الثلاثاء، 23 يونيو 2015

النسيء... بقلم الباحث ابن فرناس


النسيء كلمة ذكرت في القرآن مرة واحدة وفي سورة براءة التي نزلت قبل وفاة رسول الله ببضعة أشهر، وضمن حديث يخاطب قريشاً ويشنع عليها بعض أفعالها. فتحول في هذه الأيام إلى "تقويم" من إقامة الشيء وتعديله، ووضعوا له نظرية سأسميها هنا نظرية "النسيء المبتدعة". 
ونحن هنا سنحاول أن نفهم بعض ما تعتمد عليه نظرية "النسيء المبتدعة" التي تلقفها بعض الناس، وذلك بإيراد بعض ما تقوم عليه، كما يلي:

  • نظرية "النسيء المبتدعة" تقوم على أن هناك إعجاز عددي في القرآن، لأن من قال بها مغرم بالمعادلات الرياضية ويريد أن يطبق معارفه على القرآن أو يريد أن يجد في القرآن ما يؤيد ميوله.

ومما يقولون في هذا المجال "أن كلمة (شهر) ذكرت في القرآن: (12) مرة بالتحديد. وكلمة (يوم) ذكرت في القرآن (365) مرة بالتحديد".

وهذا الكلام منقول عن مستشرق ألماني اسمه فلوغل (Gustav Leberecht Flügel) والمتوفى عام 1870.

ومن نقل كلام "فوغل" لم يتحقق منه وإلا لوجد أن فيه مغالطات وغير صحيح.

فكلمة (يوم) ترد في القرآن (264) مرة وليس (365).

وكلمة (اليوم) ترد في القرآن (74) مرة، وكلمة (يومئذ) ترد في القرآن (67) مرة. وكلمة (ليوم) ترد (7) مرات. وكلمة (يوما) ترد (14) مرة، وكلمة (يومين) ترد (5) مرات، وكلمة (يومكم) ترد (5) مرات، وكلمة (يومهم) ترد (5) مرات. وبمجموع كلي يساوي (441) مرة.

** ولمن يرغب يمكنني أن أمده بالسور والآيات ليتأكد بنفسه.

إذا، أول عملية حسابية يعتمد عليها من يقول بنظرية "النسيء المبتدعة" بطلت.

وهناك موضوع سبق نشره يؤكد أن القرآن لا يحتوي على أي إعجاز عددي أو علمي، وهذه المزاعم تتهاوى باستمرار.

  • نظرية "النسيء المبتدعة" تقوم على أن معركة اليرموك حدثت يوم 20/8/ 636 والتي جعلوها توافق 5/ 7/ 15 هـ.

والمصادر الغربية التي تتحدث عن معركة اليرموك هي حديثة وليس هناك أي كتابات غربية قديمة معاصرة لمعركة اليرموك. ولعل من أول من تحدث عن المعركة من الغربيين هو ثيوفانيس المعترف (ت 818) أي بعد معركة اليرموك بحوالي 200 عام. ولابد أنه استمد معلوماته من المصادر العربية، مثله مثل كل الغربيين الذين كتبوا فيما بعد عن معركة اليرموك.
ولا يوجد أي سجل روماني معاصر للمعركة على الإطلاق، إلا إذا كان ف طهاليز مكتبة الفاتيكان وغير متوفر للإطلاع عليه.  

ومعركة اليرموك في المصادر العربية مختلفة، فقد قيل وقعت في العام 13 هجري وقيل في العام 15.

وممن قال بأنها وقعت في العام 15 هو ابن كثير في البداية والنهاية. وقد توفي في العام (774 هـ / 1373 م) أي أنه توفي بعد المعركة بحوالي (760 سنة) وهذا بعض ما قال عن وقعة اليرموك: "على ما ذكره سيف بن عمر في هذه السنة قبل فتح دمشق وتبعه على ذلك ابو جعفر بن جرير رحمه الله واما الحافظ ابن عساكر رحمه الله فانه نقل عن يزيد بن ابي عبيدة والوليد وابن لهيعة والليث وابي معشر انها كانت في سنة خمسة عشرة بعد فتح دمشق وقال ممحمد بن اسحاق كانت في رجب سنة خمس عشرة وقال خليفة بن خياط قال ابن الكلبي كانت وقعة اليرموك يوم الاثنين لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة قال ابن عساكر وهذا هو المحفوظ واما ما قاله سيف من انها قبل فتح دمشق سنة ثلاث عشرة فلم يتابع عليه". 7/4

فابن كثير ينقل كلاما منسوبا لعدد من الأشخاص الذين هلكوا قبله بفترة طويلة من أن المعركة وقعت سنة 15، فهل كان دقيقا فيما روى؟

سنورد لكم كلاما مما ورد في البداية والنهاية يظهر أن ابن كثير حاطب ليل يحشوا كتابه بما تقع عليه يده دون تمحيص، وهذا بعض ما قال:

وقد اختلف في وفاة أبان بن سعيد هذا فقال موسى بن عقبة ومصعب بن الزبير بن بكار وأكثر أهل النسب قتل يوم أجنادين يعني في جمادى الأولى سنة ثنتي عشرة وقال آخرون قتل يوم مرج الصفرسنة أربع عشرة وقال محمد بن اسحاق قتل هو وأخوه عمرو يوم اليرموك لخمس مضين من رجب سنة خمس عشرة. وقيل إنه تأخر إلى أيام عثمان ... ثم توفي سنة تسع وعشرين. 5/ 339

فهو أورد أربعة تواريخ متضاربة عن وفاة أبان ابن سعيد المشهور.

وابن جرير الطبري (ت 310 هـ/ 923) يتحدث عن معركة اليرموك في تاريخه ضمن أحداث سنة 13 للهجرة، أي أنها وقعت في العام الذي توفي فيه أبو بكر. وهذا يظهر عدم دقة ابن كثير فيما نسبه لابن جرير الطبري أو لغيره، حين قال إنه قال أن المعركة وقعت في العام (15).

ووقوع المعركة في العام (13) أقرب للصواب، لأن خالد ابن الوليد كان هو القائد الأبرز في تلك المعركة. ولو كانت اليرموك عام (15) للهجرة فلن يشارك فيها خالد ابن الوليد، لأن عمر ابن الخطاب قد عزله في بداية خلافته ومنعه من الاشتراك في حروب المسلمين حتى مات.

إذا، معركة اليرموك لم تقع في العام 15 ولا في العام 636 للميلاد. وبالتالي فبداية بناء نظرية "النسيء المبتدعة" خيالي ولا وجود له.

  • ثم نأتي للوغاريتمات التي تحسب بها نظرية "النسيء المبتدعة" ولن أتحدث عنها لأني لم أفهم منها شيء. ولكني بانتظار شرح لها من القراء العباقرة لعل بينهم واحد يستطيع فهمها.

والعرب أمة لا تحسب وهو ما انعكس على اللغة العربية الفقيرة جدا في أسماء الأعداد، وتتوقف عند رقم الألف (1000). فليس هناك اسم (كلمة واحدة) للعشرة آلاف أو مئة ألف أو ألف ألف أو ما بعدها. بعكس اللغة الإغريقية الغنية بالأرقام سواء الكبيرة منها والتي بالملايين أو عشرات ومئات وألوف وملايين الملايين، أو بأجزاء الواحد.

إضافة إلى أن العرب يحسبون أيامهم على القمر الذي يرون هلاله بأعينهم ويرونه ينتهي في آخر الشهر بما يسمى "المحاق".  ويعرفون أن السنة (12) شهرا لها أسماء عندهم ولا حاجة لهم بأن يضيفوا شهرا إضافيا عليها كل ثلاث سنوات وبدون اسم.

وزراعتهم تعتمد على النجوم والأبراج فهي التي يعرفون بواسطتها دخول المواسم للزراعة ولفصول الحر والبرد والأمطار. ولا حاجة لهم أبدا لمعرفة السنة الشمسية التي لا يفهمون حسابها ولا يحتاجون لحسابها.

  • ومصطلح التقويم القمري أو التقويم الشمسي اصطلاح استخدم حديثا يعني جدول الأيام والشهور كبديل يقابل روزنامة في الفارسية أو Calendar في الإنجليزية.  ولم يكن يستخدم عند العرب ولا يعني التاريخ. وليس هناك مصطلح عربي معروف يقول: " التقويم السنوي للأشهر بمعنى إعادة الأشهر التي تنحرف عن أماكنها الموسمية" وإنما هذه العبارة يستخدمها من يؤمن بنظرية "النسيء المبتدعة".

فهل هناك في لغة العرب مصطلح الشهر النسيء؟

وهل ثبت عن العرب قديماً أنهم كانوا يضيفون شهراً للأشهر القمرية ويسمونه النسيء؟

نحتاج ممن يقول بذلك أن يسند كلامه بمصادر موثوقة لأن كلامه الشخصي لا يكفي.  

  • وجل أو كل الآيات التي يستشهد بها أصحاب نظرية "النسيء المبتدعة" اقتطعت من السياق وتم تأويلها لمعان غير معناها لتتوافق مع ما يراد الاستشهاد بها.  

وبمجرد إعادة الآية إلى سياقها سيتغير المعنى ويعود للمعنى الأصلي للآية قبل تأويله من قبل أصحاب نظرية "النسيء المبتدعة".

كما أن محاولة القول بأن أسماء الأشهر القمرية العربية سميت نسبة لمواسمها غير صحيح وسبق وتحدثنا عنه في عدة مواضيع. ومن ذلك قولهم إن رمضان من تسمية العرب لأول مطر يهطل بعد الصيف في بداية فصل الخريف بالنسبة لهم شمال خط الإستواء وبداية فصل الربيع جنوباً أما على خط الإستواء فيكون بداية فصل الحر (الرمض) بالنسبة لسكان المناطق الإستوائية.فمتى سكن العرب القدماء خط الاستواء؟

هنا عدة مغالطات، منها:

القول بأن رمضان من تسمية العرب لأول مرة يهطل المطر بعد الصيف!

فهل سمى العرب أول مطر برمضان؟

الجواب: كل ما قيل هو مجرد اختلاق قيل في العصر العباسي، ولا أساس له، وهو مختلف ومتخالف.

ومن ذلك ما ينقله صاحب لسان العرب من أن ابن دريد قال: لما نقلوا أَسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأَزمنة التي هي فيها فوافَقَ رمضانُ أَيامَ رَمَضِ الحرّ وشدّته فسمّي به.

وابن دريد توفي في العام 321 هجرية فمن اين عرف أن العرب في غابر الأزمنة سموا رمضان لأنه وافق رمض الحر. ومثل اختلاق ابن دريد ما أورده صاحب لسان العرب عندما قال: وشهر رمضانَ مأْخوذ من رَمِضَ الصائم يَرْمَضُ إِذا حَرّ جوْفُه من شدّة العطش... ويكون لدينا ثلاث تسميات لرمضان كلها نختلفة وكلها مختلقة في العصر العباسي وبعدما أصبح رمضان شهر الصوم. 

ولم يرد أن هطول المطر لأول مرة بعد الصيف يسمى رمضان كما يقول من قال بنظرية "النسيء المبتدعة".كما أن العرب القدماء لم يسكنوا خط الاستواء . 


وباختصار فهذه النظرية لا يمكن أن تصمد لأنه ليس لها أساس تقوم عليه سوى تخريجات من قال بها وهي تخريجات فيها تعسف ولو بسطت لتهاوت. وترديدها من البعض لا يعني أنها صحيحة، لأن وسائل التواصل الاجتماعي خلقت طبقة من مثقفي المقالات، الذين كلما قرأوا مقالا غريبا عليهم اعتنقوه ولو لم يفهموا عمقه أو يتحققوا من صحته لأنه لا قدرة لديهم على التحقيق.

ومع ذلك فكل ما تقدم هو مجرد كلام لابن قرناس مقابل كلام ممن يقولون بنظرية "النسيء المبتدعة". لذا لابد من قول فصل لا مرية فيه، وهو كلام رب العالمين. وذلك بالعودة لقراءة الآية التي ذكرت النسيء بسياقها لنتعرف على المقصود بالنسيء بعيدا عما قال عنه البشر.

يقول تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(37) براءة.

  • السورة نزلت قبل وفاة الرسول ببضعة أشهر.
  •  السورة نزلت في مجملها لتعطي قريشا فرصة للتراجع عن خيانتها للمسلمين وإلا فسيلاحقون ويقتلون. وتفرض عليهم بعض العقوبات وتفضح مخططاتهم. 
  • والآية (36) تؤكد بخطاب تقريري أن عدة الأشهر (التي يعرفها المخاطب قريش والمسلمون) هي (12) شهرا فقط لا غير. بدون إضافة شهر كل ثلاث سنوات ولا أيام، ولا حتى ساعات. 
  • والأشهر الاثنا عشر التي يمكن لسكان مكة ومعظم جزيرة العرب مشاهدتها هي الأشهر القمرية التي تعتمد القمر الذي يرون بأعينهم دون حاجة للحساب والرياضيات التي يجهلون.

ومن هذه الأشهر أربعة أشهر حرم.

ثم تواصل السورة لتقول في الآية (37):

النسيء زيادة في الكفر. بدون تكلف ولا تعسف. النسيء كفر يضاف على كفر موجود.

هذا الكفر المضاف يَضِلُ به الذين كفروا (قريش الذين تتحدث عنهم السورة والذين يتولون أمور الحج) فهو ضلال على ضلال وكفر على كفر.

ما هو النسيء؟

هو شهر حرام يحلونه عاماً ويعيدونه لحرمته في العام التالي.
وليس هناك شهر يضاف وشهر يحذف كل كم سنة، أو شهر ينقل من مكانه إلى مكان آخر في ترتيب الشهور. وليس هناك حسابات معقدة على الإطلاق.

والآية تتحدث عن الأشهر الاثنا عشر والتي منها أربعة حرم. والنسيء إحلال شهر محرم هذا العام، وإعادة تحريمه في العام التالي كما أسلفنا.

الحديث سهل وواضح ومباشر.

إذا كان الأمر كذلك!

فلماذا كانت قريش تفعل ذلك؟

"لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ".

الأشهر الحرم أربعة لكن لو أحلت قريش أحدها في عام، فإنهم بهذا واطأوا عدة ما حرم الله.
تلاعبوا بعدد الأشهر التي حرم الله، احلوا شهرا حرمه الله، وجعلوها ثلاثة بدل أربعة.

هذا كل شيء! دون حاجة للرجوع لقراءة ورش المتوفى في العام 179 للهجرة وبعدما تلاعب الناس بالدين.

يا جماعة التغريب جيد في أشياء مثل اللبس وآداب المائدة ونظام المرور والتعليم وسيادة القانون وأشياء كثيرة، لكن لا ندع بهرجة الحضارة الغربية تفسد علينا ما نملك من روائع.
خاصة إذا كانت عباداتنا الإسلامية تعتمد عليها. ومن ذلك محاولة تغريب الأشهر القمرية بعدما غربنا توقيتنا الغروبي وأضعنا متى يبدا يومنا من ليلنا.

وأتمنى أن يتوقف بعض الكتاب عن التلاعب بعبارات القرآن والبحث عن معان شاذة وثانوية للكلمات لأنها شوشت كثيراً المعرفة على جيل ثقافة النت. فاتقوا الله في أنفسكم خاصة أن لديكم القدرة على النبوغ في بحوث أكثر جدية ومنفعة للأمة ديناً أو دنيا.

والسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...