أحداث أكتوبر 1988
الجزء الثالث
الانفجار
.
لم يعد هناك أدنى شك، إنها مؤامرة تحركها أياد خارجية،
و لا يمكنني كرئيس مسئول على الأمة، أن أبقى مكتوف اليدين،
بينما الجزائر تحترق
الرئيس الشاذلي للعربي بلخير 05 أكتوبر 1988.
في صبيحة الخامس من أكتوبر عام 1988 ، انتشرت إشاعة مفادها أن إضراب عام سيشل مدينة الجزائر، غير أن مصالح الأمن في برقياتها الإخبارية اعتبرت ذلك مجرد زوبعة في فنجان، و لم تعر القيادة السياسية أي اهتمام لتلك الإشاعة (كانت الإشاعات في تلك الفترة كثيرة لدرجة أن الناس تعودوا عليها بل ألفوها).
بدأت الحياة تذب في شوارع العاصمة بصورة عادية جدا، لكن حدث في حدود الساعة العاشرة صباحا، أن مجموعة من المراهقين أخذوا يتجمعون في شارع ديدوش مراد (هنا بدأت أحداث أكتوبر في هذا الشارع بالذات، و ليس في باب الوادي كما قيل من قبل) و أخذوا يسبون و يشتمون عناصر الشرطة المتواجدة في عين المكان، و كان كلما اتجهت عناصر الشرطة لإلقاء القبض عليهم، يتبددون في الأزقة المتفرعة عن شارع ديدوش مراد و يختلطون بالمارة، فلا تفلح الشرطة في الإمساك بهم، و تكررت هذه العملية عدة مرات مما دفع برجال الشرطة إلى طلب الدعم من مديرية أمن الجزائر ، إلا أن مدير أمن العاصمة لم يستطع إرسال أي دعم يذكر، لأن قوات الشرطة كانت متمركزة في الحراش و الرويبة أين كانت المظاهرات و الإضرابات قد بدأت منذ 3 أيام خلت، و هذا هو السبب الحقيقي لخلو وسط العاصمة من الشرطة صبيحة الخامس من أكتوبر ، و لم يصدر أي أمر للشرطة بالانسحاب من الشوارع كما أشاع ذلك الكثير من المعارضين (1).
تطور الأمر بعدها حين أخذ الأطفال دون سن 14 سنة، يلتحقون بالمراهقين في نفس الشارع، ليكونوا أول رتل ضخم من المشاغبين، و هجموا على مقر وزارة النقل محاولين اقتحامها ، لكن عمال و موظفي الوزارة تمكنوا من صدهم و قاموا بإغلاق الوزارة، مخافة أن يكرر هؤلاء المراهقين عملية الاقتحام مرة أخرى (2).
أخذت الأمور تتطور شيئا فشيئا، بحيث انتقلت تلك الجحافل من المراهقين و الأطفال، ليضرموا النار في كل مؤسسة ترمز للدولة، انطلاقا من شارع ديدوش مراد وصولا لساحة صوفيا، ثم إنعرجو عبر شوارع وسط الجزائر، و هاجموا أسواق الفلاح و خربوها تماما، ثم أشعلوا النيران فيها.
امتدت أعمال الشغب لتصل ساحة أول ماي، حيث اقتحموا مقر وزارة الشباب و الرياضة و أحرقوها عن بكرة أبيها، و منها بدأت أعمال الشغب و العنف تنتشر في مدينة الجزائر لتصل بسرعة البرق إلى باب الوادي أين أقدم مجموعة من المراهقين على توقيف حافلة نقل عمومي، و انزلوا من فيها من ركاب ثم أحرقوها و قاموا برجم ولاية الجزائر و مقر المجلس الشعبي الوطني بالحجارة، لتعم الفوضى و الخوف العاصمة عن بكرة أبيها، و أمام هول ما حدث و سرعة انتشار الإشاعات أغلق التجار محلاتهم، مخافة أن تتعرض للتخريب و النهب، بينما عجزت مديرية أمن الجزائر على مواجهة كل تلك الحشود، لأنه لم يكن عندها ما يكفي من رجال شرطة، لتأمين العاصمة كلها، خصوصا و أن ثلاث أرباع قوات مكافحة الشغب، كانت متمركز في الرويبة و الحراش، فتطلب الأمر الاستعانة بجميع قوات الدرك الوطني الموجودة في العاصمة و ضواحيها، إلا إن تدخل الدرك لم يجدي أيضا (3).
في حدود الساعة الحادية عشر و نصف أُبْلِغَ رئيس الجمهورية بأن العاصمة تحترق، و عقد أول اجتماع أمني حضره زيادة على الرئيس الشاذلي، كل من مدير الديوان العربي بلخير، و وزير الداخلية الهادي لخذير (4).
الهادي لخذيري أبلغ الرئيس الشاذلي أن الوضع خطير جدا ، و أن المدير العام للأمن الوطني السيد عبد المجيد بوزبيد (5) عاجز تماما عن مواجهة الموقف، نظرا للعدد المهول من المراهقين و الأطفال الذين انتشروا في كل ربوع العاصمة، و أوحى للرئيس بأن الوضعية خطيرة جدا، و يجب اتخاذ إجراءات ردعية سريعة جدا لإعادة الأمن و الاستقرار، لذلك يجب استدعاء وحدات من الجيش، التي هي فقط بإمكانها إعادة الأمن العمومي لسابق حاله (6).
لم يتخذ الرئيس الشاذلي أي قرار ، و فضل استدعاء المكتب السياسي للاجتماع فورا قصد دراسة الوضع و الخروج بقرار جماعي، و فعلا اتصل العميد العربي بلخير مدير ديوان رئيس الجمهورية هاتفيا بجميع أعضاء المكتب السياسي، و أبلغهم أن رئيس الجمهورية قرر استدعاء المكتب السياسي للاجتماع في مقر الرئاسة عند تماما الساعة الواحدة من نفس اليوم.
كان المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني، أعلى هيئة سياسية في الدولة، فهو من جهة الهيئة التنفيذية للجنة المركزية للحزب، و من جهة أخرى هو مركز اتخاذ القرارات السياسية الهامة في البلاد، و كان يضم:
1- الشاذلي بن جديد رئيس الجمهورية، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني.
2- محمد الشريف مساعدية مسئول الأمانة الدائمة للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني.
3- رابح بيطاط رئيس المجلس الشعبي الوطني.
4- عبد الحميد الإبراهيمي الوزير الأول.
5- محمد بن أحمد عبد الغني وزير دولة لدى رئيس الجمهورية.
6- اللواء عبد الله بلهوشات نائب وزير الدفاع رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي.
7- الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير الشؤون الخارجية.
8- رشيد بن يلس وزير النقل.
9- قاصدي مرباح وزير الفلاحة و الصيد البحري..
10- بشير رويس وزير الإعلام.
11- بوعلام باقي وزير الشؤون الدينية.
12- بوعلام بن حمودة عضوا في المكتب السياسي (وزير المالية حتى عام 1986 و عين عام 86 مدير عام للمعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية الشاملة، حافظ على عضويته في المكتب السياسي).
13- محمد يعلى عضوا في المكتب السياسي (وزير الداخلية خلفه الهادي لخذيري في منصبه عام 1987 و حافظ على عضويته في المكتب السياسي).
اجتمع المكتب السياسي بحضور جميع أعضاءه باستثناء وزير الشؤون الخارجية أحمد طالب الإبراهيمي، الذي كان في نيويورك لتمثيل الجزائر في الجمعية العامة للأمم المتحدة، و نظرا للوضعية الاستثنائية التي كانت تعيشها البلاد، استدعي وزير الداخلية الهادي لخذيري، ليقدم تقريره عن الوضع الأمني العام، كما شارك إلى جانبه مدير ديوان رئاسة الجمهورية العميد العربي بلخير.
وسط جو ثقيل جدا، افتتح الرئيس الشاذلي جلسة المكتب السياسي، و علامات الغضب بادية على وجهه، و دون إطالة أحال الكلمة للهادي لخذيري ليقدم تقريره، قدم الهادي لخذيري عرض حال كارثي عن الوضع، و هو شبه منهار و الدموع تملئ عيناه، بحيث صور الوضعية العامة، و كأن مدينة الجزائر العاصمة على وشك الانهيار، و أضاف أن أعمال التخريب قد بلغت حدا لم تستطع قوات الأمن العمومي، من شرطة و وحدات جمهورية للأمن السيطرة عليها، و بدون لف و لا دوران طلب مباشرة من رئيس الجمهورية، استدعاء الجيش ليتولى مهمة إعادة الأمن العمومي لسابق حاله، و أضاف أن الجيش وحده بإمكانه القضاء على حالة الفوضى، التي عمت كل أرجاء العاصمة، قبل أن تمتد لجهات أخرى من الوطن، و أنهى تقريره مؤكدا أنه متأكد من أن هذه الأحداث، تحركها قوى خارجية دون أن يحدد طبيعتها (7).
عم الصمت أرجاء قاعة الاجتماع، و أخذ أعضاء المكتب السياسي ينضرون إلى بعضهم البعض، فكان وزير النقل العميد رشيد بن يلس أول من تدخل، ليشكك في أن تكون خلف هذه الأحداث أياد خارجية، إلا أن العميد بلخير قاطعه ليؤكد كل الكلام الذي قاله وزير الداخلية، و قال أن مصالح الأمن تعمل بكل قوة و سوف تقدم لنا الدليل على أن هذه الأحداث تحركها فعلا قوى أجنبية، و ذكر بأن فرنسا لا تزال لم تهضم قضية استعادة الثانويات الفرنسية، كما أكد أن الغرب عموما و فرنسا خصوصا، ضد أي مشروع وحدوي بين الجزائر و ليبيا، و نحتاج فقط لبعض الوقت قصد إثبات أن العملية تحركها أياد خارجية (8).
كان الرئيس بن جديد في حالة امتزج فيها الغضب مما وقع، و الأسف لما يحدث، و الخوف مما هو آت، فطلب من العميد بلخير أن يقيد هذه النقطة في البيان الذي سيصدر عن المكتب السياسي، إلا أن رشيد بن يلس تدخل مرة أخرى و قال : أن فرضية وجود مؤامرة تحركها قوة أجنبية يجب أن لا تصدر ضمن بيان المكتب السياسي لأننا غير متأكدين من صحة المعلومة، و أن المكتب السياسي سيفقد كل مصداقية إذا أتثبت التحريات لاحقا أنها ليست مؤامرة (9).
نظر الرئيس بن جديد إلى رشيد بن يلس و كأنه لم يعجبه ما قله، لكن نظرا لعلاقة الصداقة الطويلة التي جمعت بين الرجلين القادمين من نفس المؤسسة (الجيش الوطني الشعبي) تخطى الرئيس بن جديد هذا الأمر بلباقته المعهودة، و طلب من أعضاء المكتب السياسي أن يقدموا رأيهم واحدا، واحدا فيما يخص ثلاث نقاط هي :
أولا: إعلان حظر للتجول.
ثانيا : تدخل الجيش.
ثالثا : استدعاء اللجنة المركزية لدورة استثنائية.
أغلبية أعضاء المكتب السياسي فضلوا السكوت و عدم تزكية هذه الإجراءات الخطيرة، بينما فضل البعض الأخر أن يربطوها بعنق الرئيس فقالوا : نحن مع أي قرار يتخذه الرئيس، بينما رشيد بن يلس و قاصدي مرباح كانا الوحيدان اللذان عارضا مسألة إقحام الجيش في قضية استعادة الأمن العمومي، لأنهما عسكريان يعلمان جيدا أن الجيش غير مؤهل تماما للقيام بمثل هته العملية داخل مدن تعج بالمدنيين، و أن الأمر سينتهي بإراقة بحر من الدم، سيتحمل الجيش مسؤولية إراقته، بينما ما يحدث قضية سياسية لا دخل للجيش فيها، فكيف يطلب من الجيش قمع تمرد شعبي تسببت فيه قوى سياسية و إدارية عجزت عن أداء مهامها كما قاله الرئيس الشاذلي في خطاب 19 سبتمبر.
انتهى اجتماع المكتب السياسي دون الخروج بأي قرار فيما يخص النقاط التي اقترحها رئيس الجمهورية، و انفض أعضاء المكتب السياسي و هم لا يدرون ما يدور حولهم.
قبل أن يغادر أعضاء المكتب مقر رئاسة الجمهورية، طلب منهم مدير ديوان الرئيس المداومة في مكاتبهم و البقاء على اتصال دائم بديوان الرئاسة، ثم اجتمع الرئيس بن جديد بالعميد بلخير في مكتبه.
خلال هذا الاجتماع أمر رئيس الجمهورية أن يتم الاتصال بمولود حمروش و يطلبون منه العودة للرئاسة فورا (للعلم فقط أثناء حدوث هذه الكارثة كان الأمين العام لرئاسة الجمهورية و أغلبية مساعديه غائبون عن مناصبهم) و قرر تشكيل خلية أزمة تضم : محمد الشريف مساعدية، عبد الحميد الإبراهيمي، الهادي لخذيري، برئاسة العميد العربي بلخير على أن يكون مقرها في رئاسة الجمهورية، و يكون عملها مفتوحا، و تبقى مجتمعة بدون انقطاع على أن تمده بالمعلومات و لا تتخذ أي قرار دون الرجوع إليه.
توالت التقارير القادمة من وزارة الداخلية، لترسم صورة سوداء قاتمة لما يحدث في العاصمة، التي حسب هذه التقارير قد احترقت عن بكرة أبيها، و أبلغ الرئيس أن قوات مكافحة الشغب التابعة للمديرية العامة للأمن الوطني، استقدمت من ولايات مجاورة مثل البليدة تيبازة و بومرداس، قد بدأت فعلا في الاحتكاك بالمشاغبين. في حدود الساعة 03 بعد الظهر ، أي أن العاصمة منذ الساعة 10 صباحا حتى الساعة 3 بعد الظهر كانت تحت رحمة المتظاهرين الذين دمروا و أحرقوا مقرات الخطوط الجوية الجزائرية و الأجنبية، و كسروا كل الواجهات الزجاجية للمحلات و أحرقوا أسواق الفلاح بعد نهب ما فيها، كما لم تسلم منهم الإدارات و مقرات الشركات الوطنية و مقرات حزب جبهة التحرير الوطني.
جدد وزير الداخلية طلبه الخاص باستدعاء الجيش، لاستتباب الأمن و النظام العمومي، لأن هناك بوادر توحي بأن أعمال الفوضى ستنتشر في كامل أرجاء الوطن.
أمام هذه الوضعية الاستثنائية طلب الرئيس الشاذلي، من مدير ديوانه استدعاء رئيس أركان الجيش اللواء عبد الله بلهوشات ، و قائد القوات البرية العميد خالد نزار، لدراسة إمكانية قيام الجيش بمهمة استتباب الأمن، و بعدها بوقت يسير وصل الرجلان إلى مقر الرئاسة، و استقبلهما الرئيس بن جديد في مكتبه، كما قامت التلفزة الوطنية بتصوير اللقاء و بثته في نشرة الثامنة من نفس اليوم.
خلال هذا اللقاء الذي حضره كل من :
1- الشاذلي بن جديد رئيس الجمهورية و وزير الدفاع الوطني.
2- العميد العربي بلخير مدير الديوان لدى رئاسة الجمهورية.
3- العقيد محمد مدين رئيس قسم الأمن و الشؤون العسكرية برئاسة الجمهورية.
4- اللواء عبد الله بلهوشات نائب وزير الدفاع و رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي.
5- العميد خالد نزار نائب رئيس أركان الجيش و قائد القوات البرية.
خلال هذا الإجتماع، سأل الرئيس الشاذلي، صديقه القديم و رفيق دربه، اللواء عبد الله بلهوشات رئيس أركان الجيش عن موقف الجيش مما يقع، ففهم بلهوشات مقصد الرئيس، فرد أن الجيش سيقف مع الرئيس، و سيدافع بكل قوة على مؤسسات الدولة، لأنها واحدة من مهام الجيش، كما أن الجيش الذي أتكلم باسمه لن يخذل مؤسسات البلاد مهما حدث.
عندها سأل الرئيس الشاذلي، اللواء عبد الله بلهوشات سؤال ثان حيث قال : كم تحتاج من وقت لنشر أفراد الجيش في كامل العاصمة للسيطرة على الوضع ؟؟؟ فذكر اللواء بلهوشات رئيس الجمهورية أنه العام الفارط (1987) ،قد قرر إخلاء العاصمة تماما من الوحدات القتالية، و أن ما هو متوفر من أفراد يكفي بالكاد، لحماية المنشآت العسكرية، و ليس أمامهم إلا استقدام وحدات من داخل البلاد، لكن هذه العملية تحتاج للوقت، و لتسخير إمكانيات لا يملكها سلاح الطيران.
بدا الوضع أدهم اللون، و شَعَرَ الرئيس الشاذلي، بأنه ارتكب خطأ جسيما، حين أخلى العاصمة و محيطها، من الوحدات القتالية، التي كانت فيها، كما شعر أن كل شيء يسير ضده، حتى مؤسسة الجيش التي كان يعول عليها، ليست في وضعية تسمح لها بالتدخل فورا.
أمام الجو الثقيل الذي ساد المكتب، تدخل العميد خالد نزار ليقول: لا يوجد شيء غير ممكن، و كل شيء في سبيل الجزائر يهون، إذا تم إعطائنا الصلاحية نستطيع أن نستقدم وحدات قتالية، ستكون في العاصمة صباح الغد، و بالموازاة يمكننا أن نضع خطة عمل لتنظيم كيفية دخول الجيش للعاصمة، و كيفية تعامله مع الوضع، نتمنى أن لا نضطر لاستعمال السلاح، و إذا فعلنا فلن يكون إلا للضرورة القصوى، و سنحاول تفادي الخسائر ما استطعنا ذلك.
كان جميع الحاضرين في هذه الجلسة عسكريين، فرئيس الجمهورية عقيد و قائد اسبق للناحية العسكرية الثانية، و عبد الله بلهوشات رئيس أركان الجيش، عسكري شارك في حرب الهند الصينية، ثم التحق مبكرا بجيش التحرير الوطني عام 1955 ، و قضى حياته بعد الاستقلال في ممارسة مهام عسكرية، و العميد خالد نزار نائب رئيس أركان الجيش و قائد القوات البرية عسكري له مشوار طويل في مؤسسة الجيش، و العميد بلخير مدير ديوان رئيس الجمهورية عسكري أيضا، كلهم كانوا يَعُونَ جيدا أن نزول الجيش للشوارع سيليه استعمال السلاح، و استعمال الرصاص الحي داخل مدن مكتظة سيكون لها نتائج غير مرغوب فيها، و مع ذلك كان العميد نزار مستعد لاستعادة الأمن بأقل الخسائر على حد قوله، كما كان باقي الحضور متفهمين أن الوضع يتطلب استعمال السلاح، إذا دعت الحاجة لذلك. كان الرجال الأربعة و بالأخص الرئيس يشعرون بمرارة أن يضطر الجيش، الذي مهمته حماية الشعب، أن يطلق النار على الشعب، الذي هو جزء منه، لكن الوضعية كانت لا تسمح، و لا تترك أي مجال للمشاعر.
طلب الرئيس الشاذلي، من اللواء بلهوشات، و العميد نزار البقاء على اتصال به، على أن يعلمهما، قبل نهاية اليوم بما قرره فيتحركان وفق ذلك، و لكنه أعلمهما مسبقا أن بلهوشات، سيتولى إدارة حالة الحصار، في كامل التراب الوطني باستثناء العاصمة التي سيتولى أمرها خالد نزار.
وسط هذا الجو الثقيل، الذي لم يعد أحد يستطيع تحمله، جاءت إخبارية من وزارة الإعلام، مفادها أن القنوات الفرنسية بدأت تبث صورا حية للخراب، الواقع في العاصمة الجزائرية، و خصصت جزء طويل منها لمهاجمة الجزائر، و بث الرعب بين أواسط الشعب، من خلال نشرات إخبارية مغرضة للغاية، كما أن وزير الخارجية الفرنسي رولان دوما (10) أدلى بتصريح مقتضب للصحافة، عبر فيه عن الموقف الرسمي الفرنسي، و قال بأن الحكومة الفرنسية، تتابع ما يحدث و سيكون لها موقفها، حين تكون لديها المعطيات التي تمكنها من فعل ذلك (كان وزير الخارجية الفرنسي حينها، في زيارة عمل لمملكة إسبانيا و أدلى بتصريحه من إسبانيا) (راجع نشرة الأخبار للقناة الفرنسية الثانية بتاريخ 05 أكتوبر 1988).
ازداد التوتر داخل مكتب الرئيس، و شعر الجميع أن الجزائر مستهدفة في صميمها، و لم يبقى أي مبرر يمنع اتخاذ إجراءات سريعة جدا لتدارك الوضع، و في حدود الساعة التاسعة ليلا اجتمعت خلية الأزمة بكامل أعضائها تحت رئاسة رئيس الجمهورية، لتستمع لأخر التقارير الواردة من الداخلية و المندوبية العامة للمباحث و الأمن، التي كان على رأسها العميد مجذوب لكحل عياط(11)، ثم أخذ الرئيس الكلمة و قال : لم يعد هناك أدنى شك، إنها مؤامرة تحركها أياد خارجية، و لا يمكنني كرئيس مسئول على الأمة، أن أبقى مكتوف اليدين، بينما الجزائر تحترق لذلك قررت ما يلي :
1- إعلان حالة الحصار.
2- تكوين خلية عسكرية برئاسة مدير الديوان مهمتها، متابعة استقدام الوحدات القتالية للعاصمة.
3- تعيين اللواء عبد الله بلهوشات مسئول عن حالة الحصار في كامل التراب الوطني.
4- تعيين العميد نزار مسئول على حالة الحصار في الجزائر العاصمة.
بعد هذا الاجتماع، غادر الرئيس الشاذلي العاصمة، متجها نحو الإقامة الرئاسية في زرالدة.
شكل العميد خالد نزار، هيئة أركان خاصة بتسيير حالة الحصار، و جعل من قيادة القوات البرية بعين نعجة مقرا لها، بينما أنتقل هو ليلا إلى مقر رئاسة الجمهورية، لتنسيق العمل مع مدير ديوان رئيس الجمهورية، و وضع خطة لاستقدام وحدات من داخل البلاد (12).
اتفق العميد بلخير و العميد نزار على استقدام 10 ألاف عسكري (أي ما يعادل فرقة كاملة) و حوالي 200 آلية من دبابات و عربات مصفحة، لتأمين العاصمة كاملة، و تم وضع نقاط تمركز وحدات الجيش، و حددت بدقة الوحدات التي يمكن استقدامها للعاصمة، و على رأسها القوات الخاصة، و لم يبقى إلا كيفية نقل هذه القوات لتكون في العاصمة صباح يوم 06 أكتوبر (13).
أمام عدم مقدرة طائرات النقل العسكرية، تغطية عملية كبيرة كهذه، اقترح العميد نزار الاستعانة بطائرات الخطوط الجوية الجزائرية، كإجراء استعجالي تخوله الصلاحيات الخاصة، التي منحها الرئيس الشاذلي للجنة تسيير حالة الحصار. اتصل العميد العربي بلخير، بوزير النقل السيد رشيد بن يلس، و طلب منه أن يضع كل طائرات الخطوط الجوية الجزائرية تحت تصرف وزارة الدفاع، لنقل وحدات من الجيش نحو العاصمة، حتى و لو تطلب ذلك إلغاء بعض أو كل الرحلات الداخلية، و حتى الرحلات الدولية إذا تطلب الأمر ذلك، و كان السيد محمد الشريف مساعدية، قد اتصل ببن يلس قبل أن يتصل به العميد بلخير، ليعلمه أن خلية الأزمة قررت إعلان حالة الحصار، نظرا للوضعية الخطيرة التي آلت إليها الأوضاع الأمنية، فاتصل وزير النقل بالمدير العام للخطوط الجوية الجزائرية، و أمره بإلغاء جميع الرحلات الداخلية، و تخفيض عدد الرحلات الدولية، مع تحويل كل طائرات الخطوط الجوية الجزائرية، الناتجة عن هذا الإجراء و وضعها تحت تصرف قيادة الجيش، و بهذه الطريقة تمكنت قيادة الجيش المشرفة على تسيير حالة الحصار، من نقل الجنود من داخل البلاد للجزائر العاصمة، بينما تولت طائرات النقل العسكرية عملية نقل المعدات و الذخائر (14).
في هذه الحالة الشبيهة بالاستنفار العام، و التأهب العام، و الحذر الشديد لدخول المجهول، انتهى اليوم الأول من أحداث أكتوبر، و كبار المسئولين في الحزب و الجيش و الدولة، ساهرون في مكاتبهم، مصابون بالأرق من هول ما وقع و ما يقع، و متوجسون خيفة مما سيقع، فلا الرئيس الشاذلي غمض له جفن في إقامته بزرالدة، و لا الجماعة في رئاسة الجمهورية تفرقوا كعادتهم، و لم تنطفئ أضواء المكاتب لا في إقامة زرالدة، و لا في رئاسة الجمهورية، و لا في وزارة الدفاع و لا في وزارة الداخلية، و لا في المديرية العامة للأمن الوطني، و بقيت كل الهيئات الرسمية العسكرية و المدنية، تحبس أنفسها، لتستيقظ الجزائر في 06 أكتوبر على يوم جديد، سيغير تاريخ الجزائر المستقلة للأبد.
يتبع
الهوامش :
1- قال بعض المعارضين للنظام، أن أوامر سرية صدرت للشرطة بإخلاء المقرات، لذلك لم يظهر أي أثر للشرطة، أثناء وقوع الأحداث، بينما الحقيقة أن 70 بالمائة من قوات الشرطة، كانت منتشرة في منطقة باش جراح و الرويبة أين بدأت المظاهرات منذ 01 أكتوبر 1988.
2- المصدر رسمي و أكده وزير النقل حينها رشيد بن يلس.
3- مصادر رسمية متعددة.
4- الهادي لخذيري : مجاهد و مناضل وطني، نائب المدير العام للامن الوطني من 1964 إلى 1977، ثم مدير عام الأمن الوطني من 1977 إلى 1987، ثم وزير الداخلية من 1987 إلى 1988، ثم وزير للنقل من 1988 إلى 1989.
5- عبد المجيد بوزبيد : مجاهد و إطار سامي و من مؤسسي سلك الشرطة، نائب مدير عام 1977 إلى 1987، ثم مدير عام للأمن الوطني من 1987 إلى 1989.
6- مصدر خاص.
7- مصدر خاص.
8- نفس المصدر السابق.
9- نفس المصدر السابق.
10- رولان دوما : طبيب و صديق خاص للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتيران، شغل منصب وزير لخارجية فرنسا من 1984 إلى 1986 ثم من 1988 إلى 1993.
11- العميد مجذوب لكحل عياط: مجاهد و عسكري تولى قيادة الأمن العسكري من 1983 إلى 1988.
12- راجع تصريحات اللواء خالد نزار حول أحداث أكتوبر.
13- مصادر خاصة مختلفة.
14- المعلومة أكدها وزير النقل حينها العميد رشيد بن يلس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق