الأحد، 14 يونيو 2015

المّن والسلوى وقصة الخروج الإسرائيلي الوليمة الطقوسيّة الناقصة .... بقلم المفكرالعربي فاضل الربيعي

سألني أحد متابعي صفحتي عن قصة ( المن والسلوى) في التوراة والنصوص الدينية الأخرى، وارتباطها بما يعرف ب( الخروج الإسرائيلي).
وهنا جواب مقتضب بحسب ما تسمح به ظروف النشر في صفحتي:
لقد انصبّت المحاولات القديمة والمعاصرة، لايجاد تأويل لغوي مقبول لمعنى الاسم ( المنّ) والكلمة الأخرى ( السلوى) في مسعىّ أعم، للربط بين مضمون الاسم وقصة الخروج. ونحن نعلم من القراءة الدينية للتوراة ولقصص القرآن، ان بني إسرائيل أصابهم الجوع في رحلة الهروب من مصر، وأن الله اطعمهم المن؟ للاسف، سائر هذه المحاولات انتهت إلى مأزق غير قابل للحل، فلا مضمون محدداً وواضحاً لأيّ من الكلمتين. كانت محاولة صديقي العالم الجليل رئيس المجمع اللغوي الليبي ( الشركسي الأصول) ابن مصراتة الليبية الدكتور علي فهمي خشيم، واحدة من أفضل المحاولات اللغوية وأكثرها ريادة، إذ بفضل معرفته العميقة بأسرار الهيروغليفية، اعتقد خشيم أن للكلمة صلة ب( المنو) أي البخور. وهكذا، لم يعد هناك أي مضمون للاسم له صلة بالجوع ؟ فهل من المنطقي أن الله يرسل البخور للجياع من عبّاده؟
لكل ذلك، لا بد من البحث خارج نطاق التأويل اللغوي، والتوغل عميقاً في مضمون أسطورة الخروج وحصول الجياع على المن والسلوى؟
لنلاحظ أولاً ، ان لا وجود لأي صورة في نص سفر الخروج، يمكن أن يفهم منها أن هناك جياعاً أو ضائعين في الصحراء. إن النصّ العبري واضح كل الوضوح، أمّا النص العربي فهو نتاج تزوير وتلفيق جديد- قديم. لا يوجد في النص العبري على وجه الإطلاق اسم سيناء، أو كلمة صحراء، او ( تيه) أو أن بني إسرائيل كانوا جياعاً تائهين؟ إن شكواهم وتذمراتهم من شقاء الرحلة، وحنينهم للأرض التي تركوها وهي أرض خصبة ( ثومها وبصلها كما في القرآن) تؤكد أنهم لم يكونوا جياعاً؛ بل كانوا يشعرون بشقاء الرحلة- الهجرة من أرضهم القديمة إلى أرض موعودة.
ولنلاحظ ثانياً، إن المن والسلوى كطعام هبط من السماء، وهذه صورة نموذجية للمائدة السماوية المقدسة التي تكتمل فيها طقوسية الخروج. وبالفعل؛ فإن الصورة التوراتية عن الطريقة التي جمع فيها بنو إسرائيل طعام ( المن) الذي هبط من السماء، ووضعها في نوع من السلال المصنوعة من ورق الشجر، تدّلل على أنه نوع من الحبوب (حبّة الرز). وما يلفت الانتباه، أن ثمة صلة بين اسم ( المن) وهو ( المنو) في السومرية أيضاً، وبين الرز، ذلك أن المن استخدم عند السومريين والبابلييّن كوحدة وزن للقمح والرز ولسائر الحبوب، وحتى اليوم يقال يستخدم أهل الجنوب في العراق ( المن) كوحدة وزن للرز. وهو كيلة واحدة منه. بهذا المعنى، يمكننا أن نجد مضمون الكلمة من داخل النسيج الطقوسي وليس من نسيج المفردة ذاتها. لقد أرسل الله للحجاج بقيادة موسى، مائدة سماوية مؤلفة من الرز. وهذا هو أساس كل وليمة مقدسة قديمة( حتى اليوم ينثر الرز في الكنائس في بعض الأعياد). وحبّة الرز- القمح، ذات مضمون دلالي خاص: الخصب.
ولنلاحظ ثالثاً، أن سفر الخروج يتضمن صوراً مدهشة من طقوس تقديم الذبيحة. لقد كان موسى يأمر بني إسرائيل بتقديم الثيران للذبح. وهكذا كان بنو إسرائيل يأكلون لحوم الأضاحي فقط دون رز. أنها وليمة طقوسيّة ناقصة، غير مكتملة، أي غير طاهرة، وهي لن تكتمل إلا بالحبوب؟ ولذا ارسل الله لهم من السماء ( المنو) ليعلمهم كيفية إعداد الوليمة المقدسة: اللحم والرز.وهكذا، فقصة المن والسلوى تروي بلغة رمزية، البدايات الأولى لتعلّم الإنسان في المنطقة كيفيّة إعداد الوليمة المقدسة في طقوس الحج. اللحوم والحبوب. لنتذكر أن الإخباريات العربية تروي عن إبراهيم النبي أسطورة بحثه عن ابنه إسماعيل، وكيف أنه سأل زوجة إبنه عن طعام وكانت من جماعة تسسمى العماليق ( عمليق في التوراة)؟ فقدمت له اللحم، فعاد يسألها: أليس لديك رز؟ وهكذا أيضاً، تروي أساطير الإخباريين في الجاهلية والإسلام، القصة القديمة ذاتها : الوليمة الطقوسيّة الناقصة. لقد أعدت زوجة إسماعيل وليمة طقوسية ناقصة، أي غير طاهرة، ولذا طلب إبراهيم من إسماعيل أن يطلق امرأته ويتزوج إمرأة من جُرْهُم. وحين زارها إسماعيل قدمت له الطعام بطقوسيته الصحيحة : اللحم والرز.
قصة المن والسلوى، يجب أن تفهم في هذا الإطار. السلوى هي بهجة الحجاج باكتمال عناصر الوليمة الطقوسية بعد ان هبط المن من السماء. لقد أصبحت الحبوب في كل العقائد القديمة، مقدسة بفضل هذا الجانب الحيويّ من وظيفتها في الوليمة الإلهية.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...