الأربعاء، 29 يونيو 2016

افلاس دول العرب ... أنظمة الحكم مخدومة داخليا خادمة خارجيا ............. المفكر أبو يعرب المرزوقي

إذا أفلست تونس -وجل بلاد العرب مفلسة اقتصاديا بسبب هشاشة بناها الإنتاجية-فلا ينبغي ان نعتبر ذلك بسبب السرقات المباشرة فـحـسب على كثرتها.وحتى الاقتصاد الموازي على كبر حجمه فإنه لا يفسر إفلاس تونس لا قدر الله لأنه عادة يقلل مداخيل الدولة لكنه يسهم في إدارة عجلة الاقتصاد وخلق مواطن شغل وخاصة عندما لا يتعلق بما ينافس المنتوج المحلي.


أسباب الإفلاس أعمق من ذلك بكثير. وهي تقبل الرد إلى ظاهرتين من العسير أن يعترف بهما الساسة والنقابيون الذين يعتبرون الدولة بقرة حلوبا يرضعونها.وقبل ذلك فلأقسم بلاد العرب إلى صنفين: صنف يدعي الحداثة وله أحزاب ونقابات وصنف ما يزال من دونهما ولكن له ما يماثلهما في النهب والسلب كما نحاول وصفه.ذلك أن البنية السياسية والنقابية مثلها مثل ما يوجد لدى بلاد العرب التي لم تتبن ذلك بعد ليست إلا مسارب الظاهرة التي هي داء الاقتصاد العربي كله.فداء الاقتصاد العربي-بنوعي الدول العربية-هو الدولة نفسها وبصورة أدق طبيعةالحكم الذي يجعلها منافية لوظائفها لأنها في الحقيقة أصبحت نظام استغلال للجماعة.وحتى نختصر فلنعتبر أن صنفي الأنظمة العربية هما الـملكية والجمهورية. وكلتاهما فوق القانون والأخلاق. فالأولى ما يزال أغلبها قبلية ببنية تقليدية والثانية ما يزال أغلبها عسكرية وذات بنية حداثية في القمع لا غير.وكلا الصنفين يعتبر من بيدهم مقاليد الحكم فيهما أرباب كل شيء وأصحاب توزيع الثروة والسلطة لصالحهم ولصالح من يدورون في فلكهم باستغلال البلاد والعباد.فهم لا يعتبرون أنفسهم أجراء عند الجماعة بل يعتبرون أنفسهم أربابا والجماعة خدما لهم وثروات الوطن ملكا لهم يوزعونها بينهم وعطاياهم رشاوى لإسكات من يمكن أن يعارض.وحتى يمر ذلك يحافظون على مبدئين شعبويين هما سر الفقر والانحطاط لأنهما ضد العمل السليم لأي اقتصاد سوي: ما يسمونه مجانية الخدمات وخاصة التعليم والصحة ثم دعم السلع والخدمات الأساسية للفقراء.ولما تقتصر على السطح ستقول: فيهم خير فهم يقدمون أهم الخدمات بلا مقابل ويرحمون الفقراء بالدعم. لكن ذلك في العمق هو سبب للفقر وليس علاجا له لانه علة تدني جودة الخدمات بل وصيرورتها اسما بلا مسمى.ففضلا عن كونه يجعل جل الشعب من المعوزين الذين يعيشون على المساعدات غير المباشرة لهذين العلتين فإنهم يبخسون كل جهد وعمل شرطا في ذلك بعدم تطبيق حقيقة الأسعار.وهذا هو العلة الأولى لهشاشة الاقتصاد والفقر أما العلة الثانية وهي أبعد غورا وأعمق فيكمن أن تدركها بمجرد النظر حولك في ما يسمى بالشركات المؤممة بنفس العقلية.ففي العالم كله المؤسسات الانتاجية كائنات حية تولد وتتطور وتموت إذا لم تتكيف مع المحيط الاقتصادي الوطني والعالمي بقدراتها الذاتية. وسر حياتها هو قيمة منتجها وانتاجية عملها.بعبارة اقتصادية حتى لو لم يكن العالم مفتوحا فالسر هو قابلية منتجها للمنافسة ولمطابقة حاجة المستهلك. وهذا ما سيدعونا إلى الكلام في علل أعمق لاحقا.لكن قبل ذلك فعلى أساس اعتبار المؤسسات العامة ملكا لذوي السلطة تتحول إلى مؤسسات توظيف لمن هم منهم أو معهم فوق طاقتها بأضعاف فتفلس: يكفي مثال شركة الطيران التونسية ومثلها كل الشركات العمومية.وحتى الضمان الاجتماعي والصحي والتقاعد فهي تحولت إلى إدارات توظيف نفس المافية الحاكمة سياسيا أو نقابيا ومن كان من تابعيهم بنفس الفائض التوظيفي الذي هو بطالة مقنعة.لذلك فهي كلها مفلسفة أو على أبواب الإفلاس وكل ذلك رضاعة مقنعة للاقتصاد الوطني الذي يزداد غرقا في المديونية والتخلي عن العمل المنتج.والدولة-وهي عندهم أكثر من ملكهم ومثلها ثروات الوطن- تعوض هذه الشركات والمنظمات التضامنية والتقاعدية والصحية ومن ثم فالدولة وإن بصورة مباشرة توظف توابع اصحاب السلطة فوق حاجة الشركات المفلسة.وطبعا فنتيجة ذلك أن مواطن الشغل مهما ضاعفوها لن تكفي لاستخدام كل اليد العاملة التي ليس لها وسائط فتكثر البطالة في بقية الشعب وهو ما ينتج الاقتصاد الموازي.وحتى هذا الاقتصاد الموازي فهو قد أصبح بيد أصحاب السلطة السياسية والنقابية إما مباشرة أو بوصفهم شركاء سريين ليحموا أصحابه في نظام مافياوي بين للعيان.لذلك فهو ليس اقتصادا موازيا منتجا بل هو بالأساس تجارة موازية تعتمد التوريد بالتهريب ما ينتج عنه نكبتان: نقص الجباية ومنافسة الانتاج المحلي.والاقتصاد الموازي الذي من هذا الجنس لا يمكن أن يحصل من دون فساد تام للأمن بمعنييه أي أمن الحدود وأمن الأسواق. الكل يغض الطرف بمقابل يصل إلى مقاسمة المجرمين ثمرات الإجرام.لكن الأخطر من ذلك كله هو الحلول التي هي عين الأمراض: فالحل الأول هو اللجوء للاقتصاد الهش وسريع المردود لكنه غير المنتج لأنه خدمات ثانوية.وفي مقابل ذلك يتم إهمال القطاعات التي تحقق شرطي صلابة الاقتصاد: ما يسد الحاجات الأولية كالزراعة للأمن الغذائي وما يحقق شروط السيادة كالصناعات الاستراتيجية والدفاعية.ومن ثم فـمداخيل الدولة تقسم بين هذين البابين ولا يبقى إلا الفتات لشروط فاعلية الاقتصاد: إشباع ذوي السلطان سواء كانوا أمراء قبيلة أو أمراء جيش وراحتهم ثم تمويل أجهزة حمايتهم. ومن ثم لن يبقى شيء لتمويل الاستثمار.وما يبقى يمول الخدمات المجانية المتدنية التي ذكرت والدعم أعني السببين الأولين لتردي الخدمات وتعميم الفقر لأن الدعم يلغي الانتاج حتما : مثال ذلك ما يحدث للزراعة التي أفلست وقلاها الجميع.فالحكام لا يدعمون من جيوبهم التي تمتليء وفائضها يملأ بنوك سويسرا إلخ... بل حلهم هو بخس المنتجات المحلية ومن ثم قتلها: فالمزارع يفقد دافع الإنتاج لرخص بضاعته.والموظفون الذين ليسوا من أهل الحكم يبخسون أجرهم فلا يعملون ويبحثون عن عمل مكمل لسد حاجاتهم فلا يكون عملهم منتجا أصلا بل هو مجرد دوام.ولما كانت الإدارة والشركات الوطنية والمسؤوليات الكبرى في الأجهزة الحاكمة أي الأمن والجيش والإدارة بيدهم فإن كلها بطالة مقنعة لا تنتج شيئا ينمي ثروة البلاد.ونأتي الآن إلى دور النقابات بصنفيها: المهنية والتابعة لأرباب ما يسمى بالعمل وما هو بالعمل. فهؤلاء مثل الحكام يرضعون الدولة والجماعة على النحو التالي.فجل الموظفين موظفون لدى الدولة وإذن فـدفع مشاركاتهم في نقابة العمال مصدره الدولة. ومن ثم فاتحاد العمال بنبغي ان يكون متواطئا مع أهل الحكم حتى يمولوه.واتحاد أرباب العمل بلا عمل يرضع الدولة والجماعة لأن كل عقود العمل التي يدعي انجازها تأتي من الدولة وهي لا تعطى إلا لمن يستفيد منه الحكام.فتوزع العقود بحسب الجاه ومقدار العمولة التي تعطى للحكام أو لمن هم من ذويهم أو لمن يرضون عنه. ومن ثم فنقابة أرباب العمال متواطئة مع الحكام كذلك.والحكام والمتوطئون معهم بحاجة إلى أمرين حتى يبقوا على هذه الوضعية التي تجعلهم استعمارا داخليا ينهب الجماعة: الحماية الأجنبية والسياسة الشعبوية.فالحماية الأجنبية تحميهم من غضب الشعب وبعض من يريد الإصلاح من نخبه.والسياسة الشعبوية رشاوى وترضيات دنيا للدهماء التي يؤلبونها ضد دعاة الإصلاح.وإذا لم يكف ذلك يحدث ما نراه في مصر وسوريا وفي كل بلاد العرب: يختلقون لهم غولا يسمونه الإرهاب المحتمل ثم الواقع ويلجأون لسلاح الخوف والقمع باسم حماية الدولة التي خربوها.ولما يشعر الشعب بالخوف يصبح طلبه الأول حيوانيا. لن تعنيه الثورة ولا الكرامة ولا الحرية ولا حتى الحد الأدنى من العيش الكريم.تلك حال مصر مثلا.وإذا صمد ولم يقبل رغم الخوف تهدم البلاد كلها على رأسه كما نرى ذلك في سوريا وليبيا ومصر واليمن وكل شعب حاول أن يقاوم كما حدث في كوبا التي أصابها الفقر المدقع.وعندما أضرب مثال مصر فليس ذلك للتحقير بل لأن الظاهرة فيها هي بحجم مصر في الأمة: فما حدث خلال ستين سنة فيها هو في الحقيقة مصداق ما عرضت.لكن كل بلاد العرب رغم اختلاف صنفي الأنظمة القبلية والعسكرية تعيش نفس المأساة. لاوجود لاستراتيجية اقتصادية يكون فيها الحكم خادما لا مخدوما.ولهذه العلة فضلا عن الدواعي العقدية بخصوص الحريتين الروحية والسياسية وضرورة الإصلاح الإسلامي التزمت بالعمل مع الثورة ولو بالكتابة على الأقل.حاولت المساهمة في الحكم ظنا أن الإصلاح يمكن أن يبدأ من الداخل وإن بدور متواضع هو المشورة. لكن ثورة تحقق هذا التغيير الجذري فتنقل الحكم من مخدوم إلى خادم بعيدة المنال وإن كنت أعتقد أنها ليست مستحيلة.فشرطها أن يصبح شباب الثورة مدركا لهذه الحقائق وقد بدأت اليوم فتكلمت في الحلقة المفرغة المتعلقة بالاقتصاد وسأواصل بإذن لله الكلام في في العوامل الأخرى كلما سنحت الفرصة.وعلى كل فعندي ان شباب الثورة ينبغي أن يتعلم معنى العمل على علم سواء في الاجتهاد شرط كل ثورة أو في الجهاد شرط كل تصد للثورة المضادة.لكني لم أصف الإصلاح الاقتصادي الذي أراه علاجا لعلتين: الأولـى لأن الناس ينسون حتى اسم الاقتصاد ويغفلون دعن لالة اسمه. فهو يسمى الاقتصاد السياسي.والسياسي هنا تعني اقتصاد الدولة -لأن بوليس تعني المدينة التي هي الدولة باليوناني-في مقابل الاقتصاد المنزلي في الفلسفة القديمة.وهي لا تعني الاقتصاد بمعنى الانتاج والاستهلاك الماديين فحسب بل هي تعني أمرين آخرين كذلك: سياسة تنظيم موارد سد الحاجات ونظام التوزيع العادل المشجع على سدها.ومعنى ذلك أن الاقتصاد مبني على مفهومين: حاجة مباشرة وغير مباشرة وعمل لسدها مباشر وغير مباشر : والأولان هما معنى العمران البشري والثانيان هما معنى الاجتماع الإنساني في نظرية ابن خلدون. والحاجة بمعنييها تكاد تكون واحدة في كل المجتمعات إذا ما استثنينا ذوي الحاجة الخاصة لكن العمل بمعنيه هو معيار التمييز لأنه هو المنتج المادي والرمزي.تحديد الحاجة ثم انتخاب التكوين التربوي والتنظيم السياسي وأساس ذلك تقديم العمل العلمي والنظري (البحث العلمي) على العمل العملي (تطبيق البحث العلمي) ذلك هو الحل الذي يجعل الحكم خادما لا مخدوما.فيكون الاقتصاد بهذا المعنى جوهر الدولة لأنه يعني أمرين: سياسة وتربية. والثانية تكون المنتج وأدواته وطرقه والثانية تنظم التوزيع الخدماتي والبضائعي وتحمي الحقوق. لكن دورها يعم الأولى لأنها مسؤولة على الحماية والرعاية.لذلك فلا بدمن تأجيل الكلام في إصلاح الاقتصاد بهذه المعاني العميقة بعد أن وصفنا الداء حتى نفرغ من الكلام في فساد الحكم الحائل دون وظيفة التنظيم والتوزيع العادلين.وختاما: فداء الاقتصاد العربي هو فساد الحكم الذي هو علة موجبة وسالبة لأسباب التخلف والهشاشة. والعلة الموجبة هي جعل الدولة مخدومة لا خادمة والعلة السالبة هي اعتبار الجماعة مستعمرة تنهب وتضطهد.,


وهذا الاستعمار مضاعف: هم مستعمِرون للجماعة لكنهم مستعمَرون من حماتهم ولإخفاء ذلك يطبقون سياسة شعبوية تحول دون أي إصلاح ممكن في زمن معقول.ذلك أن أي مصلح صادق سيكون ضحية ديماغوجيا الحكام ونخبهم العميلة فهم ماكنتهم الأعلامية والأمنية سيجعلونه مكروها من الدهماء لأنه يطالب بأمور تبدو مناقضة لمصلحة الشعب ببادئ الراي العامي. فيسهل القضاء عليه أو على الاقل تهميشه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

في النقاش حول ابن باريس.. بقلم نوري ادريس

ثمة موقفين لا تاريخيين  من ابن باديس:  الموقف الاول, يتبناه بشكل عام البربريست واللائكيين,  ويتعلق بموضوع الهوية. "يعادي" هذا التي...