبد الحميد الإبراهيمي الوزير الأول.
 5- محمد بن أحمد عبد الغني وزير دولة لدى رئيس الجمهورية.
 6- اللواء عبد الله بلهوشات نائب وزير الدفاع رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي.
7-  الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير الشؤون الخارجية.
8-  رشيد بن يلس وزير النقل.
9-  قاصدي مرباح وزير الفلاحة و الصيد البحري..
10-  بشير رويس وزير الإعلام.
11- بوعلام باقي وزير الشؤون الدينية.
 12- بوعلام بن حمودة عضوا في المكتب السياسي (وزير المالية حتى عام 1986 و عين عام 86 مدير عام للمعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية الشاملة، حافظ على عضويته في المكتب السياسي).
 13- محمد يعلى عضوا في المكتب السياسي (وزير الداخلية خلفه الهادي لخذيري في منصبه عام 1987 و حافظ على عضويته في المكتب السياسي).
اجتمع المكتب السياسي بحضور جميع أعضاءه باستثناء وزير الشؤون الخارجية أحمد طالب الإبراهيمي، الذي كان في نيويورك لتمثيل الجزائر في الجمعية العامة للأمم المتحدة، و نظرا للوضعية الاستثنائية التي كانت تعيشها البلاد، استدعي وزير الداخلية الهادي لخذيري، ليقدم تقريره عن الوضع الأمني العام، كما شارك إلى جانبه مدير ديوان رئاسة الجمهورية العميد العربي بلخير.
وسط جو ثقيل جدا، افتتح الرئيس الشاذلي جلسة المكتب السياسي، و علامات الغضب بادية على وجهه، و دون إطالة أحال الكلمة للهادي لخذيري ليقدم تقريره، قدم الهادي لخذيري عرض حال كارثي عن الوضع، و هو شبه منهار و الدموع تملئ عيناه، بحيث صور الوضعية العامة، و كأن مدينة الجزائر العاصمة على وشك الانهيار، و أضاف أن أعمال التخريب قد بلغت حدا لم تستطع قوات الأمن العمومي، من شرطة و وحدات جمهورية للأمن السيطرة عليها، و بدون لف و لا دوران طلب مباشرة من رئيس الجمهورية، استدعاء الجيش ليتولى مهمة إعادة الأمن العمومي لسابق حاله، و أضاف أن الجيش وحده بإمكانه  القضاء على  حالة الفوضى، التي عمت كل أرجاء العاصمة، قبل أن تمتد لجهات أخرى من الوطن، و أنهى تقريره مؤكدا أنه متأكد من أن هذه الأحداث، تحركها قوى خارجية دون أن يحدد طبيعتها (7).
عم الصمت أرجاء قاعة الاجتماع، و أخذ أعضاء المكتب السياسي ينضرون إلى بعضهم البعض، فكان وزير النقل العميد رشيد بن يلس أول من تدخل، ليشكك في أن تكون خلف هذه الأحداث أياد خارجية، إلا أن العميد بلخير قاطعه ليؤكد كل الكلام الذي قاله وزير الداخلية، و قال أن مصالح الأمن تعمل بكل قوة و سوف تقدم لنا الدليل على أن هذه الأحداث تحركها فعلا قوى أجنبية، و ذكر بأن فرنسا لا تزال لم تهضم قضية استعادة الثانويات الفرنسية، كما أكد أن الغرب عموما و فرنسا خصوصا، ضد أي مشروع وحدوي بين الجزائر و ليبيا، و نحتاج فقط لبعض الوقت قصد إثبات أن العملية تحركها أياد خارجية (8).
كان الرئيس بن جديد في حالة امتزج فيها الغضب مما وقع، و الأسف لما يحدث، و الخوف مما هو آت، فطلب من العميد بلخير أن يقيد هذه النقطة في البيان الذي سيصدر عن المكتب السياسي، إلا أن رشيد بن يلس تدخل مرة أخرى و قال : أن فرضية وجود مؤامرة تحركها قوة أجنبية يجب أن لا تصدر ضمن بيان المكتب السياسي لأننا غير متأكدين من صحة المعلومة، و أن المكتب السياسي سيفقد كل مصداقية إذا أتثبت التحريات لاحقا أنها ليست مؤامرة (9).
نظر الرئيس بن جديد إلى رشيد بن يلس و كأنه لم يعجبه ما قله، لكن نظرا لعلاقة الصداقة الطويلة التي جمعت بين الرجلين القادمين من نفس المؤسسة (الجيش الوطني الشعبي) تخطى الرئيس بن جديد هذا الأمر بلباقته المعهودة، و طلب من أعضاء المكتب السياسي أن يقدموا رأيهم واحدا، واحدا فيما يخص ثلاث نقاط هي :
أولا: إعلان حظر للتجول.
ثانيا : تدخل الجيش.
ثالثا : استدعاء اللجنة المركزية لدورة استثنائية.
أغلبية أعضاء المكتب السياسي فضلوا السكوت و عدم تزكية هذه الإجراءات الخطيرة، بينما فضل البعض الأخر أن يربطوها بعنق الرئيس فقالوا : نحن مع أي قرار يتخذه الرئيس، بينما رشيد بن يلس و قاصدي مرباح كانا الوحيدان اللذان عارضا مسألة إقحام الجيش في قضية استعادة الأمن العمومي، لأنهما عسكريان يعلمان جيدا أن الجيش غير مؤهل تماما للقيام بمثل هته العملية داخل مدن تعج بالمدنيين، و أن الأمر سينتهي بإراقة بحر من الدم، سيتحمل الجيش مسؤولية إراقته، بينما ما يحدث قضية سياسية لا دخل للجيش فيها، فكيف يطلب من الجيش قمع تمرد شعبي تسببت فيه قوى سياسية و إدارية عجزت عن أداء مهامها كما قاله الرئيس الشاذلي في خطاب 19 سبتمبر.
انتهى اجتماع المكتب السياسي دون الخروج بأي قرار فيما يخص النقاط التي اقترحها رئيس الجمهورية، و انفض أعضاء المكتب السياسي و هم لا يدرون ما يدور حولهم.
قبل أن يغادر أعضاء المكتب مقر رئاسة الجمهورية، طلب منهم مدير ديوان الرئيس المداومة في مكاتبهم و البقاء على اتصال دائم بديوان الرئاسة، ثم اجتمع الرئيس بن جديد بالعميد بلخير في مكتبه.
خلال هذا الاجتماع أمر رئيس الجمهورية أن يتم الاتصال بمولود حمروش و يطلبون منه العودة للرئاسة فورا (للعلم فقط أثناء حدوث هذه الكارثة كان الأمين العام لرئاسة الجمهورية و أغلبية مساعديه غائبون عن مناصبهم) و قرر تشكيل خلية أزمة تضم : محمد الشريف مساعدية، عبد الحميد الإبراهيمي، الهادي لخذيري، برئاسة العميد العربي بلخير على أن يكون مقرها في رئاسة الجمهورية، و يكون عملها مفتوحا، و تبقى مجتمعة بدون انقطاع على أن تمده بالمعلومات و لا تتخذ أي قرار دون الرجوع إليه.
توالت التقارير القادمة من وزارة الداخلية، لترسم صورة سوداء قاتمة لما يحدث في العاصمة، التي حسب هذه التقارير قد احترقت عن بكرة أبيها، و أبلغ الرئيس أن قوات مكافحة الشغب التابعة للمديرية العامة للأمن الوطني، استقدمت من ولايات مجاورة مثل البليدة تيبازة و بومرداس، قد بدأت فعلا في الاحتكاك بالمشاغبين. في حدود الساعة 03 بعد الظهر ، أي أن العاصمة منذ الساعة 10 صباحا حتى الساعة 3 بعد الظهر كانت تحت رحمة المتظاهرين الذين دمروا و أحرقوا مقرات الخطوط الجوية الجزائرية و الأجنبية، و كسروا كل الواجهات الزجاجية للمحلات و أحرقوا أسواق الفلاح بعد نهب ما فيها، كما لم تسلم منهم الإدارات و مقرات الشركات الوطنية و مقرات حزب جبهة التحرير الوطني.
جدد وزير الداخلية طلبه الخاص باستدعاء الجيش، لاستتباب الأمن و النظام العمومي، لأن هناك بوادر توحي بأن أعمال الفوضى ستنتشر في كامل أرجاء الوطن.
أمام هذه الوضعية الاستثنائية طلب الرئيس الشاذلي، من مدير ديوانه استدعاء رئيس أركان الجيش اللواء عبد الله بلهوشات ، و قائد القوات البرية العميد خالد نزار، لدراسة إمكانية قيام الجيش بمهمة استتباب الأمن، و بعدها بوقت يسير وصل الرجلان إلى مقر الرئاسة، و استقبلهما الرئيس بن جديد في مكتبه، كما قامت التلفزة الوطنية بتصوير اللقاء و بثته في نشرة الثامنة من نفس اليوم.
خلال هذا اللقاء الذي حضره كل من :
1- الشاذلي بن جديد رئيس الجمهورية و وزير الدفاع الوطني.
2- العميد العربي بلخير مدير الديوان لدى رئاسة الجمهورية.
3- العقيد محمد مدين رئيس قسم الأمن و الشؤون العسكرية برئاسة الجمهورية.
4- اللواء عبد الله بلهوشات نائب وزير الدفاع و رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي.
5- العميد خالد نزار نائب رئيس أركان الجيش و قائد القوات البرية.
خلال هذا الإجتماع، سأل الرئيس الشاذلي، صديقه القديم و رفيق دربه، اللواء عبد الله بلهوشات رئيس أركان الجيش عن موقف الجيش مما يقع، ففهم بلهوشات مقصد الرئيس، فرد أن الجيش سيقف مع الرئيس، و سيدافع بكل قوة على مؤسسات الدولة، لأنها واحدة من مهام الجيش،  كما أن الجيش الذي أتكلم باسمه لن يخذل مؤسسات البلاد مهما حدث.
عندها سأل الرئيس الشاذلي، اللواء عبد الله بلهوشات سؤال ثان حيث قال : كم تحتاج من وقت لنشر أفراد الجيش في كامل العاصمة للسيطرة على الوضع ؟؟؟ فذكر اللواء بلهوشات رئيس الجمهورية أنه العام الفارط (1987) ،قد قرر إخلاء العاصمة تماما من الوحدات القتالية، و أن ما هو متوفر من أفراد يكفي بالكاد، لحماية المنشآت العسكرية، و ليس أمامهم إلا استقدام وحدات من داخل البلاد، لكن هذه العملية تحتاج للوقت، و لتسخير إمكانيات لا يملكها سلاح الطيران. 
بدا الوضع أدهم اللون، و شَعَرَ الرئيس الشاذلي، بأنه ارتكب خطأ جسيما، حين أخلى العاصمة و محيطها، من الوحدات القتالية، التي كانت فيها،  كما شعر أن كل شيء يسير ضده، حتى مؤسسة الجيش التي كان يعول عليها، ليست في وضعية تسمح لها بالتدخل فورا.
أمام الجو الثقيل الذي ساد المكتب،  تدخل العميد خالد نزار ليقول: لا يوجد شيء غير ممكن، و كل شيء في سبيل الجزائر يهون، إذا تم إعطائنا الصلاحية نستطيع أن نستقدم وحدات قتالية، ستكون في العاصمة صباح الغد، و بالموازاة يمكننا أن نضع خطة عمل لتنظيم كيفية دخول الجيش للعاصمة، و كيفية تعامله مع الوضع، نتمنى أن لا نضطر لاستعمال السلاح، و إذا فعلنا فلن يكون إلا للضرورة القصوى، و سنحاول تفادي الخسائر ما استطعنا ذلك.
كان جميع الحاضرين في هذه الجلسة عسكريين، فرئيس الجمهورية عقيد و قائد اسبق للناحية العسكرية الثانية، و عبد الله بلهوشات رئيس أركان الجيش، عسكري شارك في حرب الهند الصينية، ثم التحق مبكرا بجيش التحرير الوطني عام 1955 ، و قضى حياته بعد الاستقلال في ممارسة مهام عسكرية، و العميد خالد نزار نائب رئيس أركان الجيش و قائد القوات البرية عسكري له مشوار طويل في مؤسسة الجيش، و العميد بلخير مدير ديوان رئيس الجمهورية عسكري أيضا، كلهم كانوا يَعُونَ جيدا أن نزول الجيش للشوارع سيليه استعمال السلاح، و استعمال الرصاص الحي داخل مدن مكتظة سيكون لها نتائج غير مرغوب فيها، و مع ذلك كان العميد نزار مستعد لاستعادة الأمن بأقل الخسائر على حد قوله، كما كان باقي الحضور متفهمين أن الوضع يتطلب استعمال السلاح، إذا دعت الحاجة لذلك. كان الرجال الأربعة و بالأخص الرئيس يشعرون بمرارة أن يضطر الجيش، الذي مهمته حماية الشعب، أن يطلق النار على الشعب، الذي هو جزء منه، لكن الوضعية كانت لا تسمح، و لا تترك أي مجال للمشاعر.
طلب الرئيس الشاذلي، من اللواء بلهوشات، و العميد نزار البقاء على اتصال به، على أن يعلمهما، قبل نهاية اليوم بما قرره فيتحركان وفق ذلك، و لكنه أعلمهما مسبقا أن بلهوشات، سيتولى إدارة حالة الحصار، في كامل التراب الوطني باستثناء العاصمة التي سيتولى أمرها خالد نزار.
وسط هذا الجو الثقيل، الذي لم يعد أحد يستطيع تحمله، جاءت إخبارية من وزارة الإعلام، مفادها أن القنوات الفرنسية بدأت تبث صورا حية للخراب، الواقع في العاصمة الجزائرية، و خصصت جزء طويل منها لمهاجمة الجزائر، و بث الرعب بين أواسط الشعب، من خلال نشرات إخبارية مغرضة للغاية، كما أن وزير الخارجية الفرنسي رولان دوما (10) أدلى بتصريح مقتضب للصحافة، عبر فيه عن الموقف الرسمي الفرنسي، و قال بأن الحكومة الفرنسية، تتابع ما يحدث و سيكون لها موقفها، حين تكون لديها المعطيات التي تمكنها من فعل ذلك (كان وزير الخارجية الفرنسي حينها، في زيارة عمل لمملكة إسبانيا و أدلى بتصريحه من إسبانيا) (راجع نشرة الأخبار للقناة الفرنسية الثانية بتاريخ 05 أكتوبر 1988).
ازداد التوتر داخل مكتب الرئيس، و شعر الجميع أن الجزائر مستهدفة في صميمها، و لم يبقى أي مبرر يمنع اتخاذ إجراءات سريعة جدا لتدارك الوضع، و في حدود الساعة التاسعة ليلا اجتمعت خلية الأزمة بكامل أعضائها تحت رئاسة رئيس الجمهورية، لتستمع لأخر التقارير الواردة من الداخلية و المندوبية العامة للمباحث و الأمن، التي كان على رأسها العميد مجذوب لكحل عياط(11)، ثم أخذ الرئيس الكلمة و قال : لم يعد هناك أدنى شك، إنها مؤامرة تحركها أياد خارجية، و لا يمكنني كرئيس مسئول على الأمة، أن أبقى مكتوف اليدين، بينما الجزائر تحترق لذلك قررت ما يلي :
1- إعلان حالة الحصار.
2- تكوين خلية عسكرية برئاسة مدير الديوان مهمتها، متابعة استقدام الوحدات القتالية للعاصمة.
3- تعيين اللواء عبد الله بلهوشات مسئول عن حالة الحصار في كامل التراب الوطني.
4- تعيين العميد نزار مسئول على حالة الحصار في الجزائر العاصمة.
بعد هذا الاجتماع، غادر الرئيس الشاذلي العاصمة، متجها نحو الإقامة الرئاسية في زرالدة.
شكل العميد خالد نزار، هيئة أركان خاصة بتسيير حالة الحصار، و جعل من قيادة القوات البرية بعين نعجة مقرا لها، بينما أنتقل هو ليلا إلى مقر رئاسة الجمهورية، لتنسيق العمل مع مدير ديوان رئيس الجمهورية، و وضع خطة لاستقدام وحدات من داخل البلاد (12).
اتفق العميد بلخير و العميد نزار على استقدام 10 ألاف عسكري (أي ما يعادل فرقة كاملة) و حوالي 200 آلية من دبابات و عربات مصفحة، لتأمين العاصمة كاملة، و تم وضع نقاط تمركز وحدات الجيش، و حددت بدقة الوحدات التي يمكن استقدامها للعاصمة، و على رأسها القوات الخاصة، و لم يبقى إلا كيفية نقل هذه القوات لتكون في العاصمة صباح يوم 06 أكتوبر (13). 
أمام عدم مقدرة طائرات النقل العسكرية، تغطية عملية كبيرة كهذه، اقترح العميد نزار الاستعانة بطائرات الخطوط الجوية الجزائرية، كإجراء استعجالي تخوله الصلاحيات الخاصة، التي منحها الرئيس الشاذلي للجنة تسيير حالة الحصار.  اتصل العميد العربي بلخير، بوزير النقل السيد رشيد بن يلس، و طلب منه أن يضع كل طائرات الخطوط الجوية الجزائرية تحت تصرف وزارة الدفاع، لنقل وحدات من الجيش نحو العاصمة، حتى و لو تطلب ذلك إلغاء بعض أو كل الرحلات الداخلية، و حتى الرحلات الدولية إذا تطلب الأمر ذلك، و كان السيد محمد الشريف مساعدية، قد اتصل ببن يلس قبل أن يتصل به العميد بلخير، ليعلمه أن خلية الأزمة قررت إعلان حالة الحصار، نظرا للوضعية الخطيرة التي آلت إليها الأوضاع الأمنية، فاتصل وزير النقل بالمدير العام للخطوط الجوية الجزائرية، و أمره بإلغاء جميع الرحلات الداخلية، و تخفيض  عدد الرحلات الدولية، مع تحويل كل طائرات الخطوط الجوية الجزائرية، الناتجة عن هذا الإجراء و وضعها تحت تصرف قيادة الجيش، و بهذه الطريقة تمكنت قيادة الجيش المشرفة على تسيير حالة الحصار، من نقل الجنود من داخل البلاد للجزائر العاصمة، بينما تولت طائرات النقل العسكرية عملية نقل المعدات و الذخائر (14).
في هذه الحالة الشبيهة بالاستنفار العام، و التأهب العام، و الحذر الشديد لدخول المجهول، انتهى اليوم الأول من أحداث أكتوبر، و كبار المسئولين في الحزب و الجيش و الدولة، ساهرون في مكاتبهم، مصابون بالأرق من هول ما وقع و ما يقع، و متوجسون خيفة مما سيقع، فلا الرئيس الشاذلي غمض له جفن في إقامته بزرالدة، و لا الجماعة في رئاسة الجمهورية تفرقوا كعادتهم، و لم تنطفئ أضواء المكاتب لا في إقامة زرالدة، و لا في رئاسة الجمهورية، و لا في وزارة الدفاع و لا في وزارة الداخلية، و لا في المديرية العامة للأمن الوطني، و بقيت كل الهيئات الرسمية العسكرية و المدنية، تحبس أنفسها، لتستيقظ الجزائر في 06 أكتوبر على يوم جديد، سيغير تاريخ الجزائر المستقلة للأبد.

يتبع

الهوامش :
1- قال بعض المعارضين للنظام، أن أوامر سرية صدرت للشرطة بإخلاء المقرات، لذلك لم يظهر أي أثر للشرطة، أثناء وقوع الأحداث، بينما الحقيقة أن 70 بالمائة من قوات الشرطة، كانت منتشرة   في منطقة باش جراح و الرويبة أين بدأت المظاهرات منذ 01 أكتوبر 1988.
2- المصدر رسمي و أكده وزير النقل حينها رشيد بن يلس.
3- مصادر رسمية متعددة.
4- الهادي لخذيري : مجاهد و مناضل وطني، نائب المدير العام للامن الوطني من 1964 إلى 1977، ثم مدير عام الأمن الوطني من 1977 إلى 1987، ثم وزير الداخلية من 1987 إلى 1988، ثم وزير للنقل من 1988 إلى 1989.
5- عبد المجيد بوزبيد : مجاهد و إطار سامي و من مؤسسي سلك الشرطة، نائب مدير عام 1977 إلى 1987، ثم مدير عام للأمن الوطني من 1987 إلى 1989.
6- مصدر خاص.
7- مصدر خاص.
8- نفس المصدر السابق.
9- نفس المصدر السابق.
10-  رولان دوما : طبيب و صديق خاص للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران، شغل منصب وزير لخارجية فرنسا من 1984 إلى 1986 ثم من 1988 إلى 1993.
11- العميد مجذوب لكحل عياط: مجاهد و عسكري تولى قيادة الأمن العسكري من 1983 إلى 1988.
12-  راجع تصريحات اللواء خالد نزار حول أحداث أكتوبر.
13-  مصادر خاصة مختلفة.
14- المعلومة أكدها وزير النقل حينها العميد رشيد بن يلس.

السبت، 5 أكتوبر 2024

احداث اكتوبر 1988 .. الجزء الثاني .. الكاتب براءة عبد الله

أحداث أكتوبر 1988
الجزء الثاني
ما قبل الكارثة
.
لو بقي الدكتور عميمور في مكتبه لما قصر في إيصال الحقيقة كما هي لمسامعي
الرئيس الشاذلي للعربي بلخير سبتمبر 1988.            
في 25 جويلية 1988، و على غير عادته، أدى الرئيس الشاذلي، صلاة عيد الأضحى في وهران، و لم يكن إلى جانبه غير بعض المسئولين المحليين، من بينهم والي ولاية وهران بغدادي لعلاونة (1)، و محافظ حزب جبهة التحرير بوهران محمد علي عمار (2)، بينما أدى صلاة العيد الشيخ عبد القادر الزوبير (3) ناظر الشؤون الدينية لولاية وهران.
بعد انقضاء العطلة الصيفية التحق الرئيس الشاذلي برئاسة الجمهورية، و كان أول ما فعله أنه استدعى مدير ديوانه، و أخذ يسأله عما يحدث في البلاد، و لم يخفي عليه مدى اندهاشه، من تردي الوضع المعيشي للشعب، و أنهى كلامه قائلا: أشعر أنني قد ارتكبت خطأ فادحا حين أنهيت مهامه مستشاري الإعلامي، لأنه لو كان لا يزال في مكتبه، لما قَصَرَ في إيصال الحقيقة كما هي لمسامعي، حتى و لم يعجبني الأمر، أحيانا نحتاج لمن يواجهنا بالحقيقة، لا لمن يبني لنا جنة من سراب (4).
 في 08 سبتمبر 1988، عقد أول اجتماع لمجلس الوزراء اثر الدخول الاجتماعي، بعد عطلة دامت 3 أشهر، و كانت الكثير من الملفات تنتظر أن يبث فيها المجلس، لكن على غير العادة تجاهل الرئيس بن جديد جدول الأعمال، و تكلم مطولا على قضية رشيد موحوش (5) الذي وُرِطَ ابنه توفيق فيها، و هو لا علاقة له بها أصلا، و تكلم مطولا عن الإشاعات التي قالت أن ابنه توفيق، تم تهريبه على متن الطائرة الرئاسية، إلى عاصمة فنزويلا مدينة كاراكاس، أين استقبله سفير الجزائر و ابن عم الرئيس سليمان بن جديد (6)، و أصر الرئيس الشاذلي في حديثه على أنه يتعرض لمؤامرة حقيقية و كبرى، الغرض منها ضربه هو شخصيا، و من خلاله الدولة الجزائرية ككل، ثم توجه للوزراء ليلومهم جميعا و بدون أي استثناء، على ما اعتبره تقصيرا في أداء واجبهم السياسي و الوظيفي، و انفض اجتماع مجلس الوزراء و كل وزير يتساءل عن ما حدث للرئيس، و ما يدور في ذهنه و كأنه سحب الثقة من الحكومة دون أن يقولها صراحة.
على مستوى ديوان رئاسة الجمهورية؛ بدأ العميد بلخير يجري خطوات ملموسة، لتدارك الموقف و خنق الإشاعات التي كانت تنهش الرئيس الشاذلي و أفراد عائلته، فقام بإصدار تعليمات صارمة لوسائل الإعلام قصد التكتم، و التوقف عن الخوض في قضية البنك الخارجي الجزائري و رشيد موحوش، بحجة أنها لا تزال طور التحقيق، بينما بدأ الأمين العام للرئاسة مولود حمروش، يعد لاجتماع الندوة الوطنية لإطارات الأمة، التي حدد لها الـ19 من سبتمبر 1988 كتاريخ لانعقادها في قصر الأمم بنادي الصنوبر. 
لأسباب مجهولة، أرسلت الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، دعوات الحضور للندوة الوطنية لإطارات الأمة، 48 ساعة فقط قبل التاريخ المحدد لاجتماعها (7)، حتى أعضاء المكتب السياسي و أعضاء الحكومة، استلموا دعوات الحضور 24 ساعة فقط قبل التاريخ المحدد، مما جعل أغلبية كبار المسئولين في الحزب و الدولة تساءلوا : كيف يعقد اجتماع بهذه الأهمية و بهذه الدرجة من التمثيل بدون علمهم؟ و حين وجهوا السؤال للعميد بلخير قال لهم بالحرف : لقد أصبح في رئاسة الجمهورية شخص أخر يحضا بثقة الرئيس في إشارة واضحة لمولود حمروش، الذي أصبح من أقرب المقربين للرئيس الشاذلي، و أمينه العام لرئاسة الجمهورية منذ 1986.
شارك في الندوة الوطنية لإطارات الدولة، عدد هائل من المسئولين ،فقد كان حاضرا فيها، أعضاء المكتب السياسي، و الحكومة، و أعضاء اللجنة المركزية للحزب، و أعضاء المجلس الشعبي الوطني، و قيادات الجيش، و أعضاء المجالس التنفيذية الولائية التي كانت متكونة من الوالي و محافظ الحزب و قائد القطاع العسكري. 
و على غير عادته أيضا اتجه الرئيس بن جديد، إلى قصر الأمم وحيدا في سيارته، و لم يصطحب معه أي مسئول، و كأنه يريد أن يبين للجميع أنهم خدعوه و خانوه و كذبوا عليه و لم يعد يثق فيهم (8).
كان الساعة تقارب العاشرة، صباح التاسع عشر من سبتمبر عام 1988، عندما صعد الرئيس الشاذلي بن جديد وحيدا لمنصة قاعة المؤتمرات بقصر الأمم، ليلقي خطابا مرتجلا على مسامع قاعة ضخمة، امتلأت عن أخرها بمسئولين من كل مستويات السلطة التنفيذية و الحزبية و العسكرية، ليفتتح خطابه قائلا : أن قلبه ممتلئ و يكاد ينفجر، و أخذت حدة الخطاب تزيد و تشتد حين بدأ الرئيس في قصف كل الجهات الرسمية، من حكومة و حزب و سلطات محلية، و لم يستثني من انتقاداته اللاذعة إلا الجيش الوطني الشعبي، حتى أن السيد محمد الشريف مساعدية، استدار لمن كان جالسا على جانبه و قال له ممازحا : الظاهر أن سي الشاذلي لم يشرب قهوته اليوم. 
و زاد الرئيس الشاذلي، من حدة خطابه حين بدأ صوته يرتفع و يوجه كلاما قاسيا جدا، لمسيري المؤسسات الاقتصادية العمومية منها و الخاصة، ليحملهم جزء كبير من مسئولية ندرة المواد الأساسية، و ليتهم جهات لم يفصح عنها بالمضاربة، فاتحا النار أيضا على أجهزة الرقابة المركزية و المحلية متهما إياها بالتقاعس و الفشل الذريع في أداء مهامها، و بلغ الأمر ذروته حين انتقل الرئيس بن جديد في خضم خطابه ليتوجه مباشرة للشعب ليطلب منهم و بصفة مباشرة مقاطعة المنتجات التي غلا سعرها مثل اللحم، حيث قال بالحرف و بلغة ممتزجة بين الفصحى و العامية : (في أحد الدول العربية لا أذكر الاسم ارتفع سعر اللحم،  فقاطعه الشعب ما ماتوش لكن بهذه الطريقة نزل سعره).
كان خطاب 19 سبتمبر 1988 عنيفا جدا، و لم يسلم منه أي شخص و لم تسلم منه أي مؤسسة باستثناء مؤسسة الجيش كما سبق و أن وضحت، حتى الشعب حمله الرئيس نصيبه من المسئولية، و طلب منه التحرك و محاربة من يريدون استغلال ظروف البلاد و العباد للمضاربة و الاستغناء، و أتم الرئيس خطابه بأنه لم يعد يستطيع تحمل عبئ الأوضاع بمفرده، و أنه سيتخذ إجراءات ردعية صارمة ضد كل من فشلوا في أداء مهامهم، أو الذين لم يقوموا بواجبهم على الوجه الصحيح.
ترك الرئيس بن جديد منصة قاعة المؤتمرات، وسط تصفيقات جنونية لمسئولين تعرضوا للغسل، و أخذوا حماما باردا ليترك المكان بنفس الطريقة التي جاء بها وحيدا و دون أن يرافقه أي مسئول.
لقد كان لخطاب 19 سبتمبر 1988 ، وقعا مدويا داخل دواليب السلطة، فكل المسئولين الذي حضروا اللقاء بدؤوا يتساءلون فيما بينهم عن ما يحدث ؟ وزير النقل العميد رشيد بن يلس اتجه مباشرة إلى العميد العربي بلخير و قال له باللغة الفرنسية : (mouche a piqué le président ??  Quelle) بينما أخذ جزء أخر من كبار إطارات الحزب و الدول،ة يقولون أن الرئيس مقبل على حملة تغييرات جذرية، ستقلب البلاد رأسا على عقب. 
لم يخفي وزير النقل العميد رشيد بن يلس، امتعاضه مما جاء في خطاب الرئيس الشاذلي، ، و بما أنه جاء لقصر الأمم في نفس السيارة التي داء فيها العميد العربي بلخير، استغل الفرصة عودته مع العربي بلخير، ليسر لمدير ديوان الرئاسة، أن خطاب الرئيس خطير جدا ، و سيكون له انعكاسات سلبية و خطيرة، على عموم الدولة و الشعب، و طلب عدم بث الخطاب بالصيغة التي هو عليها، أو عن الأقل حذف منه بعض الأجزاء التي قد يساء فهمها و تفسيرها، العميد بلخير رد على بن يلس أنه لم يعد يحضا بثقة الرئيس، و أن في الرئاسة سيد جديد هو مولود حمروش، لكنه وعد بن يلس، أنه سيطرح الأمر على حمروش متى التقاه في رئاسة الجمهورية (9).
عند عودته لرئاسة الجمهورية، أعرب العميد بلخير لمولود حمروش، عن قلق كبار المسئولين في الحزب و الدولة، مما جاء في خطاب الرئيس، و أكد أن الخطاب إذا ما بث كاملا فسيكون له انعكاسات خطيرة جدا على البلاد، خصوصا و أنها (أي البلاد عامة) تجتاز فترة صعبة جدا زادتها الأزمة الاقتصادية تعقيدا، فلماذا نزيد على كل ذلك أزمة سياسية بين أجهزة الحزب و الدولة و نحن في غنى عنها؟؟؟ و طلب منه بتر بعض الأجزاء من الخطاب، قبل بثه في نشرة الثامنة. حمروش المعروف بطبعه الحاد، لم يولي أي أهمية لما قاله بلخير، و رد عليه بأسلوب جاف و هو يحذق له في عينيه: خطاب الرئيس لا يمكن أن يتعرض للقص، و ترك بلخير واقفا و ذهب لحال سبيله (10).
عند تمام الساعة الثامنة مساء الـ19 من سبتمبر 1988، قامت مؤسسة التلفزيون الجزائرية، ببث خطاب الرئيس كاملا بدون أن تحذف منه حرفا واحدا، و استمع كافة الشعب لخطاب ناري ألقاه الرئيس، ليزيد الوضع ضبابية و تعقيدا، لقد كان لذلك الخطاب وقعا مدمرا على كافة الأمة، فتقريبا طلب رئيس الدولة من عامة الشعب الخروج للشوارع، و التمرد على سلطة لم تعد تقوم بمهامها، علينا هنا أن نسجل أن الرئيس الشاذلي بن جديد توجه لإطارات الأمة في 19 سبتمبر 1988 تحت تأثير أربع قضايا محورية هي :
الأولى : الأزمة السياسية الخانقة مع فرنسا.
الثانية: الأزمة الاقتصادية و عجز الدولة عن توفير الحد الأدنى من المواد الأساسية للشعب.
الثالثة : اللقاءات التي جمعت الرئيس بالشعب خلال تنقلاته منفردا إلى الحدود الغربية حيث اطلع بنفسه على الواقع المر الذي كان يعيشه المواطن البسيط، و كان لذلك تأثير خاص عليه.
الرابعة:  رشيد موحوش الذي ورط ابنه توفيق في قضية اختلاس لا علاقة له بها أصلا.
كل هذه المعطيات أكدت للرئيس بن جديد، أنه عرضة لمؤامرة منظمة و كبيرة، الهدف منها ضربه هو، و من خلاله ضرب البلاد قاطبة، و قد أشار بذلك خلال اجتماع مجلس الوزراء، الذي عقده مباشرة بعد الدخول الاجتماعي.
بدلا من أن تقوم وزارة الإعلام، بتخفيض شدة الغليان بأن توجه الصحافة و التلفزة، نحن قضايا أخرى تشغل عامة الشعب، عما جاء في خطاب الرئيس، قامت بإعادة بث الخطاب لمدة قاربت الأسبوع، كما نظمت التلفزة، موائد مستدير حول ما جاء في ذلك الخطاب لتزيد من الغليان و الاضطرابات الشعبية، كان من الممكن تفاديها، لو اتخذت السلطان خطوات تهدئة حقيقية و ملموسة، لتدارك الوضع قبل انفجاره، خصوصا و أن كل المعطيات كانت تؤكد أن الوضع مقبل على انفجار قريب.
في خضم ذلك المخاض العسير، و نتيجة لأخبار مغلوطة، و كاذبة قادمة من ايطاليا (11)، قرر الرئيس الشاذلي بن جديد، في نهاية عام 1987، بموجب أمرية رئاسية موجه لرئيس أركان الجيش الوطني الشعبي، اللواء عبد الله بلهوشات (12)، إخلاء العاصمة تماما من جميع الوحدات القتالية، التابعة للجيش الوطني الشعبي، باستثناء تلك الخاصة بالحرس الجمهوري، و بعض الهيئات القيادية للجيش، التي لا يمكن إخلائها من العاصمة، مثل وزارة الدفاع الوطني، و قيادة الأركان، و قيادة القوات، و الفرق الإقليمية للدرك الوطني، فبموجب هذه الأمرية، قامت قيادة القوات البرية (13)، بإخلاء الكثير من الثكنات، و سلمتها لولاية الجزائر، التي بدورها قامت بتوزيعها على الوزارات حسب متطلبات و احتياجات كل وزارة، فبين عشية و ضحاها صارت مدينة الجزائر، شبه فارغة من أي تواجد عسكري، اللهم بعض المنشآت التي سبق و أن حَدَدْتُ طبيعتها أعلاه.
ثم جاءت سنة 1988 بما فيها من مشاكل و قلاقل، فهذه السنة (أي 1988) كانت الموعد الذي حدده الحزب الحاكم (حزب جبهة التحرير الوطني) لعقد مؤتمره السادس، حيث قام الرئيس بن جديد في 02 فبراير 1988 ، بتشكيل اللجنة الوطنية لتحضير مؤتمر الحزب، و عُيِنَ السيد محمد الشريف مساعدية (14) رئيسا لها، و السيد عبد الحميد الإبراهيمي (15) نائبا له، و السيد مولود حمروش مقررا لها. الغريب انه بعد تنصيب هذه اللجنة بوقت يسير جدا، انتشرت أخبار مغرضة مفادها أن قيادة الحزب تسعى لسحب البساط من تحت أقدام الرئيس، و أن قيادة الحزب تخطط سرا لعزله أثناء المؤتمر، و ترشيح شخص أخر، لمنصب الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، الذي سيصبح تلقائيا مرشحا وحيدا لمنصب رئيس الجمهورية (16)،  ثم جاءت أزمة صيف 1988، التي سبق و أن تكلمنا عنها، و قضية رشيد موحوش، ثم خطاب 19 سبتمبر، الذي كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، فبدأت الجزائر تغلي، و الإشاعات يروج لها من كل حدب و صوب.
ليبدأ العد التنازلي لتلك الأحداث الدامية، و تبدأ الأمور تتجه سرعة متناهية نحو الانفجار، ففي 27 سبتمبر 1988 كان طيارو الخطوط الجوية الجزائرية، أول فئة من العمال تدشن سلسلة الإضرابات عن العمل، التي ستسوق البلاد نحو جو من الفوضى لم يشد لها مثيل، و قد توقف هذا الإضراب بعد تدخل وزير النقل السيد رشيد بن يلس، و وعده برفع أجور الطيارون لتعود الحياة للخطوط الجوية الجزائرية، التي شلت تماما لمدة يومان (27 و 28 سبتمبر 1988).
ثم في 28 سبتمبر، أي في نفس اليوم الذي أوقف فيه الطيارون، إضرابهم عن العمل ، عقدت نقابة مؤسسة صناعة السيارات سوناكوم، لقاء نددت فيه بالفساد و المحسوبية و دعت لإضراب عام و مفتوح (كان مركب الرويبة يضم أكثر من 8 ألاف عامل)، و الغريب أن مركزية الاتحاد العام للعمال الجزائريين (كان على رأسه السيد الطيب بلخضر)( 17)، لم تتحرك لتمتص ذلك الغضب العمالي، و حتى وزير الصناعات الثقيلة السيد فيصل بوذراع (18)، لم يتحرك بنفس السرعة و الحكمة التي تحرك بها وزير النقل، لينتقل الإضراب إلى الحراش حيث دخل عمال نفس المؤسسة، في إضراب مفتوح عن العمل تضامنا مع زملائهم في الرويبة، و بدلا من تضيق الخناق على الإضراب، تركوه يتوسع ليصل الحراش المعروفة بطابعها المتشدد، ثم جاء دور سعات البريد الذين دخلوا هم أيضا في إضراب مفتوح ابتداء من الفاتح من أكتوبر 1988، و بالموازاة مع ذلك، أضرب تلاميذ الطور الثانوي في جميع ثانويات الحراش عن الدراسة، و خرجوا في مظاهرات ليلتحق بهم العاطلين عن العمل ،و يتحول الوضع إلى مستنقع من الفوضى، و كثر الحديث عن قرب قام ثورة شعبية، ستقضي على الفساد و المفسدين، و لم تتعامل مصالح الأمن المختصة (الاستعلامات العامة على وجه الخصوص) مع هذه الوضعية التي اعتبرتها مجرد إشاعات و قلاقل ستتلاشى سريعا، و الأغرب من ذلك كله أن الرئيس الشاذلي، الذي كانت تصله تقارير مفصلة بكل ما يحدث، لم يدرك أن نظامه في مواجهة إعصار سيأتي على الأخضر و اليابس، و بالرغم من كل التقارير التي رفعت له، لم يعر للوضع أي اهتمام، معتبرا ذلك مجرد أزمة عابرة، أو عن الأقل هكذا سوق له بعض المقربين الوضع العام للبلاد.

 يتبع

الهوامش :
1- بغدادي لعلاونة : مجاهد و إطار سابق في الإدارة المحلية، والي ولاية وهران من 1987 إلى 1988.
2- محمد علي عمار: مجاهد و إطار حزبي شغل منصب محافظ للحزب في وهران من 1986 إلى 1988.
3- الشيخ عبد القادر الزوبير : إمام و فقيه جزائري معروف شغل منصب ناظر للشؤون الدينية لولاية وهران من 1980 إلى 1988.
4- مصدر خاص.
5- قضية رشيد موحوش : هي قضية اختلاس للمال العام، هزت الجزائر ما بين 1987 إلى 1988.
6- سليمان بن جديد: ابن عم الرئيس الشاذلي، شغل منصب مدير عام للخطوط الجوية الجزائرية من 1983 إلى 1987، و سفير الجزائر في فنزويلا من 1988 إلى 1990.
7- المصدر وزير النقل رشيد بن يلس.
8- مصدر خاص.
9- وزير النقل رشيد بن يلس.
10-  مصدر خاص.
11-  مصادر مختلفة و مطلعة أفادت أن رئيس وزراء ايطاليا راسل الرئيس الشاذلي و أبلغه أن هناك مؤامرة للإطاحة به.
12- اللواء عبد الله بلهوشات : نائب وزير الدفاع و رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي من 1986 إلى 1988.
13-  أشرف على هذه العملية العميد خالد نزار قائد القوات البرية من 1987 إلى 1988.
14- محمد الشريف مساعدية: مسئول الأمانة الدائمة للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني من 1982 إلى 1988.
15-  عبد الحميد الإبراهيمي : الوزير الأول من 1984 إلى 1988.
16- مصدر خاص.
17-  الطيب بلخضر : الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين من 1982 إلى 1990.
18-  فيصل بوذراع : وزير الصناعات الثقيلة من 1986 إلى 1988.
ملاحظة : بالنسبة للمصادر الخاصة، في كثير من الأحيان يمتنع بعض المصادر عن تحديد هويتهم لأسباب كثيرة لذلك أكتفي بتحديد المصدر على أنه مصدر خاص.

الجمعة، 4 أكتوبر 2024

احداث اكتوبر 1988.. الجزء الاول .. الاستاذ براء عبد الله

أحداث أكتوبر 1988 
الجزء الأول
الطريق نحو الكارثة
.
واهم من يظن أن حربنا مع فرنسا الاستعمارية انتهت في 05 جويلية 1962 ،حين علا علم الجزائر المستقلة ليرفرف شامخا فوق الرؤوس، والحقيقة أن حربا جديدة بدأ سعيرها يشتد ليصل ذروته في فترة حكم الرئيس هواري بومدين رحمه الله، الذي لم يفوت لفرنسااي مناسبة إلا و أصابها في الصميم، فبدأ باستعادة القاعدة البحرية بالمرسى الكبير عام 1966،  مرورا بسلسلة التأميمات التي كلفت فرنسا خسائر فادحة يصعب حصرها بالتدقيق، وصولا لملف التعريب الذي أراد من خلاله أن يقطع أخر حبل بين فرنسا و الجزائر، إلا أنه أجرى خطوة واحدة للخلف عام 1977، في انتظار حل نزاع الصحراء الغربية، ليتفرغ بعدها ثانية، لملف فك الارتباط مع فرنسا، إلا أن المنية وافته فلم يكمل ما بدأه، و انتقل لجوار ربه إثر إصابته بداء خطير و غريب، قضى عليه في لمح البصر.
 بعد وفاة الرئيس هواري بومدين، استلم العقيد الشاذلي بن جديد رحمه الله، مقاليد الحكم في الجزائر حاول قدر جهده تهدئة الأجواء بين الدولتين، فقام بأول زيارة رسمية لرئيس جزائري لفرنسا، و فتح المجال للشركات الفرنسية للعودة قصد الاستثمار في الجزائر، و سعى جاهدا لبناء جسر حوار حقيقي، و فعال بين البلدين، و رغم محاولات التهدئة التي انتهجها الرئيس الشاذلي، لامتصاص الغضب الرسمي الفرنسي،  إلا أن الحرب بقيت مشتعلة في الكواليس، و انتهت باحتراق بن جديد، ثم ليصل لهب هذا الصراع الجزائر الفرنسي للجزائر نفسها، فدخلت البلاد في عشرية سوداء، أتت على الأخضر و اليابس.
لقد كان لفرنسا، دور شنيعا في كثير من الأحداث المأساوية، التي عاشتها الجزائر، فعلى سبيل المثال، حين انهارت أسعار البترول عام 1986 ، و فقدت الجزائر أكثر من ثلثي مداخيلها من العملة الصعبة، مما تسبب في أزمة مالية خانقة، جعلت حكومة عبد الحميد الإبراهيمي رحمه الله، عاجزة حتى على توفير المواد الأساسية للمواطن الجزائري، و صار لزاما على الدولة ككل، أن تتخذ إجراءات صارمة لإعادة التوازن للاقتصاد الوطني، الذي أصبح مهددا بالانهيار، اجتمع المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني، بصفته أعلى هيئة سياسية تملك صلاحية اتخاذ القرار في جميع شؤون الدولة،  خلال هذا الاجتماع الساخن، الذي وجه فيه الرئيس الشاذلي انتقادات لاذعة للوزير الأول، و لمسئول الحزب و نعت الحكومة و الحزب، بأنهما أجهزة عاجزة، و فاشلة و غير قادرة على توفير أدنى شروط المعيشة الطيبة للمواطن البسيط، تقرر مراسلة فرنسا قصد إعادة النظر، في سعر الغاز الطبيعي الذي تصدره لها الجزائر، كإجراء أولي سيرفع من مداخيل البلاد من العملة الصعبة، مما سيعطي للدولة متنفسا يمكنها من تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية،  إلا إن فرنسا رفضت الطلب و كان رد حكومتها على الطلب الجزائري، أن سعر الغاز الجزائري الموجه لفرنسا موافق تماما للسعر المعمول به عالميا، و عليه لا مجال للزيادة في الأسعار.
بعد تلقي الحكومة الجزائرية للرد الفرنسي الرافض لإعادة النظر في أسعار الغاز الجزائري، قررت الحكومة الجزائرية لرد فعل عكسي، تقليل الاستيراد من فرنسا، و وجهت الوزارة الأولى تعليمة لجميع الشركات الوطنية تأمر فيها مقاطعة تامة للمنتجات الفرنسية، فما كان من مديري الشركات الوطنية إلا تطبيق تعليمة الوزارة الأولى حرفيا، و امتنعوا كليا عن شراء المنتجات الفرنسية، و استبدلوها بمنتجات من ايطاليا و اسبانيا و ألمانيا، إلا أن الحكومة الفرنسية بقيت مصرة على موقفها، و رفضت فتح الحوار قصد إعادة النظر في سعر الغاز الطبيعي الجزائري. 
تحت وقع الديون الأجنبية، و شح العملة الصعبة، و الرفض الفرنسي بإعادة النظر في أسعر الغاز الطبيعي، قررت الحكومة الجزائرية توجيه ضربة أخرى للضغط أكثر على فرنسا، فقامت بإلغاء النشرات الإخبارية الناطقة باللغة الفرنسية، التي كانت تبثها القناة التلفزيونية الجزائرية (لاحظوا أن بوتفليقة أعادها، و صارت تبث من جديد 25 سنة بعد ذلك) كما قررت الحكومة الجزائرية تخفيض مهول لعدد ساعات دراسة اللغة الفرنسية في جميع المدارس و المتوسطات و الثانويات، كما أخرجت قانون تعميم التعريب من جديد، و بدأت تلوح بضرورة إكمال ما بدأه الرئيس هواري بومدين رحمه الله، في مجال التعريب في إشارة واضحة و جديدة، أن الهدف هو إرغام فرنسا على قبول إعادة النظر في سعر الغاز. حاولت الحكومة الجزائر هذه المرة، أن تضرب على الوتر الحساس، الذي لا تساوم عليه فرنسا، و لا تحب اللعب عليه (اللغة الفرنسية)، إلا أن الحكومة الفرنسية حافظت على خط سيرها الرافض لأي ضغط جزائري.
بعد فشل الحكومة في إرغام الجانب الفرنسي، على قبول طلب إعادة النظر في سعر الغاز، لم يبقى في يد الحكومة الجزائرية أي خيار أخر، سوى قطع التموين على فرنسا، و فسخ المعاهدة التي تربط البلدين فيما يخص تموينها بالغاز الطبيعي الجزائري، إلا أن قرار كهذا، لم يكن لتتخذه الحكومة الجزائرية، دون أن تحسب نتائجه على المدى القصير و المتوسط و البعيد، كما يجب دراسة انعكاسات هذا القرار على جميع شركاء الجزائر التي تمونهم بالغاز الطبيعي، لذلك قرر الرئيس بن جديد، تشكيل لجنة عمل تضم:
1-  الوزير الأول عبد الحميد الابراهيمي.
2- وزير الطاقة بلقاسم نابي.
3-  وزير التجارة محند أمقران شريفي.
4-  وزير الخارجية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي.
5- وزير النقل رشيد بن يلس.
6- و مدير ديوان الرئاسة العميد العربي بلخير 
كانت مهمة هذه اللجنة، إيجاد حل يجبر فرنسا على قبول المقترح الجزائري الخاص بإعادة النظر في سعر الغاز. 
لم تجتمع هذه اللجنة إلا مرة واحدة فقط، لم تجتمع بعدها أبدا، حيث اقترح أحد أعضائها فكرة تصيب فرنسا في مقتل حيث قال: إن فرنسا دولة تكره أن تمس لغتها و ثقافتها من أي كان،  فإذا قمنا بغلق الثانويات الفرنسية في الجزائر (وهران، الجزائر و عنابة) فإنها ستعي أن الجزائر تسير في طريق يخرجها عن دائرة الفرنكوفونية، و بالتالي ستفقد فرنسا دولة كانت للغة و للثقافة الفرنسية مكانة مرموقة فيها، دار نقاش حاد بين أعضاء اللجنة، و انتهى بهم الأمر لرفع المقترح للرئيس الشاذلي قصد البث فيه. 
و في 30 جوان 1988 (و بدون علم أغلبية أعضاء اللجنة السابقة الذكر) راسلت الخارجية الجزائرية، نظيرتها الفرنسية لتعلمها أن الجزائر قررت غلق الثانويات الفرنسية الثلاثة الموجودة في الجزائر، لقد كان لهذا القرار وقع قنبلة نووية في الأواسط الحكومة الفرنسية، التي اعتبرت القرار الجزائري انتهاك واضح و صارخ و مباشر، لكل شيء له صلة بالثقافة و الهوية الفرنكوفونية.
في نفس اليوم الذي أبلغت فيه الخارجية الجزائرية نظيرتها الفرنسية (30 جوان 1988 ) أن الدولة الجزائرية قررت غلق الثانويات الفرنسية، في كل من الجزائر العاصمة و وهران و عنابة، مع تحويل المقرات إلى صاحبها الأصلي (وزارة التربية الوطنية الجزائرية) انعقدت دورة استثنائية للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، لدراسة نقطة واحدة فقط مدرجة في جدول الأعمال هي : ملف الوحدة مع ليبيا، المشروع الذي وزع على كامل أعضاء اللجنة المركزية و الذي كان يتكون من 164 صفحة من ضمنها مشروع دستور الإتحاد بين الجزائر و ليبيا يتكون من34 صفحة و يضم 90 مادة تحدد تنظيم و سير مؤسسات الوحدة بين الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية و الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، و جاء في مداخلة الشاذلي بن جديد الأمين العام للحزب الحاكم (حزب جبهة التحرير الوطني)، أنه تم الاتفاق مع الطرف الليبي، على تنظيم استفتاء في كل من الجزائر و ليبيا بعد الدخول الاجتماعي في شهر سبتمبر 1988 دون أن يحدد تاريخ بعينه، و اكتفى بالقول أن الإخوة الليبيين مستعدون لمنح الجزائر رئاسة هذه الدولة الاتحادية، كما إنهم مستعدون ليشغل الجزائريون المناصب السيادية، في الدولة الجديدة متى جرى الاتحاد بين البلدين. 
لقد كان لهذا الخبر وقع قنبلة نووية ثانية هزت أركان فرنسا، فباريس التي كانت تمارس ضغوطات مهولة، و تتماطل في تمويل الجزائر (عن طريق نادي باريس) بالقروض الضرورية لسير اقتصادها، استشعرت أن مصالحها أصبحت مهددة، فالجماهيرية الليبية دولة تمتلك موارد مالية ضخمة لو أضيفت إليها القدرات الاقتصادية و البشرية الجزائرية فإنها ستنتج عملاقا، يمكن أن يتسبب في اختلال التوازن بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، و قد غدت المخاوف الفرنسية القروض التي قدمها العقيد معمر القذافي قبل ذلك للجزائر بقيمة 100 مليون دولار ثم تبعه بقرض ثان بنفس القيمة و قرض ثالث بنفس القيمة أيضا، دون أن يحدد تاريخ للسداد و لا أن يشترط أي شيء مقابل ما قدمه من مساعدات مالية للجزائر، كما قام العقيد القذافي بفتح ليبيا للشركات الوطنية الجزائرية الراغبة في دخول المناقصات الدولية الليبية. و ما زاد مخاوف الغرب من هذا الاتحاد بين الدولتين هو طابعا العربي الإسلامي، ففي المادة الخامسة من مشروع دستور الاتحاد بين البلدين، جاء أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في دول الاتحاد، و في المادة السادسة جاء : أن الإسلام هو دين دول الاتحاد، و هو مصدر من المصادر الأساسية للتشريع فيها، فهل كانت فرنسا و دول أوروبا المطلة على البحر الأبيض المتوسط، مستعدة لقيام دولة إسلامية في الجهة الجنوبية المقابل لها من البحر الأبيض المتوسط ؟ طبعا لا. 
جاء أيضا في المادة العاشر من مشروع الدستور : أن الاتحاد مفتوح لكل الدول العربية، و لا يشترط فيه تجانس التنظيم السياسي و الاجتماعي الداخلي لكل قطر ، بمعنى أن الاتحاد مفتوح لأي دولة عربية مهما كان موقعها الجغرافي بعيدا عن الجزائر و ليبيا و مهما كان نظامها السياسي ملكيا أو جمهوري، مما كان سيعطي بعدا استراتيجيا للاتحاد الذي كان ستنظم له بدون أدنى شك كل من تونس و موريتانيا، مما كان سيزيد من قوة تلك الدولة لو كتب لها أن ترى النور. 
لم تتوانى الصحف الفرنسية، و من خلالها الإعلام الفرنسي ككل، بمهاجمة مشروع الوحدة بين الجزائر و ليبيا، و اعتبرت الصحافة الفرنسية هذا المشروع خطرا على المصالح الأوروبية في المنطقة، بحيث سيصعب التعامل مع إتحاد سياسي و اقتصادي يجمع دول المغرب العربي الخمسة، بما لها من موارد طبيعية و بشرية تمكنها من الاستغناء كليا عن القروض البنكية الأوروبية، مما سيعطي لهذه الدول مجالا للاستقلال في اتخاذ قراراتها السياسية، دون الخوف من ردود الفعل الأوروبية اقتصاديا.
في نفس هذه الفترة أنهى مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الاقتصادية (غازي حيدوسي) تقريره الخاص بإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني، الذي كلف بإعداده في بداية السنة، حيث أضاف (غازي حيدوسي) كلمة للتقرير لم يفهمها أي أحد حينها، قال غازي حيدوسي بالحرف : (إن أي إصلاح للاقتصاد الوطني غير ممكن في وجود حزب واحد، و إن أي إعادة هيكلة للاقتصاد ،لا يمكن أن تتم ما لم يفتح المجال للتعددية السياسية)، و بمجرد تقديمه للتقرير المذكور خرج غازي حيدوسي في عطلة، و لم يلتحق بمنصبه برئاسة الجمهورية حتى 06 أكتوبر 1988 أي 24 ساعة بعد الأحداث الدموية التي عاشتها الجزائر العاصمة حينها. 
ميز صائفة عام 1988 سخونة مرتفعة جدا، و خرج 90 بالمائة من كبار المسئولين في الحزب و الدولة في عطلتهم السنوية، بينما كانت الجزائر فوق فوهة بركان، لتنفجر قضية رشيد موحوش، و البنك الخارجي الجزائري و يتورط توفيق بن جديد في هذه القضية، التي هزت أركان الدولة، و أثرت سلبا على الرئيس بن جديد، الذي أخذ يستشعر الخطر المحدق به، و مع ذلك ترك الجزائر العاصمة و هي تغلي، و توجه للإقامة الرئاسية في بوسفر بوهران، لقضاء عطلته الصيفية التي استمرت حتى بداية شهر سبتمبر 1988، تاركا شؤون الرئاسة لمدير الديوان العميد العربي بلخير الذي أمسك بشؤون البلاد كاملة، خصوصا و أن الأمين العام لرئاسة الجمهورية مولود حمروش، خرج هو أيضا في عطلة صيفية، فلم يبقى في الرئاسة غير بلخير، الذي  لم يغادر منصب عمله خلال فترة الصيف كاملة.
اشتد حر الصيف و اشتد معها استياء الشعب، فقد اختفت تماما كل المواد الأساسية من المحلات و من أسواق الفلاح، كما ميز تلك الصائفة، الانقطاعات المتكررة و الطويلة للمياه الصالحة للشرب، فلا مياه متوفرة و لا زيت و لا سميد و لا بطاطا، و ما زاد الوضع تعقيدا هو الإشاعات التي انتشرت انتشار النار في الهشيم التي مفادها أن كل ما حدث و ما يحدث مقصود و مفتعل.
الرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله لم يكترث كثيرا للوضع القائم في البلاد، و بالرغم من الحالة المتردية للاقتصاد الوطني، و الإشاعات و الأزمة السياسية الخانقة مع فرنسا، أخذ انطلاقا من مقر إقامته ببوسفر بوهران يستقل سيارته الخاصة (سيارة بي أم دوبلفي) بدون سائق و بدون حراسة و لا يصطحب معه إلا ضابط التشريفات واحد، و يقوم بجولات للحدود الغربية قصد الوقوف بنفسه على مدى تقدم أشغال إعادة تهيئة مراكز العبور قصد إعادة فتح الحدود مع المملكة المغربية التي تقررت خلال مؤتمر القمة في زرالدة في 10 جوان 1988، كما كان يتوقف في الطريق ليتكلم مع الناس، و يستمع لانشغالاتهم بعيدا عن البروتوكول و الرسميات و الحرس الذين كانوا يمنعون أي شخص من الاقتراب منه. هذه العملية مكنت الرئيس بن جديد من معرفة الوضع الحقيقي للبلاد بعيدا عن التقارير الطويلة التي كان يجد عناء كبيرا في قراءتها و استيعاب كل ما فيها، لقد كان بن جديد رحمه الله، شخص عادي جدا يفضل الاستماع لمواطن بطريقة مباشرة فيفهم منه ما يشغل باله خير له من قراءة تقارير كاذبة تصور له الوضع على أن الجزائري يعيش في جنة، و إن هذه الزيارات التي قام بها الرئيس منفردا للحدود الغربية، و اختلاطه المباشر بالشعب بعيدا عن الرسميين، أعطت له صورة حقيقية للوضع، و سيكون لها وقعها خلال خطابه في 19 سبتمبر 1988.
يتبع


عرائس الحروب ..

عرائس الحرب أو "War Brides : لماذا تتخلى النساء عن شركائهن بسرعة ويتكيفن مع الجدد بسهولة؟ الحقيقة المدهشة وراء التكيف الأنثوي!" عر...